ما هو الجدول الدوري وما أبرز معالمه؟

يعد الجدول الدوري بالدرجة الأولى واحدًا من رموز العلم؛ فلم يتوقع ديمتري مندلييف أن ملاحظته لتشابه عدة عناصر كيميائية في الخواص وتدرجها بالوزن الذري ومحاولته تفنيدها وفقًا لذلك في مجموعات أنه سيبدأ بعملٍ خالدٍ ومرجعيٍ يعود له الباحثين والعلماء في الكيمياء.

من المعروف بأن من هو على اطلاع بالفن له نظرة خاصة ونوعية للّوحات الفنية لا يملكها العوام. فالفنان لا يرى لوحة الموناليزا مثلًا كامرأة متهكمة بملامح باردة، بل يثّمنها لأنه عليم ملمٌ بمواطن الإبداع والعبقرية فيها.

كذلك الأمر عند حديثنا عن الجدول الدوري، فهو لوحة فنية بعيون الكيميائي، نجمت عن جهود متراكمة لعدد من العلماء على مدار أعوامٍ من العمل الدؤوب المتواصل. إذًا، كيف تم ترتيب هذه العناصر؟ وعلى أي أساس؟ وهل اكتشفنا جميع العناصر وحصرنا عددها أم لم ننتهي بعد؟

لمحة عامة عن الجدول الدوري

اكتسب الجدول الذي يجمع العناصر الكيميائية لفظة “الدوري” للدلالة على ترتيب العناصر فيه بشكل متسلسل متدرج بالحجم -بازدياد نصف القطر الذري– في الدور الواحد (السطر الأفقي)، مع ترتيب العناصر في أعمدة (سطور رأسية) بناءً على العدد الذري، والتوزيع الالكتروني والخواص الكيميائية. سمح ذلك للباحثين بالتنبؤ بخواص عناصر لم تُكتشف أو تُدرس بعد بحسب موقعه المُمَهد له في الجدول الدوري!

يضم الجدول الدوري 7 أدوار (سطور) و18 فصيلة (عمود)، ويسوده المعادن ثم أشباه المعادن واللامعادن. وبالنظر للتوزيع الإلكتروني في الطبقة السطحية، يعبر العمودين الأوليين في جهة اليسار عن المعادن القلوية عن “القَطَّاع s”، أما الأعمدة الستة في جهة اليمين تعبر عن “القَطَّاعp “. والعناصر التي في أوسط الجدول “القَطَّاعd “، وأخيرًا، العناصر التي في أسفل الجدول ومنفصلةٍ عنه “القَطَّاعf”.

مراحل تطور الجدول الدوري تاريخيًا

قام مندلييف بوضع نموذج أولي بسيط للجدول الدوري في ستينات القرن التاسع عشر، ليعرض ابتكاره على الجمعية الكيميائية الروسية عام 1869 لتعتمده الأخيرة وتنشره.

عصر المفاعلات النووية

بحلول عام 1940 تم اكتشاف 92 عنصرًا في الطبيعة انتهت بأثقلها “U – اليورانيوم “. إلا أن شغف العلماء والباحثين قادهم إلى تصنيع 26 عنصرًا جديدًا في المفاعلات النووية عبر ما يعرف بتفاعلات الاندماج النووي (دمج نواتي ذرتين لخلق ذرة جديدة). ولمّا كانت النواتين الداخلتين في التفاعل النووي موجبتي الشحنة، وجب تطبيق قوة تفوق التنافر الكهربي الساكن بين الشحنتين المتماثلتين. وقوة التنافر تلك تزيد عن قوة انفجار الديناميت TNT بملايين المرات، لذلك عملية التخليق أو التصنيع النووي ليست ببساطة عملية تصنيع مركب كيمائي [1].

