التمييز في الأجور بين الرجال والنساء يمنح كلوديا جولدين جائزة نوبل في الاقتصاد

على مدى القرن الماضي، تضاعفت نسبة النساء العاملات في العديد من البلدان ذات الدخل المرتفع بثلاث مرات. ويعد هذا أحد أكبر التحولات الاجتماعية والاقتصادية في سوق العمل في عصرنا الحديث. وبالرغم من أن المساواة بين الجنسين ليست مجرد حق أساسي من حقوق الإنسان، ولكنها أساس ضروري لعالم ينعم بالسلام والرخاء والاستدامة. لا يزال ثمة اختلافات كبيرة بين الجنسين في سوق العمل، أبرزها التمييز في الأجور بينهما. لذا منحت جائزة نوبل في الإقتصاد للأمريكية كلوديا جولدين لأبحاثها البارزة في تناول إشكالية عدم المساواة بين الجنسين في سوق العمل. وقدمت كلوديا من خلالها أول وصف شامل لدخل المرأة ومشاركتها في سوق العمل عبر عدة قرون.

التاريخ وعلاقته بفهم الفروق بين الجنسين في سوق العمل

على الصعيد العالمي، تعمل حوالي 50% من النساء في وظائف مدفوعة الأجر، بينما بلغت نسبة الرجال حوالي 80%. أي يشغل الرجال أعمالًا بنسبة أكثر من النساء بحوالي 30%، وعندما تعمل المرأة فإنها عادة ما تتقاضي أجر أقل.

على المديين القصير والطويل، يعد فهم الكيفية وأسباب اختلاف مستويات العمالة والأجور بين النساء والرجال أمر مهم للغاية. نظرًا لتعلق تلك الفجوة بأسباب اجتماعية واقتصادية، وبالاستخدام الأكثر كفاءة لموارد المجتمع. إذا لم تتح للمرأة نفس فرصة المشاركة في سوق العمل، أو شاركت بشروط غير منصفة، فهذا يعني  إهدار العمل والخبرة. ومن غير المجدي اقتصاديًا ألا تذهب الوظائف إلى الشخص الأكثر جدراة. كما أن اختلاف الأجر مقابل أداء نفس العمل، يحبط النساء ويحجمهن عن العمل.

أثبتت جولدين من خلال الجمع بين ما بين التاريخ والنهج الاقتصادي، أن عدة عوامل مختلفة أثرت تاريخياً -ولا تزال تؤثر- على العرض والطلب على العمالة النسائية. واشتملت تلك العوامل على الفرص المتاحة للمرأة للجمع بين العمل مدفوع الأجر والأسرة، والقرارات المتعلقة بالتعليم وتربية الأطفال، والابتكارات التقنية، والقوانين والأعراف، والتحول الهيكلي للاقتصاد. وفي المقابل، أتاحت نتائجها فهمًا أفضل لأسباب اختلاف معدلات التوظيف والأجور بين النساء والرجال، وذلك من خلال دراستها التي اشتملت على فترة زمنية قدرها مائتي عام.

إصلاح تشوهات النظرة التاريخية

على مدى القرون القليلة الماضية، شهد المجتمع تغيرات سياسية واجتماعية وتقنية كبيرة. وتمتعت الدول الصناعية المعاصرة بنمو اقتصادي مطرد منذ الثورة الصناعية وحتي اليوم. وقد يكون من السهل أن نعتقد أن مشاركة المرأة في قوة العمل سوف تتبع نفس الاتجاه. ولكن أبحاث جولدين أظهرت عكس ذلك، فقد خلقت فهمًا لكيفية تغير ظروف المرأة مع تحول الاقتصاد من الاقتصاد الزراعي التقليدي إلى المجتمع المعاصر. ومع ذلك، فقد تشوهت بعض السياقات التاريخية الاقتصادية، بسبب عدم ذكر عمل المرأة في المصادر التاريخية. وكان من الضروري برأي جولدين إزالة هذه التشوهات.

