أنواع البيانات في الأبحاث الطبية

عندما نقوم بإجراء بحثٍ طبيٍ ما، ينتج لدينا الكثير من البيانات، ولا ندري ماذا نفعل بمعظمها! لذلك عرّف الباحثون جميع المصطلحات المتعلقة بالعديد من أنواع البيانات في الأبحاث الطبية، ووضعوا تصنيفات لها تسهل على الطالب والباحث التعامل معها. فمن المهم أن نعرف ما هي البيانات التي بين أيدينا عندما نقرأ بحثًا ما، حتى نعرف ما الذي يدور حوله البحث. لذا سوف نتعرف معًا على بعض أهم المصطلحات المستخدمة لوصف البيانات، والتي ستفيدك كثيرًا عند قراءتك لورقة علمية.

البيانات التصنيفية أو الفئوية

لنفترض أنك تريد شراء سيارة، ذهبت إلى معرض السيارات، أمامك الكثير من السيارات، مواصفات مختلفة لكل منها، الموديل، اللون، رياضية أو دفع رباعي.. والعديد من البيانات الأخرى. ما تراه أمامك هو ما نسميه “البيانات المصنفة” أو Categorical Data، وهي بيانات لا تفاوت أو ترتيب معين بينها. مثلًا تأتي السيارات بجميع الألوان المعروفة، ولكننا لا نستطيع تريبها أو تفضيل لون على آخر، لدينا اللون الأصفر والأخضر والأحمر و… ولا نستطيع وضع هذه الألوان وفق ترتيبٍ ما، لذا يجب التعامل معها وتحليلها بشكل منفصل، كلٌ منهم له فئته الخاصة. هذا ينطبق على الأشخاص أيضًا، لدينا الجنس والعرق والحالة الزوجية، ولا يمكن وضع ترتيب معين لهذه التصنيفات.

نرشح لك: طريقك إلى فهم الأبحاث الطبية: أقسام الورقة البحثية

البيانات المستمرة

وهي البيانات التي يمكن قياسها. بالنسبة للسيارات مثلًا، فهي السرعة والوزن والتسارع.. أما بالنسبة للأشخاص، مستوى ضغط الدم والكوليسترول والوزن والعمر. أي أنه يوجد علاقة ذات معنى بين هذه البيانات، فشخص ضغط دمه 120 ميلليمتر زئبقي يمكن مقارنته مع شخص آخر ضغط دمه 140 ميلليمتر زئبقي!

البيانات الترتيبية

بعض البيانات لا يمكن التعامل معها رياضيًا بشكل مثالي. مثلًا، إذا سألتك عن رأيك بسيارة شيفروليه ماليبو على مقياس من 1 إلى 10، يمكن وضع النتائج في ترتيب معين بالتأكيد، فالستة أكبر من السبعة والسبعة أكبر من الثمانية. لكن، هل الرقم 8 على هذا المقياس أفضل مرتين عن الرقم 4؟ عندما نتحدث عن مقياس بهذا الشكل لا تكون العلاقة دقيقة بين الأرقام. في الأبحاث الطبية، إذا كنا نتحدث عن مستوى التعليم، ابتدائي، إعدادي، ثانوي، جامعي، بعد الجامعي.. يمكننا وضع هذه البيانات في ترتيب معين، لكن هل يمكننا أن نقول كم يزيد مستوى التعليم الجامعي عن الثانوي؟ بالطبع لا يمكن تحديد الأمر بدقة، وهذا ما نسميه البيانات الترتيبية أو Ordinal Data.

البيانات الطبيعية

بالعودة إلى البيانات المستمرة، السؤال الذي يُطرح غالبًا، هل هذه بيانات طبيعية أم لا؟ هذه عبارة اصطلاحية، فالطبيعي هو مفهوم احصائي محدد، لا يعني أنه اعتيادي أو مثالي. يمكننا تعريف البيانات الطبيعية على أنها البيانات التي تتوزع على شكل منحنى الجرس، وهو منحنى رياضي على شكل قمة تتوسط منحدرين. وندعوها بالبيانات الطبيعية لأن العديد من الأمور في الطبيعة والفيزياء عند قياسها تتوزع على نمط منحنى الجرس. على سبيل المثال، إذا سألت عن متوسط طول السكان في الولايات المتحدة مثلًا، ما ترونه هو منحنى الجرس (في الشكل أدناه)، لاحظ وجود ذروة في المنتصف، وهو يخبرنا أن متوسط الطول يعادل 176 سنتيمتر تقريبًا، وعلى جانبي القمة هنالك قيم أقل تكرارًا وأكثر ندرة. هذا ما يتحدث عنه الباحثون عندما يصفون عينةً ما بأنها موزعة طبيعيًا أو Normally Distributed.

