Ad
هذه المقالة هي الجزء 12 من 13 في سلسلة كيف نشأت الحداثة وغيرت من شكل المعمار في عصرنا؟

من قد يرغب في العيش في مبانٍ تعود للعمارة الوحشية Brutalist architecture خاصة من تضرّر أكثر من غيره من وحشية الحرب العالمية الثانية؟ حسنًا! احتلَّت العمارة الوحشية رغم قصرها كحركة عمرانية مكانةً هامّةً في إعادة تعريف تاريخ العمارة في القرن ال20. وقد ظهر الجانب الأخلاقيّ بوضوح في أعمالها المبنيّة أكثر بكثير ممّا ظهر الجانب الجماليّ.

نشأة العمارة الوحشية Brutalist architecture

تُعتبر العمارة الوحشية أحد جوانب «الطراز الدولي- international style» للعمارة، وتنتمي لعمارة الحداثة التي تنادي بتنفيذ النهج الوظيفيّ في التصميم المعماري. وقد لعب المعماري لو كوربوزييه دورًا مهّمًا في نشوء العمارة الوحشية، وانطوت أفكاره على استخدام الخرسانة والأشكال النحتيّة. بدأت الوحشية كفلسفة ثم تحوّلت إلى نمط معماري. وبدأ تداول «العمارة الوحشية- Brutalist architecture» لأوّل مرّة عام 1954، واستخدمت لوصف أفكار وممارسات عدد صغير من المعماريين الشباب في بريطانيا العظمى. وعُرفت الحركة كذلك باسم New Brutalism، ونشأت من قبل المعماريين «بيتر وأليسون سميثسون- Peter and Alison Smithson» والناقد «رينر بانهام-Reyner banham».

لم يثبت أصل مصطلح الوحشية بشكل موثّق بعد، لكن التفسير الأكثر قبولًا يقدم المصطلح كتعديل للعبارة الفرنسية «الخرسانة الخام-béton brut»، وذلك لوصف الصفات المادّيّة للعديد من المباني في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. تشكّلت هذه الصفات نتيجة النقص العامّ في الوقت والموارد اللازمة للحصول على تشطيبات دقيقة.[1][2] والتشطيبات المعمارية هي عملية إنهاء أوجه الحوائط والأرضيات والأسقف والأسطح للمبنى، أي هي السطح الظاهري المنظور من كلّ أجزاء المبنى.

أسباب نشأة العمارة الوحشية Brutalist architecture ؟

ليس مستغربًا أن الجيل الجديد من المعماريين البريطانيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد واجهوا تحدّيًا كبيرًا في الاستجابة للظروف الواقعة. بتعبيرٍ آخر، الموارد المحدودة والطلب غير المحدود. وأخذوا يبحثون عن عمارة تعكس الحياة اليومية للمجتمع البريطاني. عارض سميثسون الاتّجاهات السائدة آنذاك في العمارة، تلك التي توجّهت نحو الزخرفة الحداثية، المسمّاة «بالإنسانية الجديدة- New humanism». وفضّل الوضوح الهيكلي والأشكال البسيطة، وركّز على القيم الأخلاقيّة للعمارة مثل الصدق والحقيقة.

بدأت العمارة الوحشية من قبل مجموعة صغيرة من الناس في مكان صغير نسبيًا، ثم انتشرت في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا. ووصلت كذلك إلى اليابان مع طلاب لو كوربوزييه، وشاعت لاحقًا في أمريكا. واتخذت أشكالًا مختلفةً في كلّ بلد من البلدان. ولقد أثّرت الصحافة المعمارية المعاصرة في تطوّر العمارة الوحشية وانتشار أفكارها. [2][3]

أفكار ومبادئ العمارة الوحشية Brutalist architecture

بدا واضحًا لمعماريي العمارة الوحشية أن العمارة يجب أن تنفصل عن السياسة، وتركّز بدلًا من ذلك على الاحتياجات البشرية في أبسط معانيها. فاستخدموا موادًا خشنةً وتركيباتٍ قد تبدو غير ملائمة، فجسّدت تلك الخصائص الفيزيائية العمارة الوحشية في الرأي العامّ. [2]

بصفةٍ عامة لم تستخدم العمارة الوحشية الإكساءات والجصّ، ويعود ذلك إلى القيم الأخلاقية مثل الحقيقة والصدق والصراحة. حيث كان عرض الطريقة التي شُيِّد بها البناء والمراحل اللاحقة للعملية رمزًا للإخلاص. فكشفوا في كثيرٍ من الأحيان عن وظائف ميكانيكيّة مخفيّة سابقًا، مثل تمديدات الكهرباء والماء وأنابيب الصرف الصحّيّ وغيرها. في الواقع، إنّ المباني الوحشية حتّى حين شُطّبت بسلاسة بدت فجةً وعاديّةً، وهذا ما اعتبره بعض النقّاد انحرافًا متعمّدًا.[2][3]