تمكنت جولدين من توضيح الصورة العامة من خلال تحليل البيانات التاريخية. وركزت من خلالها على تاريخ الولايات المتحدة، والتي اتضحت الصورة تمامًا من خلالها. فقد تمكنت من تحديد الأنماط الرائدة التي لم تتحدى المعرفة القائمة فحسب، بل وغيرت أيضا وجهة النظر حول الأدوار التاريخية والمعاصرة للمرأة في سوق العمل، والتي شبهته بحرفU.

منحنى على شكل حرف U

قبل نشر كتاب جولدين الرائد في عام 1990، كان الباحثون قد درسوا بيانات القرن العشرين. وخلصوا إلى وجود علاقة ارتباطية إيجابية بين النمو الاقتصادي وعدد النساء في الوظائف مدفوعة الأجر. وبعبارة أخرى، مع النمو الاقتصادي، كان عدد النساء العاملات أكبر. ومع ذلك، نظرًا لإغفال دراسة البيانات الأقدم من هذا القرن، ظلت هذه العلاقة غير واضحة لفترة طويلة من الزمن.

كانت ملاحظة جولدين الأولى هي أن معدلات توظيف النساء توظف بشكل غير صحيح في كثير من الأحيان في البيانات الموجودة. على سبيل المثال، في السابق كان من الشائع أن توثق مهنة المرأة في السجلات العامة على أنها “زوجة”. ولكن حتى لو كانت متزوجة، فمن غير المعتاد ألا تقوم بأي عمل آخر غير العمل المنزلي. فقد اعتادت النساء أن تعملن  جنبًا إلى جنب مع أزواجهن في الزراعة أو في مختلف أشكال الأعمال الأخري كالصناعات المنزلية القائمة على المنسوجات ومنتجات الألبان. ومع ذلك لم يتم تسجيل عملهن بشكل صحيح في السجل التاريخي.

من خلال تجميع قواعد بيانات جديدة باستخدام مسوحات أكثر دقة وقدمًا، وباستخدام الإحصاءات الصناعية والتعدادات، تمكنت جولدين من تصحيح البيانات المتعلقة بمشاركة المرأة في سوق العمل. لقد أثبتت أن نسبة النساء العاملات في الولايات المتحدة كانت أكبر بكثير في نهايات القرن التاسع عشر مما تظهره الإحصاءات الرسمية. على سبيل المثال، أظهرت تصحيحاتها أن معدل توظيف النساء المتزوجات كان أكبر بثلاث مرات تقريبًا من المعدل المسجل في التعدادات السكانية.

ومن خلال الكشف عن بيانات تعود أصولها إلى نهاية القرن الثامن عشر، تمكنت أيضاً من الكشف عن حقيقة تاريخية جديدة مدهشة ومثيرة. فقبل ازدهار التصنيع في القرن التاسع عشر، كانت النساء غير المتزوجات أكثر ميلاً إلى المشاركة في العمل. كان أحد أسباب تغير ذلك هو أن الصناعة جعلت من الصعب على العديد من النساء المتزوجات العمل من المنزل وبالتالي صعبت من الجمع بين العمل والأسرة. وقد وثقت جولدين ذلك بطريقة مبتكرة، باستخدام بيانات من أكثر من عشرة آلاف ربة منزل في فيلادلفيا في القرن الثامن عشر.

وإلى جانب الزيادة المعروفة سابقاً في بداية القرن العشرين، أظهرت جولدين أن مشاركة المرأة التاريخية في قوة العمل في الولايات المتحدة يمكن وصفها باستخدام منحني على شكل حرف U لفترة مائتي عام منذ نهاية القرن الثامن عشر. ولأن النمو الاقتصادي كان مستقرًا طوال هذه الفترة، فقد أظهر منحنى جولدين أنه لا يوجد ارتباط ثابت تاريخيًا بين مشاركة المرأة في سوق العمل والنمو الاقتصادي. وبأي حال من الأحوال لا يقتصر هذا الوضع على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل يوجد في العديد من الدول الأخري.