تمت دراسة بعض هذه العناصر كيميائيًا وإضافتها جميعًا للجدول الدوري، ودعيت لاحقًا “بعناصر ما بعد اليورانيوم” لأنها تَلي عنصر اليورانيوم في الجدول الدوري. وفي نفس العام، تم تصنيع العنصر (93) “Np – النبتونيوم” والعنصر (94) “Pu – البلوتونيوم” ثم تصنيع كل من “Am – الأمريكيوم” (95) و”Cm – الكوريوم” (96) عام 1944 [1].

غلين سيبورج ومساهماته في الجدول الدوري

اعتقد العلماء بإمكانية وضع العناصر الجديدة في أوسط الجدول الدوري، إلا أنه كان ل «غلين سيبورج» رأيٌ مختلف. إذ تنبأ غلين وفقًا للتوزيع الإلكتروني للعناصر الجديدة بخواص جديدة ومتفردة ، بناءً عليه، اقترح نموذجًا للجدول الدوري تكون فيه تلك العناصر بدورين (سطرين) أسفل الجدول الدوري. ووضع غلين العناصر الجديدة بمعزلٍ لتحري التبسيط في العرض وهما اللانثانيدات والأكتيندات على الترتيب، وهو ما تم تأكيده بمرور الوقت والعمل به. ليستحق غلين بذلك جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951 مناصفّةً مع ماكميلان؛ فضلًا عن جهودهما الرائدة في تصنيع 9 عناصر ما بعد اليورانيوم. ولعل تشريف اسم غلين سيبورج في عنصر “Sg – السيبورجيوم” يرقى عن الذي تكتنفه جائزة نوبل [1].  ليتوالى بعدها تخليق عناصر جديدة منتهيةً بآخر عنصر “Og – الأوغانيسون” عام 2016 ذو العدد الذري (118).

ومنذ ذلك الوقت عكف العلماء والباحثين على تخليق عناصر جديدة ذات العدد الذري (119) و(120)، إلا أنه ولسوء حظوظهم، لم تتكلل جهودهم بالتوفيق إلى يومنا هذا. معتبرين بأن النتائج المنشودة تتطلب فهمًا أكبر للتفاعلات النووية وفيزيائها. كما أنها فرصة مناسبة لنَذكر بأن عالمنا سيبورج نفسه تنبأ عام 1969 باتساع الجدول الدوري في المستقبل ليحتوي على (172) عنصر مما يتوجب إضافة دور (سطر) ثامن له، مع ضرورة وضع العناصر ذات العدد الذري التي تساوي (120) وتزيد عنه في قَطّاع جديد ” القَطَّاع g ” نظرًا لاختلاف التوزيع الإلكتروني في طبقتها السطحية، ومنه اختلاف في الخواص الكيميائية [2]. كما تم اقتراح نموذجين جديدين للجدول يتلاءما مع هذا التحديث [3].

عصر النكليدات Nuclides

تُعرف النكليدات بأنها مفهوم محيط ولفظ عام للنظائر، والنظائر هي عناصر لها نفس العدد الذري ولكن باختلاف العدد الكتلي. فمثلًا لذرة الكلور نظيرين في الطبيعة لهما الكتلتين 37 و35. للإيضاح، تخيل عزيزي القارئ لو أنه زاد وزنك مؤخرًا، فهل ستتغير شخصيتك ومعتقداتك وأفكارك؟ بالطبع لا، إذًا لا يوجد اختلاف في الخواص الكيميائية بين نظيري الكلور، وإنما في الكتلة والنشاط الاشعاعي. بتطور العلم استطاع البشر تصنيع ما يزيد عن 4000 نكليد من أصل 118 عنصر! [4]

للنكليدات استخدامات مختلفة في الطب والبحث العلمي والتحليل الكيميائي، وغيرها. وقصارى القول، إن فهم الجدول الدوري واتساقه وتطوره، يمنحنا فكرة متواضعة عن مدى تطور فهم البشرية للكيمياء بمرور الوقت. ويبقى السؤال المُحير، هل للجدول الدوري نهاية؟ أم أنه مترامي الأطراف بانتظار زيادة علمنا فيزداد اتساعًا؟!