ظهرت فكرة «كما وجد-as found» أي إدراك الواقع بطريقة موضوعيّة تمامًا والعثور على قيمة لأيّ مادّة بغضّ النظر عن حالتها. نتيجةً لذلك، اعتبرت حتّى الأشياء الرخيصة والأماكن المبتذلة مصدر إلهام لهم. ولم يعطِ المعماريون معانيَ إضافيّةً أو رمزيّةً للموادّ، ورفضوا النزعة إلى تجميل الأسطح.[3]

قدّر معماريو العمارة الوحشية أساليب البناء الحرفيّة أكثر من الآليّة على الرغم من استخدامهم أيضًا لأساليب التصنيع المسبق. وأرادوا إظهار أن المباني من عمل أيادٍ بشريةٍ لذلك صنعوها في كثير من الأحيان بطريقة غير دقيقة إلى حدٍ ما. في بعض المباني لم تكن عيوب السطح ظاهرةً فحسب بل سلّطوا الضوء عليها. بشكل عامّ لا تُعدُّ الوحشية حركةً متجانسةً إذ ظهرت فيها العديد من الاختلافات. فقد فضّل بعض المعماريين الأسطح الدقيقة للغاية ولم يسمحوا بعيوب النسيج والموادّ منخفضة الجودة، واستبدلوا مبدأ كما وجد مع مرور الوقت.[3]

خصائص العمارة الوحشية بحسب بانهام

اهتمّ معماريو العمارة الوحشية بإنشاء واجهات تعكس وظائف المبنى على حساب الواجهات الزخرفية. وكتب رينر بانهام عام 1955 الخصائص التي يجب أن يمتلكها البناء لكي يعتبر عائدًا للعمارة الوحشية:

  • العرض الواضح للهيكل، فتُحذَف الطبقات الخارجية الإضافية لأنها تخفي الشكل الأصلي وموادّ البناء الأساسية.
  • تقييم المواد كما وجدت as found.
  • التذكُّر كصورة؛ أي ينبغي أن يهدف تصوّر عمل معماري ما إلى تذكّر تجربته الشاملة والواضحة.
  • الوضوح الرسمي للمخطّط؛ أي ينبغي أن يعكس شكل المبنى الترتيب الوظيفي للهيكل والموادّ التي بُني منها.[4]

مواد البناء والخامات

  • بالطبع، اختار معماريو العمارة الوحشية الخرسانة كمادّة البناء الأساسية. بدايةً استعملوا الخرسانة غير المعالجة، حيث يتمّ إزالة الخشب الذي تصلّبت عليه الخرسانة عندما كانت لا تزال في حالتها السائلة ثم تركوا السطح كما هو. اختيرت أحيانًا ألواح الخشب وأحجامها وخشونة سطحها لكي تحقّق تأثيرات أكثر تعبيرًا من خلال تركيبها في مستويات مختلّفة. نذكر على سبيل المثال تصميم كريستينا في جناح المعارض “مخزن الفنّ” سنة 1959-1965. استخدموا لاحقًا أنواعًا مختلفةً من قوام الخرسانة داخل المبنى الواحد كالأسطح الخشنة والناعمة والخرسانة المموّجة والمطروقة.
  • اختار معظم المعماريين الموادّ التي تمنح شعورًا بالثقل نتيجةً لذلك كان الطوب المادّة الثانية الأكثر شعبيةً في العمارة الوحشية. غالبًا ما استخدم كحشو بين الإطارات الخرسانية.
  • استخدموا كذلك موادًّا طبيعيةً مثل الخشب والحجر. في بعض الأحيان استخدِمت كعناصر تزينية للواجهة أو للداخل، الأمر الذي اعتبره بعض النقّاد إنكارًا لمبدأ الصدق.[3] من الأمثلة على ذلك متحف «ويتني-whitney» الذي صمّمه «مارسيل بروير-marcel breuer» سنة 1966 في نيويورك. شيِّد المتحف من الغرانيت، وخلق تصميمًا فريدًا بتوسّعه أثناء الارتفاع بالطوابق، مع نوافذه السبعة متعدّدة الأضلاع.[5]
  • استعملوا أحيانًا الصفائح المعدنية في المراحل الأخيرة من العمارة الوحشية، وكثيرًا ما كان سطحها داكنًا.[3]
تصميم krystyna rozyska-tolloczko في جناح المعارض في krakow.
متحف Whitney سنة 1966 في نيويورك.