مخطط يوضح توزع متوسط طول السكان في الولايات المتحدة

قد يهمك أيضًا: طريقك إلى فهم الأبحاث الطبية: كيف تُجرى الأبحاث؟

البيانات الغير طبيعية

لا يمكن لجميع البيانات أن يكون لها توزع طبيعي. مثلًا عند النظر إلى منحنى يصف توزع السكان حسب العمر، لا يمكن أن ترى منحنى الجرس! ببساطة هذه بيانات غير طبيعية، تعرض هذه البيانات وجود الكثير من الناس في أعمار مختلفة، وصولًا حتى الـ 99 حيث يتناقص العدد إلى الصفر تقريبًا. وتتطلب مجموعة من المعادلات الخاصة حتى نتمكن من الاستفادة منها.

مخطط يوضح توزع السكان حسب العمر

البيانات النوعية

كل ما سبق من أنواع البيانات في الأبحاث الطبية التي تحدثنا عنها قابلة للقياس الكمي إلى حدٍ ما. أما البيانات النوعية فهي مختلفة تمامًا لكنها مفيدة جدًا. مثلًا لدى سؤالك مجموعة من المرضى يعانون من حالة طبية معينة، ما الذي يزعجك؟ كيف يؤثر هذا المرض على طريقة حياتك؟ كيف تتمنى أن نساعدك؟ سوف تحصل على مجموعة واسعة ومختلفة من الإجابات، من الصعب قياسها أو مقارنة إجابة بأخرى، لذلك تختلف البيانات النوعية Qualitative Data بشكل جوهري عن غيرها من البيانات.

ملخص للتذكير بأهم النقاط

  • هناك بيانات تسمى بيانات تصنيفية ومستمرة وترتيبية.
  • تكون البيانات المستمرة إما طبيعية أو غير طبيعية
  • تناسب البيانات الطبيعية الإحصائيات، بينما تتطلب البيانات اللاطبيعية تتطلب أدوات خاصة.
  • تقدم البيانات النوعية رؤىً جديدة ومهمة، لكنها غير قابلة للقياس أو الإحصاء.

المصادر

طريقك إلى فهم الأبحاث الطبية: أقسام الورقة البحثية

تحدثنا في مقالٍ سابقٍ (هنا) عن الأبجدية المتعلقة بالبحث العلمي، كيف ينطلق الباحث في المجال الطبي من الفكرة مرورًا بإجراء التجارب ووصولًا إلى كتابة الورقة البحثية ونشرها. في هذا المقال سوف نتحدث عن أقسام الورقة البحثية ومكوناتها. فالورقة البحثية وثيقة شديدة التنظيم، هنالك قواعد معينة لكتابتها، مما يعني وجود قواعد لقراءتها أيضًا، وليس الأمر بالصعوبة التي تتخيلها. وهو أمر بالغ الأهمية، فلا يستقيم للمرء قراءة أي ورقةٍ بحثيةٍ دون معرفة الأساسيات والأقسام التي تتألف منها.

العنوان Title

هو أول ما تقع عليه العين في الورقة البحثية، فعدد من يقرأ العنوان فقط أكبر بكثير ممن يقرأ الورقة كلها. لذا يجب انتقاء مفرداته بعناية، وصياغته بشكل جيد ومعبرٍ وواضح، بحيث يصف موضوع الورقة بدقةٍ وإيجاز. إذًا يمكننا تعريف العنوان الجيد بأنه “العنوان الذي يصف محتوى الورقة في أقل عدد ممكن من المفردات في غير إسهاب أو اقتضاب”.

عند قراءة عنوان ورقة ما، على القارئ أن يسأل نفسه، هل ذُكر في العنوان إجراءٌ أو تشخيصٌ ما، أو تعَرّض لمادة أو لممارسة معينة؟ وما هي النتيجة أو المخرجات؟ لا تقلق، أعلم تمامًا أن الكلام هنا غير مفهوم تمامًا وهذا أمر عادي، سنأخذ مثالًا صغيرًا للتوضيح.

لنأخذ العنوان الآتي:

“Gingko Biloba extract improved cognitive and neurological functions of acute ischemic stroke, a randomized controlled trial.”