وتتيح هذه الأفكار إمكانية رسم خريطة أفضل لمكانة المرأة في سوق العمل على المستوى الدولي وفهمها. وبعبارة أخرى، لا ينبغي لنا أن نعتمد على أن النمو الاقتصادي سيؤدي تلقائياً إلى تقليص الفوارق بين الجنسين في سوق العمل. لكن ما الذي يفسر الاختلافات؟

هل تقبلين هذا الرجل ليكون زوجك؟

بحلول بداية القرن العشرين وجد اختلافًا كبيرًا في معدلات توظيف النساء المتزوجات وغير المتزوجات. ففي حين أن حوالي 20% من جميع النساء يعملن بأجر، فإن حوالي 5% فقط من النساء المتزوجات يفعلن ذلك. وأظهرت جولدين أن التقدم التقني ونمو قطاع الخدمات وزيادة مستويات التعليم أدى إلى زيادة الطلب على العمالة النسائية. ومع ذلك، فإن الوصمة المجتمعية والتشريعات والحواجز المؤسسية الأخرى حدت من تأثير هذا الطلب. إضافة إلى أنها تمكنت من إثبات أن الزواج لعب دورًا أكبر مما كان يُعتقد في السابق.

أشارت جولدين إلى أن التشريع المعروف باسم “موانع الزواج” غالباً ما يمنع النساء المتزوجات من مواصلة عملهن كمعلمات أو موظفات في المكاتب. وعلى الرغم من الطلب المتزايد على العمالة، فقد تم استبعاد النساء المتزوجات من بعض المهن في سوق العمل. وقد بلغ هذا النوع من التشريعات ذروته خلال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين والسنوات التي تلتها. ولكنه لم يكن السبب الوحيد، بل توقعات النساء لمهنهن المستقبلية كان عاملاً مهمًا أيضًا في تبيطيء تقليص الفجوة بين معدلات توظيف الرجال والنساء.

أهمية التوقعات والتأثر بالفوج

يتكون سوق العمل من أجيال وأفواج مختلفة واجهت ظروفًا مختلفة عند اتخاذ قراراتها الحياتية. لذا عملت جولدين على تطوير منهجًا قائمًا على الفوج أو الجيل لتحليل ما يحدث عندما يدخل الفوج سوق العمل. ففي أوائل القرن العشرين، على سبيل المثال، كان من المتوقع من معظم النساء أن يعملن لبضع سنوات فقط قبل الزواج. بعد ذلك تخرجن النساء من سوق العمل بعد الزواج، مما أثر على اختياراتهن التعليمية. وأظهرت جولدين أنه في فترات التطور السريع، قد تتخذ المرأة قرارات بناء على توقعات لا تؤتي ثمارها فيما بعد.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أدت التغيرات المجتمعية بالنساء المتزوجات غالباً إلى أن يعُدن إلى العمل بمجرد أن يكبر أطفالهن. وكانت فرص العمل المتاحة لهن آنذاك مبنية على اختيارات تعليمية ربما اتخذوها قبل خمسة وعشرين عامًا، وفي وقت لم يكن من المتوقع فيه، وفقًا للمعايير الاجتماعية المعاصرة، أن يحصلن فيها على مهنة.

العديد من الفتيات الصغيرات في الخمسينيات كان لديهن أمهات ربات بيوت، وعندما كبرن، عادت أمهاتهن إلى سوق العمل. كانت البنات قد اخترن بالفعل مساراتهن التعليمية. بمعنى آخر، لم تتوقع الفتيات أن يكون لهن مهنة عندما خططن لمستقبلهن. ولم يتضح إلا بعد فترة طويلة أنهن يمكن أن يحصلن على مهنة.

