نستطيع وصف الحداثة بأنها من أكثر الأساليب تفاؤلًا في التاريخ المعماري نتيجة اعتمادها على الابتكار، وإعادة النظر في كيفيّة عيش الناس وعملهم وتفاعلهم مع بعضهم. ولا تزال فلسفة الحداثة تهيمن حتّى اليوم على الكثير من الأعمال المعمارية، بالرغم من أن العوامل التي تسببت في ظهور الحداثة قد تغيّرت تمامًا. وقد نشأت العمارة التعبيرية كمدرسة من مدارس الحداثة وأثّرت وتأثّرت بالعمران من حولها. فماذا يقصد بالعمارة التعبيرية؟ وبم تتميز؟
محتويات المقال :
تعد التعبيرية أسلوبًا فنيًا يسعى فيه الفنان إلى تصوير المشاعر والاستجابات الذاتيّة التي تثيرها الأشياء والأحداث داخل الشخص عوضًا عن تصوير الواقع الموضوعي. وحقّق الفن التعبيري هدفه من خلال التشويه والمبالغة والبدائيّة والخيال. وبدأت الموجة الرئيسية للتعبيرية حوالي عام 1905 عندما شكّلَت مجموعة من الفنانين الألمان جمعية دعوها بالجسر. ووقف هؤلاء الرسامون في ثورة ضدّ ما اعتبروه الطبيعة السطحية للانطباعية والأكاديمية. [2]
وتميّزت «العمارة التعبيرية -expressionist architecture» بأشكالها الحيوية والعضوية والعاطفية التي حدّدت نمطها. واستكشفت العمارة التعبيرية الإمكانيات التقنية الجديدة التي ظهرت بسبب الإنتاج الضخم للصلب والزجاج، وأثارت تجمّعاتٍ ومبانٍ غير عاديةٍ ورؤىً مثالية.[1]
أدّى الدمار المادي والبشري الهائل بعد الحرب العالمية الأولى إلى خلق واقع يصعب تحمله، ففي تلك السنوات جمد الواقع وخلا من المشاعر والأحاسيس. ولذلك نشأت العمارة التعبيرية كطريقة للتعامل مع مشاكل أوائل العشرينيات، إذ سعت بشدة إلى البحث عن واقع وحس جديد بالحياة. وشعر المعماريون بضرورة أن يتصرّفوا نيابةً عن المجتمع، واعتقدوا أن تحقيق سعادة الناس سيكون من خلال البناء. فلم يعد التمثيل هو الهدف الرئيسي للفن بل أصبح التعبير عن الذات الروحية الداخلية هو الغاية وأصل التصميم.
قبل كل شيء، رفضت التعبيرية الآلة كأساس للإبداع الفني، وتركوا أيديهم ترسم التصاميم تلقائيًا. وحاولوا أيضًا استبعاد العقل من المشاركة في الرسم، إذ أرادوا تحويل الروح إلى واقع، فلا يشعر المرء داخل مباني العمارة التعبيرية بأنه محاط بالجدران والسقف ولكنه يشعر بوجود غشاء يحيط به، يوجب عليه استخدام حواسه لفهم مكان وجوده. ولذلك كانت عمارتهم مبهجةً للفكرِ، فعن طريق الشعور وجد المعماريون التعبيريون حداثتهم. [3]
نشأت العمارة التعبيرية مع مدارس حداثية مثل مدرسة «الباوهاوس-bauhaus» ولكنها لم تستوح من الخطوط المستقيمة النظيفة لبنية الباوهاوس. بينما فضّلت أعمال معماريين مثل «فرانك لويد رايت-Frank Lloyd Wright » و«أوتو فاغنر-otto wagner» وبالأخص مدرسة «الفن الجديد-art Nouveau» لأنها رفضت أساليب البناء الصناعي وعرضت شوقًا رومانسيًا إلى حدٍ ما في الهياكل الزخرفية الطبيعية. وبشكل عام استلهم المعماريون من الأساليب التي اعتمدت الزخرفة، وأيضًا من عمارة الشرق الأقصى. [1][3]
شكّلت مجموعة من المعماريين حلقةً سحريةً بينهم ضمن العالم الصناعي من حولهم. وتشارك معظم الأعضاء الرغبة بتصميم مبانٍ ذات مقاييس أكبر، من شأنها أن تجمع الفنون معًا. ويمكن القول بأن جوهر المشاريع كان فنيًا وليس معماريًا لأنها لا تهدف في المقام الأول إلى أن تتحقق. ولكي يفهم شخص ما تصميم مبنىً عليه فقط أن يتبع محيط الشكل بعينيه.
استخدم المعماريون الزجاج بكثرةٍ حيث رمز إلى وعي وتصميم أوضح واعتبروه توضيحًا للروح. واعتقدوا بأن الزجاج يمكن أن يكون محفّزًا اجتماعيًا حيث تجبر هذه المادة الشفّافة المستخدمين على التواصل باستمرار مع بيئتهم سواءً كانت الطبيعة أو الجوار المبني. واعتقد البعض بأن الزجاج يشبه العاطفة ويشير إلى مساحة لا نهائية في شكله وهكذا أصبح الزجاج رمزًا للحياة الجديدة. ومن جهةٍ أخرى، استخدم بعض المعماريين الطوب بكثرة كذلك، لأنه يشير إلى الحرفة التقليدية، وفي بعض الأحيان كان أكثر ملاءمةً للمناخ. على سبيل المثال chile house في مدينة هامبورغ 1923 من تصميم فريتز هوغر. يستحضر المبنى صورة سفينة بزواياها الحادة، وبصفة عامة يلمح الشكل إلى العديد من الصور الأخرى مثل الأسماك.