الإجابة عن السؤال الأول المطروح أعلاه تكمن في الكلمات الثلاث الأولى، Gingko Biloba extract، وتعني خلاصة نبتة الجينكو بيلوبا، وهي ما سيتعرض له المشاركون في التجربة. أما المُخرج أو النتيجة هو تحسن الوظيفة الإدراكية والعصبية cognitive and neurologic function. أما كيف قيست النتائج وقُيمت فغير مهم وجودها في العنوان، لكن المهم هو القدرة على معرفة ماهية الإجراء المتبع (أو ما يسمى التَعرض Exposure) والنتيجة (Outcome) من خلال العنوان.

الملخص Abstract

هو النسخة المصغرة عن الورقة البحثية، يحتوي على الأفكار الأساسية الموجودة في الورقة، مختصرةً وبعيدةً عن التفصيل. الجميل في الأمر أنه يوفر عليكم عناء قراءة الورقة كلها، فكل ما عليكم هو قراءة الملخص، لتقرروا فيما بعد إن كانت هذه الورقة هي ما تبحثون عنه أم لا، بالإضافة إلى كونه مجانيًا ومتوفرًا دون عوائق الدفع أو الاشتراك في المجلات.

يختلف الملخص في شكله ومحتواه باختلاف المجلة، لكنه عمومًا يعطيكم فكرة عن أهمية الموضوع الذي تتطرق له الورقة، بالإضافة إلى المنهجية وتصميم التجارب، والنتائج والاستنتاج الأخير.

المقدمة أو الخلفية Background or Introduction

هذا الجزء فيه إجابةٌ عن أسئلةٍ مهمة، لماذا نجري هذه الدراسة في المقام الأول؟ ما أهمية هذه الورقة وما الذي تضيفه؟ ما هي الفرضية التي تقوم عليها؟ فالمقدمة إذًا تعرض طبيعة المشكلة وأبعادها، توضح أهمية الدراسة وهدفها والغرض منها، تقدم تعريفًا عامًا عن الموضوع المدروس ولمحة عن المحتوى العلمي الحالي، بشكل يدعم الأسئلة التي تطرحها الدراسة.

المنهجيات والمواد Methods & Materials

لأكون صريحًا معكم، هذا هو الجزء الذي اعتدت تجاوزه عند قراءة أي ورقة! ولن أبالغ إن قلت لكم أن معظم الناس تقوم بذلك أيضًا! لكن قسم المنهجيات من أهم أقسام الورقة البحثية ، فهو يوضح لكم طبيعة الأشخاص المشاركين في التجربة وفئاتهم العمرية وحالتهم الصحية، ولماذا ضممناهم إلى التجربة (معايير الاختيار)، ما الأدوات والأجهزة التي استخدمت في القياسات والتحاليل المختلفة، كيف أُخذت العينات (طريقة الاعتيان)، وما الطريقة الإحصائية المتبعة، والاعتبارات الأخلاقية والتصاريح أو الموافقات الرسمية في حال تطبيق التجارب على البشر.

هذا القسم إذًا يتضمن تفصيلًا للإجراءات المتبعة والمنهجية المستخدمة خلال مراحل التجربة. فهو يهدف إلى إعطاء تفاصيل نظرية دقيقة بحيث يتمكن أي شخصٍ مدربٍ بشكل صحيح من إعادة التجارب بنفسه للوصول إلى نفس النتائج. فلا يجب أن يَترك هذا القسم مجالًا للتساؤل عن أي خطوة من الخطوات المجراة.

النتائج Results

تبدو الأمور هنا مثيرة بعض الشيء.. يتضمن هذا القسم عرضًا للأرقام والمشاهدات التي توصلنا إليها من خلال القياسات والإحصائيات المجراة. يجب أن تُعرض النتائج والمخرجات كما هي، بحيادية تامة، بلا تعديل أو تحوير، وبدون تقديم افتراضات حولها أو مناقشتها، فهذا القسم للبيانات الخام فقط. يحتوي هذا القسم أيضًا على المخططات والرسوم البيانية التي تساعد على عرض النتائج.

المناقشة Discussion

وهو القسم الذي يعرض فيه الباحثون تفسيراتهم المحتملة حول النتائج التي وصلوا إليها وتكهناتهم حول ماهيتها ومعناها. لذا يجب الإشارة إلى أكثر النتائج أهمية دون المبالغة في تقدير أهميتها! وعلى الباحث أن يكون حذرًا في انتقاء عباراته واستخدام عبارات متواضعة مثل: “توحي/تدعم نتائج الدراسة إلى…” بدلًا من استخدام “تثبت/تؤكد نتائج الدراسة..” أو استخدام عبارات من قبيل: “من المحتمل” أو “من المرجح” عند الحديث عن نتائج دراسته أو إبداء رأيه فيها.