في معظم فترات القرن العشرين، قللت النساء من تقدير أهمية عملهن.ولم تبدأ التوقعات والنتائج في التقارب حتى السبعينيات. ونتيجة لذلك، استثمرت النساء الشابات في تلك الفترة بشكل أكبر في تعليمهن. وفي العقود الأخيرة، تزايدت احتمالات التحاق النساء بالدراسة، ففي البلدان ذات الدخل المرتفع، تحصل النساء بشكل عام على مستوى تعليمي أعلى من الرجال.

إن الطريقة التي تترك بها النساء العمل لفترة طويلة بعد الزواج تفسر أيضاً السبب وراء زيادة متوسط ​​مستوى تشغيل النساء بنسبة ضئيلة للغاية. فعلى الرغم من التدفق الهائل للنساء إلى سوق العمل في النصف الأخير من القرن العشرين، وتغيير الأعراف المجتمعية، والأنماط الجديدة في سوق العمل وزيادة مستويات التعليم قد أثرت على مستوى توظيف المرأة، فإن الابتكارات الأحدث قد غيرت بشكل أساسي فرصها في التخطيط والحصول على مهنة.

قوة حبوب منع الحمل

لقد تغيرت توقعات سوق عمل المرأة في نهاية الستينيات، عندما تم اكتشاف حبوب منع الحمل. وحبوب منع الحمل هي وسيلة سهلة الاستخدام لتنظيم الأسرة ومنع الحمل وتستطيع المرأة التحكم فيها بشكل مستقل. ووجدت جولدين أن حبوب منع الحمل أدت إلى تأخر الزواج والإنجاب. كما أنها ساعدت النساء الشابات على اتخاذ خيارات مهنية أخرى، وبدأت نسبة متزايدة منهن في دراسة العديد من التخصصات المختلفة كالاقتصاد والقانون والطب. وهذا يعني أنها ساعدتهن على التخطيط لمستقبلهن بشكل أفضل.

الفجوات التاريخية في الأرباح

بدأت جولدين بجمع الإحصائيات من مجموعة من المصادر، وأنتجت أول سلسلة طويلة عن الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء. وباستخدام احصائيات شملت مائتي عام، أثبتت أن الفجوة في الدخل بين الجنسين تقلصت بشكل كبير خلال الثورة الصناعية (1820-1850)، وكذلك عندما زاد الطلب على الخدمات الإدارية والكتابية (1890-1930). وعلى الرغم من النمو الاقتصادي وزيادة مستويات التعليم بين النساء ومضاعفة نسبة النساء العاملات بأجر، ظلت فجوة الدخل على حالها بين عامي 1930 و1980.

وباستخدام هذه الإحصائيات، تمكنت جولدين أيضًا من إظهار أن قضية التمييز في الأجور التي أثرت على النساء زادت بشكل ملحوظ مع نمو قطاع الخدمات في القرن العشرين. فقبل ذلك، كانت النساء عادة ما تعمل في قطاعات يعتمد الأجر فيها على العمل بالقطعة (اليومية). وكان العاملون في هذه الأنواع من الصناعات، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، يحصلون على أجور تتناسب مع إنتاجيتهم. لكن مع نهاية القرن التاسع عشر وعام 1940، ارتفع الفرق في الأجور بين الجنسين. وبعبارة أخري زاد التمييز في الأجور، بشكل مدهش إلى حد ما، في نفس الوقت الذي تضاءلت فيه الفجوة في الدخل بين الرجال والنساء. وكان أحد أسباب ذلك هو التخلي المتزايد عن عقود العمل بالقطعة لصالح أنظمة الأجور الشهرية.