المصادر

1. Periodic Table & Transuranium Elements Lesson Plan (acs.org)

2. The continuation of the periodic table up to Z = 172. The chemistry of superheavy elements | SpringerLink

3. Periodic table of elements revisited for accommodating elements of future years on JSTOR

4. Karlsruhe Nuclide Chart – New 10th edition 2018 | EPJ N (epj-n.org)

كيف تطور مفهومنا عن الذرة؟

فكرة الذرة فكرة قديمة قدم الفكر البشري، فلطالما تساءل الإنسان عن أصغر شيء ممكن، وعن مما تتكون المادة، واليوم سنقص عليكم قصة تطور المفهوم البشري عن الذرة، وكيف توصلنا إلى النموذج الحالي.

«ديموقريطوس-Democritus»

كان الفيلسوف اليوناني ديموقريطوس من أوائل الفلاسفة الذين قاموا بتقديم نموذج للذرة، حيث افترض ديموقريطوس أنك تستطيع تقسيم المادة إلى أجزاء صغيرة وتستمر في هذه العملية إلى أن تصل إلى جزء صغير جدا من المادة لا يمكن تقسيمه إلى أجزاء أصغر، وكانت هذه هي الذرة عند ديموقريطوس.

«أرسطو-Aristotle»

رفض أرسطو فكرة الذرة، ورأى أن كل المواد في الكون تتكون من عناصر الطبيعة الأربعة، وهي الهواء والماء والأرض والنار، إلا أن هذه الفكرة الغير علمية تسببت في تعطيل حركة البحث العلمي لما يزيد عن 1000 عام.

«روبرت بويل-Robert Boyle»

كان بويل هو أول من افترض فكرة العناصر، حيث قال أن هناك عناصر محددة في الطبيعة ولكل عنصر منها صفاته المميزة، ووضع تعريفًا للعنصر الكيميائى حيث قال أن المادة التي يمكن تقسيمها إلى مادتين أو أكثر لا تعتبر عنصرًا.

«جون دالتون-John Dalton»

أكمل دالتون على أفكار من سبقوه وصاغ نظريته عن الذرة، ونلخص لكم نظريته في الخمس نقاط التالية:

• كل المواد تتكون من جزيئات صغيرة محددة تُدعى الذرات.
• الذرة غير قابلة للرؤية أو التدمير والتفكيك.
• كل الذرات لنفس العنصر تتشارك صفات متطابقة، بما في ذلك الوزن.
• الذرات للعناصر المختلفة لها كُتل مختلفة وصفات مختلفة.
• تتكون المركبات من اتحاد ذرات العناصر المختلفة بنسب ثابتة بأرقام صحيحة.

«جوزيف جون طومسون-Joseph John Thompson»

السير جوزيف جون طومسون، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء، وهو مكتشف الإلكترونات، ولكن كيف اكتشفها؟

اكتشف طومسون الإلكترونات عن طريق «تجربة أشعة الكاثود-Cathode rays experiment»، حيث قام بتفريغ أنبوب زجاجي من الهواء، ووضع قطبين كهربائيين على طرفي الأنبوب، ثم قام بشحن أحد القطبين ولاحظ انطلاق أشعة متوهجة من الكاثود (القطب سالب الشحنة) باتجاه القطب الآخر.

ولاختبار خصائص أشعة الكاثود تلك، قام طومسون بوضع صفيحتين حول الكاثود، واحدة ذات شحنة موجبة والأخرى سالبة، فانطلقت أشعة الكاثود باتجاه الصفيحة ذات الشحنة الموجبة.

فقام بوضع استنتاجات هي:

• أشعة الكاثود تتكون من جزيئات ذات شحنة سالبة.
• يجب أن تتواجد تلك الجزيئات كجزء من الذرة حيث أن كتلة الجزيء الواحد منها تساوي 1/2000 من كتلة ذرة الهيدروجين (أصغر الذرات).
• يمكن إيجاد هذه الجزيئات ما دون الذرية في أي ذرة من ذرات العناصر المختلفة.