تعتبر الأقسام الأربعة السابقة مكونات نموذج IMRAD (وهو اختصار لـ Introduction, Methods, Results & Discussion)، وهو النموذج الأكثر شيوعًا واستخداما من قبل الدوريات العلمية. لكن تجدر الإشارة لوجود أقسام أخرى في الورقة البحثية مثل القسم الذي يلي العنوان حيث يُذكر فيه الكُتّاب Authors أي الباحثون المشاركون والمشرفون، وقسم آخر اختياري للشكر والتقديرات Acknowledges، حيث تذكر فيه المساهمات الصغيرة منها الكبيرة، وقسم المصطلحات والكلمات المفتاحية Terms and keywords، اختياري أيضًا. بالإضافة إلى الخاتمة Conclusion، حيث تتكون من بضعة جمل تظهر أهمية الدراسة من خلال ربطها بالأبحاث المستقبلية مثلًا.

يبقى أن نشير إلى أهمية ذكر المراجع References والمصادر التي اعتمد عليها الباحث، وهنالك أكثر من طريقة لإدراجها، إما في النص أو في الحواشي أو في قسم مخصص للمراجع. حيث ترتب وفق تسلسل ورودها في النص أو ترتيبًا أبجديًا، وهنا يطول الحديث عن طريقة توثيق الاقتباسات وقواعدها، مثل نمط الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA)، ونمط شيكاغو (CSE)، والعديد من الأنماط الأخرى التي سنفرد مقالًا آخر للحديث عنها لاحقًا، لما للموضوع من أهمية كبيرة. حيث يفيد التوثيق في اعتراف الباحث والناشر بفضل العمل الأصلي المقتبس منه، وتمكين القارئ من الرجوع إلى المصدر الأصلي. كما يساهم في الإشارة بوضوح إلى مصدر أفكار الباحث وتوثيقها، وبذلك يتجنب سرقة أفكار الآخرين وانتهاك الأخلاقيات العلمية.

لقراءة المقال السابق

طريقك إلى فهم الأبحاث الطبية: كيف تُجرى الأبحاث؟

المصادر

  • How to Write and Publish a Scientific Paper, 7th Edition. from here.
  • Understanding Medical Research Course. Coursera. from here.
  • Barbara J. Hoogenboom, R. (2012). HOW TO WRITE A SCIENTIFIC ARTICLE. International Journal Of Sports Physical Therapy7(5), 512. Retrieved from here.

طريقك إلى فهم الأبحاث الطبية: كيف تُجرى الأبحاث؟

كثيرةٌ هي الأبحاث الطبية المنشورة، وقليلون هم القادرون على قراءتها وفهمها! فهي بمثابة مصدر رعب حقيقي للدارس والمختص، لما تحتويه من اصطلاحات واحصائيات وأرقام! بَيْدَ أن الحاجة للمعرفة تتعاظم مع مرور الوقت، خصوصًا في عصر الأوبئة المعلوماتية والشائعات المنتشرة. فبات من الأهمية بمكان التدرب على فهم الأبحاث ومعرفة الغث من السمين. هذه السلسلة، هي محاولة لردم الهوة وتقليص المسافة، عبر تبسيط وشرح الأبحاث الطبية وجعل عملية قراءتها ممكنة وسهلة للجميع على حدٍ سواء، مهتمين ومختصين وطلاب. في هذا الجزء، سوف نتحدث عن الأبجدية الخاصة بالبحث العلمي، كيف تُجرى الأبحاث؟ بدايةً من الفكرة والفرضية، مرورًا بإجراء التجارب، وانتهاءً بالمراجعة والنشر.

تمهيد

تخيل معي أنك ذاهبٌ لشراء خلاطٍ كهربائي جديد لمطبخك، اخترت أفضل متجرٍ للأدوات الكهربائية، واخترت صندوقًا أنيقًا يخبرك أن بداخله الخلاط الأفضل، بمواصفات فريدة ودليل إرشادي وشهادات دولية تؤكد على جودته! مما جعل المنتجات الأخرى تبدو في نظرك بلا قيمة تذكر! طلبت من البائع فتح الصندوق لتعاين المنتج، ليفاجئك بالقول: لا أستطيع، لترد عليه بأنك تريد التأكد من جودته وكفاءته، تريد أن تراه وهو يعمل.. يعتذر البائع مرة أخرى ويخبرك أنك تستطيع رؤية الصندوق من الخارج فقط..