تأثير الأبوة

من خلال دراسة كيفية تغير الاختلافات في الدخل بين الرجال والنساء بمرور الوقت، أوضحت جولدن ورفاقها من الباحثين، ماريان برتراند ولورانس كاتز، في مقال نشر عام 2010 أن الفروق الأولى في الدخل تكون صغيرة. ويتغير الحال بمجرد ولادة الطفل الأول، إذ ينخفض ​​الدخل على الفور ولا يزيد بنفس المعدل بالنسبة للنساء اللاتي لديهن طفل. لا يحدث الأمر ذاته مع الرجال، حتى لو كان للطرفين نفس التعليم والخبرة. وقد أكدت الدراسات التي أجريت في بلدان أخرى استنتاج جولدين، إذ يمكن للأبوة الآن أن تفسر بشكل شبه كامل الفروق في الدخل بين النساء والرجال في البلدان ذات الدخل المرتفع.

أظهرت جولدين أن تأثير الأمومة هذا يمكن تفسيره جزئيًا بطبيعة أسواق العمل المعاصرة. حيث تتوقع العديد من القطاعات أن يكون الموظفون الذكور متاحين دائمًا ومرنين في مواجهة متطلبات صاحب العمل. ولأن المرأة تتحمل في كثير من الأحيان مسؤولية أكبر من الرجل في رعاية الأطفال، ما يجعل من التقدم الوظيفي وزيادة الدخل أكثر صعوبة. كما أن المهام التي يصعب دمجها مع العمل بدوام جزئي تزيد من صعوبة الحفاظ على وظائفهن فيخترن في بعض الأحيان تقليل ساعات الدوام بها. ولذلك أدت كل هذه العوامل إلى عواقب بعيدة المدى على دخل المرأة.

لمحة عن المستقبل

من خلال البحث في الأرشيفات وتجميع البيانات التاريخية وتصحيحها، تمكنت جولدين من تقديم حقائق جديدة ومثيرة. كما منحتنا فهمًا أعمق للعوامل التي تؤثر على فرص المرأة في سوق العمل. وقد أظهرت نتائج دراساتها أن الاختلافات بين النساء والرجال في سوق العمل تحددها عوامل متنوعة خلال فترات التطور المجتمعي المختلفة. ويتعين على صناع السياسات الذين يريدون التأثير على هذه الاختلافات أن يفهموا أولاً سبب وجودها. كما أظهرت نتائجها أن التغيير يستغرق وقتاً طويلاً. لأن الاختيارات التي تؤثر على المهن بأكملها تعتمد على توقعات قد يتبين لاحقاً أنها خاطئة.

مصادر: بيان جائزة نوبل العلمي الرسمي

مقدمة مبسطة لفهم جائزة نوبل في الفيزياء 2023 وسبب الفوز بها

ذهبت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2023 إلى الفرنسي بيير أغوستيني والمجري النمساوي فيرينك كراوس والفرنسية آن لويلير وذلك عن إنجازهم في توليد نبضات قصيرة للضوء بسرعة الأوتوثانية. إنجاز العلماء الثلاثة سيفتح أمامنا أفق جديدة في فهم ما يحدث بداخل عالم الذرة وأخذ لقطات لحركة الإلكترونات السريعة للغاية، إذ اكتشفت آن لويلير تأثيرًا جديدًا من تفاعل ضوء الليزر مع ذرات الغاز ووضح كل من بيير أغوستيني وفيرينك كرواس إمكانية استخدام التأثير السابق في إنشاء نبضات ضوئية شديدة القصر. فكيف فعلوا ذلك؟ هذا ما سنوضحه في مقالنا لمقدمة مبسطة لفهم جائزة نوبل في الفيزياء 2023 وسبب الفوز بها.

فهم ما يحدث داخل عالم الذرة السريع ليس مستحيلًا بعد الآن!

حينما تشاهد فهدًا يلحق فريسته بسرعة تصل إلى 64 ميلًا في الساعة، لا يمكنك لمح حركة جسده بالتفصيل بل ستراه كالطيف يمر أمامك. كذلك حينما ترى مقاطع فيديو في الأصل هي عبارة عن بضع صور ثابتة ولكن تم استخدام أحد البرامج لتسريع مرور تلك الصور أمام عيونك.