وعُرفت هذه الجسيمات فيما بعد باسم الإلكترونات.

«إرنست رذرفورد-Ernest Rutherford»

قام رذرفورد بتجربة مدهشة نقلت مفهومنا عن الذرة نقلة كبيرة، حيث قام بإحضار مصدر لأشعة ألفا (أشعة موجبة الشحنة)، ووضعه أمام طبقة من الذهب، ثم قام بإطلاق أشعة ألفا باتجاه الذهب، فلاحظ ثلاث ملاحظات:

• جزء من أشعة ألفا انطلق في خط مستقيم وعبر حاجز الذهب بدون انحراف
• جزء آخر انعكس وعاد إلى الخلف.
• جزء صغير من الأشعة عبر إلى الاتجاه الآخر ولكن مع انحراف في مساره.

وكان تفسير الجزء الذي عبر بدون انحراف هو أن معظم الذرة عبارة عن فراغ، أما الجزء المنعكس فكان نتيجة لاصطدام أشعة ألفا الموجبة بأجسام موجبة داخل الذرة، وأما تفسير انحراف الجزء الضئيل من أشعة ألفا هو التنافر بين الأشعة وبين تلك الجسيمات الموجبة.

وهذه الجسيمات الموجبة عرفت فيما بعد باسم البروتونات.

«دي برولي-De Broglie»

قال دي برولي أن الجزيئات الصغيرة مثل الإلكترون يمكن معاملتها على أنها جزيء وموجة في آن واحد، حيث تمتلك خواص الاثنين، وهو ما يعرف ب«الطبيعة المزدوجة-Dual nature».

«ويرنر هايزنبيرج-Werner Heisenberg»

إحدى أسس ميكانيكا الكم هو مبدأ الريبة لهايزنبيرج، حيث قال هايزنبيرج بمحدودية المعلومات الممكن الحصول عليها حول أي نظام كمّي، فيستحيل معرفة موقع الإلكترون وسرعته في نفس الوقت، إما هذا أو ذاك، ولكن لا يمكن معرفة الاثنين معًا.

النموذج الحديث

قال «نيلز بور-Niels Bohr» بوجود 7 مستويات طاقة يمكن للإلكترونات التواجد فيها حسب طاقتها، وتأخذ في ترتيبها الحروف (K,L,M,N,O,P,Q)، وأن الإلكترون يمكنه أن ينتقل من مستوى إلى آخر عن طريق اكتسابه كمية من الطاقة تُدعى «الكم-quantum»، وهو شيء صحيح، لكنه افترض عدم إمكانية وجود الإلكترون بين هذه المستويات، إلا أن هذا الافتراض تمت تخطئته باكتشاف المستويات الفرعية (s,p,d,f)، وهذه المستويات الفرعية تحوي عددًا من «المداريات-orbitals» تختلف في أعدادها حسب طاقة كل مستوى فرعي، وهو ما دفع الفيزيائيين إلى القول بوجود ما يسمى ب«سحابة الإلكترونات-Electron cloud»، وهي عبارة عن عدد من المواقع التي تزداد فيها احتمالية تواجد الإلكترون حول الذرة.

في الختام

تطور التصور البشري عن الذرة على مدار فترة تزيد عن 2500 سنة، وكل خطوة يخطوها الإنسان في سبيل المعرفة تزيد من معرفته وتطورها، فنقف على أكتاف معرفة الماضي لنرى أبعد مما رأى من سبقونا، وتأتي الأجيال الجديدة لتقف على أكتاف الجيل الحالي، وهكذا تتطور المعرفة البشرية.

المصادر

britannica
britannica
britannica
britannica
britannica
britannica
britannica
britannica

Exit mobile version