وقد تبدو العديد من التصاميم التعبيرية وكأنها على استعداد للمغادرة وذلك لكي توحي بالتحول والتسامي. وانتشرت أفكار المعماري «هيرمان فينستيرلين- Hermann Finsterlin» الذي كان مفهومه للعمارة بيولوجيًا تقريبًا، فقد اعتبر أن تصاميمه هي كائنات حية طبيعية مجمعة من أشكال أساسية. [3]
يعدّ المعماري الألماني «إريك مندلسون-Erich mendelsohn» من أبرز روّاد العمارة التعبيرية. وقد كُلّف بتصميم برج أينشتاين، فرسم مندلسون العديد من الرسومات في محاولةٍ لخلق بنيةٍ ديناميكيةٍ من شأنها أن توحي بنظريات أينشتاين. وانتهى تصميم المرصد الفلكيِّ على شكل برج مرفوع فوق مصطبة ضمّت المختبرات، وتشير بشكلها إلى موجة. واستخدم مندلسون الزوايا المنحنية إضافةً إلى قبّة تسمح للراصد بمراقبة السماء. وحاول تمثيل الطاقة من خلال كتلة المبنى، فشكل البرج يوحي للبعض بقدرته على الحركة أو القفز إلى الأمام. ويعد المبنى من أشهر مباني العمارة التعبيرية حتّى يومنا هذا.[4]
اختلفت العمارة التعبيرية الهولندية عن الألمانية، ونُظر إلى التصميم في المقام الأوّل على أنه صراع فردي داخلي من رؤية المهندس المعماري ضد المواد وواقع البناء. وامتازت عمارتها بالتركيز على القوّة في شكل المباني، وصمّمت المباني وفقًا للنمو العضوي في الطبيعة ونتيجةً لذلك أصبحت تشبه النحت. واستخدم المعماريون الطوب والبلاط المشكّل يدويًا بألوان مختلفة وشكّلت مع المداخن والشرفات والأبراج والزخرفة إضافات نحتية. وبهذه الطريقة حوّلوا الأجزاء الوظيفية من المباني إلى جوانب رمزية عبّروا بها عن بهجة الحياة اليومية.
استخدم المعماريون بشكل عام خطوطا بسيطة وحازمة ولكنها مفصّلة في إيقاعات متقطّعة ممّا سمح لهم بعرض العاطفة في تصاميمهم، ومنحت مبانيهم طابعًا فريدًا. وعكست مباني التعبيرية الهولندية الحنين إلى النسيج الاجتماعي في القرون الوسطى. وحاول بعض المعماريين ومنهم بييت كرامر وميشيل د.كليرك تجديد تقاليد الإسكان الجماعي الهولندية القائمة بدلًا من اختراع شيء جديد تمامًا. فاستخدموا المواد التقليدية وأنظمة البناء على حساب المواد والهياكل الصناعية الجديدة. [3]
تعتبر عقارات Eigen haard للإسكان من تصميم ميشيل د.كليرك من أشهر مباني التعبيرية الهولندية. واستعمل البلاط والطوب متعدد الألوان لتوفير الانطباعات اللازمة. وتؤكّد الأشكال الأسطوانية على زوايا المباني، واستخدمها للتعبير عن المداخل المشتركة. كما تهدف أشكال الأبراج إلى التعبير عن طبيعة القرية، وبصفة عامة يشير مجمّع البناء بأكمله وتفاصيله إلى بقايا من ثقافات العصور الوسطى الماضية.[3]
لم يقتصر وجود العمارة التعبيرية على ألمانيا وهولندا بل انتشرت في العديد من الدول الأخرى مثل النمسا والتشيك والدنمارك. وتشتهر مدينة كوبنهاغن بكنيسة «غروندفيغ-Grundtvig» من تصميم «بيدر جنسن كلينت- peder jensen klint» وأثار جنسن كلينت في تصميمه نوعًا من الرومانسية القومية إذ دمج بين الشكل التقليديّ للكنائس والتقاليد الدنماركية مع التعبيرية. فعكس تصميم الكنيسة بمداخلها وعناصرها الرموز الدينية. كما احترم قوانين البناء لذلك استخدم الطوب الأصفر المصنوع يدويًا، واعتمد كذلك على النسب التقليدية. وتكاد تخلو جدران الكنيسة من أيّ زخرفة، فأصبحت نصبًا تذكاريًا للثقافة الدنماركية والروح التعبيرية.[5]
أدّى كلٌ من إعادة الاستقرار الجزئيّ في ألمانيا بعد عام 1924، والواقع السياسي الجديد، والواقعية الاجتماعية إلى تسريع تراجع التعبيرية في أواخر العشرينيات. ولكن يمكننا القول بأنه تمّ القضاء على التعبيرية بعد وصول النازيين إلى السلطة وتحديدًا عام 1933. حيث وصفت مجمل الأعمال التعبيرية بأنها منحطّة، ومُنعت من النشر أو العرض أو حتّى العمل بها. وفي نهاية المطاف ذهب العديد من روّاد التعبيرية إلى المنفى في أمريكا وبلدان أخرى.[2]
ختاما، جسّدت العمارة التعبيرية فكرًا معماريًا مختلفًا تمامًا عن حركات الحداثة الأخرى، وأصبحت إحدى المدارس المعمارية المبدعة في فترة العشرينيات فكانت مصدرًا للإحساس والشعور وسط الزخم الصناعيّ والآليّ.
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…