لا يمكن لحواسنا البشرية ملاحظة الحركات شديدة السرعة هذه، لذا نحن بحاجة للتكنولوجيا وحيلها كالالتقاط وتصوير اللحظات القصيرة التي تحدث، لفهم ما يحدث في عالمنا. يتيح لنا التصوير الفوتوغرافي عالي السرعة والإضاءة التقاط صور تفصيلية للكثير من الظواهر. وكلما كان حدوث الظاهرة أسرع، لابد أن تكون سرعة التقاط الصورة أسرع. وينطبق هذا المبدأ على جميع أساليب القياس أو تصوير أي عملية تحدث بسرعة، فإذا كان النظام سريع، يجب أن يكون القياس بسرعة أكبر من سرعة النظام وذلك لالتقاط الأحداث التي تحدث داخل هذا النظام.

يُعد المقياس الزمني الطبيعي للذرات قصير للغاية. فيمكن للذرات في الجزيء أن تتحرك وتتحول في جزء من مليون من مليار من الثانية (الفيمتوثانية). وقد كان أقصى ما يمكننا فهمه هو التفاعلات الكيميائية بين الجزيئات باستخدام نبضات الليزر في زمن قدره فيمتوثانية والتي فاز عنها العالم المصري أحمد زويل بجائزة نوبل سابقًا، لكن العلم لم يتوقف عند ذلك الحد بل مستمر. لذا كان اهتمام العلماء مصوب حول فهم ما هو أدق، أي عالم الذرات هائلة السرعة! وقد ساهم العلماء الثالثة في تصميم تجارب توضح طريقة لإنتاج نبضات ضوئية شديدة القصر، لالتقاط صور للعمليات داخل الذرات والجزيئات.

ولأن حركة الإلكترونات داخل الذرات والجزئيات سريعة للغاية، وتفوق سرعتها الفيمتوثانية، فتتغير مواقع وطاقات الإلكترونات بسرعة تتراوح بين واحد وبضع مئات من الأوتوثانية، والأوتوثانية هي جزء من مليار من مليار من الثانية! فهي قصيرة لدرجة أن عددها في الثانية الواحدة هو نفسه عدد الثواني التي مضت منذ ظهور الكون أي ما يقارب 13.8 مليار سنة. بمعنى أخر، الأوتو ثانية الواحدة فقط تعادل ثانية من عمر الكون.

كشف أسرار عالم الذرة باستخدام نبضات الأوتوثانية!

يتكون الضوء من موجات، اهتزازات في المجالات الكهربائية والمغناطيسية، تتحرك تلك الاهتزازات مع بعضها في الفراغ على نحو سريع، أسرع من أي شيء. كما أن لها أطوال موجية مختلفة وبألوان مختلفة. فمثلًا يبلغ طول موجة الضوء الأحمر حوالي 700 نانومتر، أي جزء من مائة من عرض شعرة الرأس، وتدور بمعدل أربعمائة وثلاثين ألف مليار مرة في الثانية تقريبًا. فلا يمكن للأطوال الموجية المستخدمة في أنظمة الليزر العادية أن تقل عن الفيمتو ثانية، لذا في الثمانينيات، كانت أقصر نبضات ضوئية ممكنة هي تلك التي تصدر في زمن قدره فيمتوثانية، ولا يمكن خرق ذلك. كان اختراق الفيمتوثانية تحدٍ هائل، فماذا يفعل العلماء؟

بالرياضيات، سنحصل على أقصر الموجات!

توضح الرياضيات لنا أنه يمكننا أن نشكل موجة من أمواج أصغر متراكبة، لذا إذا استُخدم عدد من الموجات ذات الأحجام والأطوال الموجية القصيرة في نطاق الأوتوثانية والسعات الصحيحة (المسافات بين القمم والقيعان)، وتراكبت تلك الموجات، ستنشأ لدينا موجات قوية وشديدة القصر في نطاق الأوتوثانية. وإذا تمكننا من رصد تلك الموجات، فبإمكاننا اكتشاف عالم الذرات والجزيئات.