هذا بالضبط ما يحدث مع الأبحاث الطبية! فهي جميلة ولامعةٌ من الخارج، تخبرك بأنها عظيمةٌ وفريدة من الداخل أيضًا. ولكنك لن ترى البيانات التي قادت إلى نتائج البحث، سترى ما يخبرك به المؤلف فقط! من المعلوم أن معظم الباحثين أخلاقيون ويهدفون لدفع عجلة العلم نحو الأمام، لكن ماذا عن المنحازين منهم؟ أرأيت أهمية امتلاكك أدوات المعرفة التي تمكنك من تجنب الوقوع في مصيدة ذاك البائع؟

لماذا ننفق المليارات على الأبحاث الطبية؟

تُستثمرُ سنويًا مبالغ طائلةٌ على البحث والتطوير في المجال الطبي. يُنفق سنويًا أكثر من 100 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها، معظمها من الحكومة الفدرالية من خلال المعهد الوطني للصحة National Institutes of Health، اختصارًا NIH.

من المنطقي إذًا أن تسأل نفسك عن العائد من هذا الإنفاق الضخم، ما الذي نجنيه في المقابل؟ في الواقع نحن نجني الكثير! تقول الناشطة الخيرية الأمريكية ماري لاسكر: “إن كنت تعتقد أن البحث عملية مكلفة، جرِّب المرض.”، وكمثالٍ صغيرٍ على العائد الجيد من الاستثمار في قطاع البحث، كلَّف مشروع الجينوم البشري الخزانة الفدرالية 3.8 مليار دولارًا، وهو مبلغٌ كبيرٌ ليُصرف على تجربة علمية! وفي المقابل، قدرت عوائد هذا الاستثمار من النمو الاقتصادي الذي حققه بـ تريليون دولار! ناهيك عن اكتشاف مجموعة من مجالات العلوم الجديدة، والتي كان هذا المشروع سببًا في ظهورها. إذًا، تُكلف الأبحاث الطبية الكثير من المال، لكنّ الأمر يستحق كل قرشٍ يدفع عليه. [4, 5]

العملية البحثية، الرحلة من الفكرة إلى الثمرة

هل تساءلت يومًا عن الطريق الذي تسلكه الورقة البحثية حتى تصل إلى يد القارئ؟ في الحقيقة إنه طريقٌ طويلٌ وصعب. يوجد مساران بحثيان أساسيان، الأول هو الأكاديمي، والآخر هو الصناعي.

باختصار، ودون الوقوف على التفاصيل، يبدأ البحث في المسار الأكاديمي بالفكرة أو السؤال البحثي، لماذا تحدث هذه الظاهرة؟ كيف نعالج هذا العَرَض؟ وما آلية ذاك المرض؟ … وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال أو ذاك يُطور الباحث الفرضية، مقترحًا آليات لحل المشكلة أو طريقة لعلاج المرض.

لدينا الآن إذًا فكرةٌ بحاجة للتطبيق والاختبار معمليًا، ولكننا نحتاج المال لإجراء التجارب والاختبارات، فالسؤال الأهم، كيف نحصل على التمويل؟ نصل هنا إلى مرحلةٍ مِفصلية! وهي كتابة المقترح البحثي للحصول على التمويل من وكالات التمويل، حيث تَعرِضُ عليهم فكرتك ومخططك المفصل لشروط التجربة ومراحلها والتكلفة الاجمالية والكثير من التفاصيل الأخرى، لتُعرض على لجنة من الأقران لمراجعة هذا المقترح، ليُصار إلى قبوله إن كنت تعمل على فكرة نالت اهتمامهم، وبالتالي تَحصُل على التمويل، أو يُصار إلى رفضه، لتعيد الكرَّة مرَّة أخرى!

بمجرد الحصول على التمويل، يبدأ الباحث بإجراء التجارب وجمع البيانات وتحليلها ومعالجتها، ثم يكتب الورقة أو المخطوطة، ليرسلها إلى الدوريات والمجلات الطبية، لتُعرض على مجوعة من الباحثين الخبراء لمراجعتها. تسمى هذه العملية “مراجعة الأقران peer review”. حيث تمر الورقة البحثية على ثلاثة أو أربعة مراجعين من نفس التخصص. [1]

وهذه مرحلةٌ حساسة بحق، ستتعرض لكم كبير من الانتقادات والأسئلة، لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟ ألا تعتقد أن هنالك تفسيرًا أفضل لنتائجك؟ حيث تتعرض الورقة في هذه المرحلة إلى الكثير من التغييرات، لتُقبل في النهاية، وتُنشر من قبل المجلة!

هذه هي العملية باختصار من الألف إلى الياء، عملية طويلة وبطيئة، لكنها تضمن الحصول على ثمرة ونتيجة جيدة.