لم يقتصر الأمر على استخدام الليزر فقط لإضافة أطوال موجية جديدة للضوء، حيث مفتاح الوصول إلى أقصر لحظة تمت دراستها هو باستخدام الظاهرة التي تنشأ عند مرور ضوء الليزر عبر الغاز. إذ يتفاعل الضوء مع ذرات الغاز ويسبب موجات انعكاسية تكمل عددًا من الدورات الكاملة لكل دورة في الموجة الأصلية. يمكن مقارنة ذلك بالنغمات المختلفة التي تعطي الصوت طابعه الخاص، مما يسمح لنا بسماع الفرق بين نفس النغمة التي يتم عزفها وتمييزه ما بين الجيتار والبيانو. وفي عام 1987، نجحت آن لويلر وزملاؤها في أحد المختبرات الفرنسية بإنتاج وإظهار النبضات بتسليط أشعة الليزر تحت الحمراء على ذرات غاز خامل.

مساهمة العلماء الثلاثة في جائزة نوبل في الفيزياء 2023

عندما يسلّط ضوء الليزر على الغاز، يؤثر على ذراته ويحدِث اهتزازات كهرومغناطيسية تشوه المجال الكهربائي الذي يحمل الإلكترونات حول نواة الذرة. مما يمكّن الإلكترونات بعد ذلك من الهروب من الذرات، لكن ما يمنعها من الهروب هو المجال الكهربائي الذي ينشأ عنه قوة جذب تحبسها. وعند تسليط الأشعة كما ذكرنا، يحدث بالقوة اضطراب لفترة زمنية صغيرة جدًا فتتمكن بعض الإلكترونات من الهرب أي تتأين طبقًا لميكانيكا الكم حيث ينشأ نفق كمي. من ثم تكتسب تلك الإلكترونات طاقة من المجال الكهربي لأشعة الليزر. لكن حينما يتغير اتجاه المجال الكهربي لأشعة الليزر، تعود الإلكترونات حول الذرة وتطلق الطاقة التي اكتسبتها سابقًا على شكل موجات ضوء في نطاق الأشعة فوق البنفسجية ذات الطول الموجي الصغير في نطاق الأوتوثانية الزمني. وعندما تحدث تلك الظاهرة من عدد كبير من الإلكترونات التي ستكتسب طاقات مختلفة، سيكون لدينا أمواج فوق بنفسجية مختلفة الترددات، تتراكب معًا وتنشأ موجة قوية قابلة للرصد طولها الموجي في نطاق الأوتوثانية.

هذا ما فعلته آن لويلير في 1987 وبيير أغوستيني ومجموعته البحثية في فرنسا عام 2001 في إنتاج ودراسة سلسلة من النبضات الضوئية المتتالية. توصل الباحثان إلى أن نبضة تستمر 250 أوتوثانية. في الوقت نفسه، كان فيرينك كراوس ومجموعته البحثية في النمسا يعملون على تقنية يمكنها اختيار عربة واحدة تشبه النبض يتم فصلها عن القطار وتحويلها إلى مسار آخر واستمرت النبضة التي نجحوا في عزلها لمدة 650 أوتوثانية.

أظهرت هذه التجارب أنه يمكن ملاحظة وقياس نبضات الأوتوثانية، ويمكن استخدامها أيضًا في تجارب جديدة. إن هذه النبضات الضوئية القصيرة يمكن توظيفها لدراسة حركة الإلكترونات، إذ أصبح من الممكن الآن إنتاجها ورصدها بسرعات تصل إلى بضع عشرات من الأوتوثانية فقط، وهذه التكنولوجيا تتطور طوال الوقت.

أقرأ أيضًا: لماذا كانت النبضات الضوئية القصيرة السبب في الفوز بجائزة نوبل عام 2023؟

المصدر: بيان موقع نوبل.

Exit mobile version