ماذا عن المسار البحثي الصناعي؟ تهدف الشركات الدوائية من خلال أبحاثها إلى اختبار فعالية منتجاتها وإثبات جودتها، لذلك قد تلجأ بعض الشركات إلى الكذب والتزوير! ولكن المساران لا يختلفان عن بعضهما إلا بنقطة واحة، هي التمويل. فالشركات الدوائية تمول أبحاثها بنفسها ولا داعي للبحث عن مصدرٍ للتمويل. أما باقي الخطوات فهي نفسها تمامًا، اجراء التجارب وجمع البيانات وتحليلها وكتابة الورقة ونشرها.

عملية النشر

يعتقد الناس أن الباحث يتلقى أجرًا مقابل نشره ورقةً ما! في الواقع قد يُضطر الباحث لدفع رسومٍ مقابل نشر ورقته. قد تتنازل المجلات الكبيرة عن هذه الرسوم، أو تكون عملية النشر فيها مجانية، لكن في جميع الأحوال لا يحصل الباحث على أي أجر. لا تمنحك المجلات وصولًا مجانيًا للمعلومات المنشورة فيها، رغم أن هذه المجلات تُمَولُ من عائدات الضرائب التي تدفعها أنت! والتي تشكل مصدرًا لتمويل هذه الأبحاث.. ولكن السؤال، لماذا على الباحث أن يدفع مقابل نشر ورقته التي سيقرأه الناس مجانًا؟ سوف نجيب عن هذا السؤال لاحقًا.

إن سمعت عن ورقة بحثية وأردت الوصول إليها، يمكنك الالتفاف على هذه المجلات وتجنب الدفع، وذلك من خلال البحث عنها في المكتبات العامة التي تملك حق الوصول إلى الكثير من المجلات، أو البحث عنه في PubMed، لكن البحث يستغرق سنة أو أكثر حتى يظهر ضمن نتائج البحث! وبالتالي هو غير مناسب في حال كنت تبحث عن ورقة صدرت مؤخرًا. أما الطريقة الثالثة، فهي البحث في Google Scholar، وهي أداة مفيدة بحق. أما الأخيرة، يمكنك التواصل مع المؤلف بشكل مباشر وطلب نسخة منه، تواصل معه عبر البريد الإلكتروني المكتوب على ملخص الورقة، حيث توفر المجلات إمكانية الاطلاع على الملخص فقط، والدفع في حال طلبت الوصول لكامل الورقة. لا يوجد سبب يدفع أي باحث لرفض طلبك هذا.

المجلات مفتوحة الوصول

عظيمةٌ فكرة هذه المجلات، بإمكانك الدخول وقراءة ما تشاء من أوراق مجانًا! لكن هذه المجلات لها وجهان متناقضان، فهي جيدةٌ من حيث توفيرها الوصول المجاني للمعلومات، ونشر هذه الأوراق ليراها عدد أكبر من الناس مما يزيد من أثرها وفائدتها. وكمثال عن هذه المجلات، مجلة PLOS One.

أما الوجه السلبي، فهو أن الباحث مضطر للدفع مقابل نشر ورقته، وتتراوح الرسوم المدفوعة بين 2000 حتى 5000 دولار وربما أكثر! وتستغل بعض المجلات هذا الأمر، مما مهد لظهور ما نسميه المجلات المتوحشة أو المفترسة Predatory Open Access Journals. وهي مجلات علمية مزيفة! تنشر بحثك مقابل المال فقط، لا مراجعة أقران ولا أخلاقيات علمية! لكن لماذا قد يقدم الباحث على خطوة كهذه؟ هذا يدخلنا ضمن دائرة الدوافع الخفية والفاسدة. كباحث، قد تتلقى الكثير من العروض من هذه المجلات المتوحشة للنشر فيها، كيف ستعرف إذًا إن كانت هذه المجلة متوحشة أم لا؟ [2]

هناك عدة طرق لتصنيف المجلات والدوريات العلمية. أولى هذه الطرق هي سؤال زملائك في المجال نفسه عن هذه المجلة، إن كانوا قد سمعوا عنها أو تعاملوا معها. يوجد أيضًا ما يسمى معامل التأثير Impact Factor، وهو معدل الاستشهادات بورقة بحثية معينة تم نشرها في مجلة ما خلال عامين. إذا نُشرت الورقة في مجلة ما واُستُشهد بها مثلًا 50 مرة خلال سنة من نشرها فهو معامل مرتفع!

الكثير من الناس يستشهدون بها، فهي ورقة مهمة إذًا. وإذا أخذت معدل هذه الاستشهادات لكل المجلة يمكنك معرفة عدد الاستشهادات لكل ورقة تنشر على هذه المجلة. وهذا الرقم يعبر عن ترتيب المجلة مقارنة بالمجلات الأخرى. مثلًا، مجلة NEJM أو New England Journal Medicine معامل تأثيرها 72، مما يعني الورقة التي تنشر فيها يُستشهد بها من قبل 72 ورقة أخرى، وهو معامل تأثير مرتفع جدًا. أما المجلات المتوحشة، تملك معامل تأثير أقل من 1. لذا عليك البحث عن معامل التأثير لمعرفة ما إذا كانت الورقة منشورة في مجلة ذات سمعة جيدة أم لا. [3]

ولكن حتى الآن لم نجب سؤال مهم، لماذا قد ألجأ كباحث إلى الدفع مقابل نشر ورقتي؟ ببساطة، لأن عملي يعتمد على كم الأبحاث التي أنشرها، إن طلبت تمويلًا ولم أنشر، فأنا لا أحرز تقدمًا في مسيرتي المهنية، مما يعني عدم حصولي على ترقية، وسيُطلبُ مني المغادرة! وبالتالي هنالك الكثير من الأسباب التي تدفعني لنشر ما أمكن من أوراق، فأنا أريد إثبات تقدمي وجودة عملي وصلاحية فرضياتي وأصالة أفكاري، مما يسهل عملية طلب تمويل لأعمالي اللاحقة، خصوصًا عند ذكر مدى تأثير وجودة أعمالي السابقة.

لدى الشركات الدوائية دوافعها المختلفة، والتي غالبًا ما تكون مادية! فهم يريدون نشر أوراق تجعل منتجهم يبدو ممتازًا، ليدفعوا الناس لشرائه! يوجد بعض القواعد التي تحُدُّ من هذه المشكلة والتي سنتناولها في الأجزاء القادمة من هذه السلسلة.

ختام القول!

الورقة العلمية هي نتاج عملية طويلة من البحث والمراجعة. لن تكون على اطلاع بمراحل هذه العملية، سترى المنتج النهائي فحسب! حتى المراجعون الأقران لن يكونوا على اطلاع بكثير من تفاصيل هذه الرحلة الطويلة أيضًا.

لكن عليك أن تدرك أن هرم الأبحاث الطبية ليس هيكلًا زجاجيًا نقيًا وخاليًا من الشوائب! على العكس، هنالك دوافع وعوامل تلعب دورًا في جعل ما تقرأه غير موثوقٍ أبدًا كما تعتقد، منها أجنداتٌ اقتصادية أو سياسية وإيديولوجية، وجميعها تشجع على إساءة الأمانة العلمية!

قد يهمك أيضًا: الأدوية اليتيمة بين التحدّيات الكبيرة والضرورات الملحّة

المصادر:

  1. What is peer review?. (2020). Retrieved 21 September 2020, from here.
  2. Shen, C., & Björk, B. (2015). ‘Predatory’ open access: a longitudinal study of article volumes and market characteristics. BMC Medicine13(1). from here.
  3. Subject and Course Guides: Measuring Your Impact: Impact Factor, Citation Analysis, and other Metrics: Journal Impact Factor (IF). (2020). Retrieved 21 September 2020, from here.
  4. Reasons for Research. (2013). Retrieved 21 September 2020, from here.
  5. U.S. Investments in Medical and Health Research and Development 2013 – 2017. Available here [Accessed 21 September 2020].
  6. Understanding Medical Research Course. Coursera. (2020). from here.

البحث العلمي كوسيلة لحل احتجاجات تشيلي

دور البحث العلمي في حل احتجاجات تشيلي

بعد ثوان قليلة من انفجار قنبلة الغاز المسيل للدموع بجانب مارسيلو جاك، أصبح التنفس عصيّاً وبدأت الجموع بالاختناق، فبدأ جاك – عالم فلك في جامعة لا سيرينا في تشيلي، بالركض مع زميله سعياً للأمان بعد أن سادت حالة الاختناق والإقياء أو الإغماء بين صفوف المحتجين. الاحتجاج الذي كان مخططاً أن يكون سلمياُ سرعان ما تم تفرقته بالقنابل المسيلة للدموع ورشاشات المياه من قبل الشرطة.

القشة التي قصمت ظهر البعير

في الثامن عشر من اكتوبر، اندلعت الاحتجاجات في مفترق مدن تشيلي تعبيراً عن الاحتجاج عن ارتفاع سعر تذكرة المترو في سانتياغو العاصمة بمقدار 30 بيزو، ما يعادل 0.04 دولاراً. ورغم سحب رئيس الجمهورية لهذا القرار بعد ثورة الشعب إلا أنها كانت القشة التي أنهكت الناس بعد عقود من عدم التساوي الاقتصادي-الاجتماعي والفساد الحكومي. كما كشف المحتجون عن فضائح بالرشاوي، وزيادة تكلفة التعليم والعناية الصحية، وعبروا أن الذل الذي يتعرض له المتظاهرون كأمثلة مصغرة عن قلة كرامة الشعب لدى حكومته الديكتاتورية التي استلمت السلطة في التسعينات.

إن سياسات الحكومة ساهمت في توسيع الفجوة بين التشيليين منذ 1990، إذ ما نسبته 1% من أثرياء البلد تكسب 33% من الدخل الوطني بينما يكسب %70 من العاملين شهرياً ما يعادل 500 دولار أو أقل ورواتب تقاعدية لا تتجاوز 150 دولار.
أن مسار الثورة أخذ طابعاً عنيفاً، وذلك لم يوقف المتظاهرين إلا أنه عزز الخوف بينهم. ومع إغلاق الجامعات ومشاركة الطلاب في الاحتجاج، نشر عالم فيزياء فلكية من جامعة لا سيرينا، فاكوندو غوميز، ورقة الكترونية احتجاجية مع زملائه بسبب احتجاز ثلاثة طلاب من جامعتهم وتعذيبهم وإهانتهم بالإضافة لتهديدهم بالرمي في النهر.

قوية علمياً، ضعيفة سياسياً

انضم الباحثون والعلماء أيضاً لثورة الشعب، ومن ناحية ثانية، أدركوا أن المجتمع العلمي في تشيلي لديه ميزة تغيير مجريات الأمور، ويتحمل بعض المسؤولية للمساعدة في حل الموقف الاجتماعي والسياسي الحالي. كان هذا حافزاً لبعض الباحثين بتنظيم لقاءات مع ممثلي الحكومة لحل القضايا الاجتماعية والاقتصادية في تشيلي. خصوصاُ وأن الشارع يطالب بتغييرات عميقة وشاملة تصل إلى تغيير الدستور الذي أقرته الحكومة منذ تأسيسها.

يقترح الباحثون أن إعادة هيكلة تمويل الأبحاث العلمية قد يساعد في حل المشكلة، تناولت أحد الافكار تقييم العلماء للحصول على التمويل الحكومي، إذ تكون الأولوية للأبحاث التي يمكن أن تحسن المستوى المعيشي على المستوى المحلي والوطني، وهذا سيحفز الباحثين لتوجيه العمل على قضايا تهم السكان، كحل مشكلة أزمة المياه الحالية ودراسة فقر التجمعات السكانية المحيطة بالمدن الكبيرة من أجل مساعدتها.

تفتقر تشيلي للتكامل بالتخطيط على المستويين العلمي والسياسي، رجوعاً لعام 2015، مع موجة احتجاجات بين الباحثين إثر استقالة مسؤول التمويل لأكبر مؤسسة علمية في البلاد، وهي اللجنة الوطنية للبحث العلمي والتقني. صرح المسؤول المستقيل فرانسيسكو بريفا أن خططه لإنعاش الاستثمار المحلي في العلم باءت بالإحباط، بسبب البيروقراطية الخانقة على حد تعبيره. تعتبر تشيلي مصدراً لمخازن متنوعة للثروات الطبيعية واقتصادها قوي وثابت إلا أنها لا تعطي شأناً للموارد النافذة، وعلمياً، تركز على الفوائد القصيرة الأمد بدلاً من تطوير مناهج علمية تحسن إمكانيات البلاد بمجرد نفاذ النحاس والذهب ومنتجات الأسماك. تستثمر تشيلي أقل من 0.4% من ناتجها المحلي الإجمالي في العلوم، مقارنة مع 2.8% للولايات المتحدة و1.7% في البرازيل، عموماً، إن دولة البرازيل هي الوحيدة بين دول امريكا اللاتينية التي تستثمر أكثر من 1% من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث العلمي.

إلى الآن، تحدث أكثر من خمسين عالماً إلى أعضاء مجلس الشيوخ حول مناقشة المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، والبعض الآخر يتساءل عن الميزانية الكافية للأبحاث، وهل هذا سيدفع فقط بعض المراكز العلمية للعمل بالدعم المحلي والدولي وماذا سيحلّ بالمراكز الأخرى.

Exit mobile version