مدرسة Hunstanton في إنجلترا

تعتبر مدرسة Hunstanton في نورفولك بإنجلترا أوّل عمل وحشي صمّمه الزوجان سميثسون، وانتهى البناء عام 1954. ترك سميثسون العديد من الوظائف والخدمات الميكانيكيّة ظاهرةً عمدًا، فمثلًا حوّلوا خزان المياه إلى برج. وتأثّروا بأعمال المعماري ميس فان دير روه. كما استخدموا إطاراتٍ فولاذيّةً ومساحاتٍ زجاجيةً كبيرةً. طرح تصميم المدرسة مشاكل عمليةً لأجيال قادمة من التلاميذ، لأنه بالرغم من أن مساحات الزجاج الشاسعة سمحت بعبور الضوء الطبيعي، إلا أنها أدّت إلى ارتفاع درجات الحرارة داخل الصفوف في فصل الصيف وانخفاضها في الشتاء.[6]

مدرسة Hunstanton في إنجلترا.

المسرح الوطني الملكي في بريطانيا

صمّم المعماري «دينيس لاسدن-Denys lasdun» «المسرح الوطني الملكي-Royal national theatre» في بريطانيا. وانتهى البناء سنة 1976. ضمّ المسرح الوطني مسرحًا مفتوحًا وهو مسرح خشبي تقليدي، بالإضافة لمسرح استديو تجريبي. وتمثّلت فكرة لاسدن بتصوّر المساحات العامّة كنوع رابع من المسارح. من وجهة نظره، قد يحتشد الجمهور حول أداء ما في الهواء الطلق، وبذلك يخلقون مسرحهم الخاصّ بسبب حضورهم معًا في مكان عامّ ليشاهدوا عرضًا دراميًا أو موسيقيًا.

المسرح الوطني الملكي في لندن.

استخدم لاسدن كتلًا متنوعة الأحجام ليكسر ضخامة الحجم الكبير للمسرح. يهيمن المسرح الخشبي والأبراج المرتفعة للمسرح المفتوح على الشكل الخارجي. وترتبط الأبراج الشاقولية المرتفعة بمصاطب أفقية خارجية، والتي تمتدّ عبر عرض الموقع وتتعزّز رؤيتها عن طريق الظلال الداكنة التي تظهر من خلال الواجهات الزجاجية في كلّ مستوى.[7]

المسرح الوطني الملكي في لندن.

برج الرعب في لندن

صمّم المعماري «إرنو غولدفينغر-Erno goldfinger» «برج تريليك-Trellick tower» -الملقّب ببرج الرعب- ليكون مسكنًا اجتماعيًا للمجلس المحلّي. انتهى بناء البرج سنة 1972، ويتألف من 31 طابقًا ويعكس سمات العمارة الوحشية. حيث اعتمد غولدفينغر على بنية الخرسانة المكشوفة ليعبّر عن جمال البرج من خلال اختيار لغة هندسية بسيطة تتلاعب بالعناصر المختلفة سواءً على المستوى الأفقي أو الشاقولي.

برج trellick يقع في غرب لندن.

ينقسم البرج إلى قسمين أساسيّين. يمثّل الجزء الأكبر القسم السكني بينما يمثّل الجزء الأصغر القسم الخدمي للبرج والذي يتّصل مع القسم السكني في كلّ طابق ثالث بممرّات. يضمّ البرج 9 أنواع مختلفة من الشقق، وبمجرّد الدخول إلى الشقة يوجد درج داخلي يُوجّه المستخدم صعودًا أو هبوطًا إلى الحجم التالي من الشقة. فقدَ البرج شعبيّته بسبب المشاكل الاجتماعية السلبية وارتفاع معدّل الجرائم به. لكن في سنة 1998 اتُّخذت إجراءات ساعدت على عودته مسكنًا آمنًا.[8]

الممرات في برج trellick في لندن.

نهاية العمارة الوحشية Brutalist architecture

وصلت العمارة الوحشية إلى ذروتها في الستّينيّات وتلاشت في أواخر السبعينيات. وترتبط في ذهن العديد من الأشخاص بالعمارة الباردة أو القبيحة، وقد نقلت مشاعر القسوة والتقشّف والكآبة. ويعتقد بعض النقّاد بأنها أدّت إلى تفاقم بعض المشاكل الاجتماعية. لكنها في ذات الوقت طرحت العديد من التساؤلات حول قيم الحقيقة والصدق في العمارة، وهذا هو إرثها المستمرّ.

المصادر

  1. Britannica
  2. architecture history
  3. ResearchGate
  4. ResearchGate
  5. Archdaily
  6. the open university
  7. Archdaily
  8. Archdaily

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


عمارة

User Avatar

Julie Youssef

مهندسة معمارية، أحب الرسم والقراءة


عدد مقالات الكاتب : 54
الملف الشخصي للكاتب :

شارك في الإعداد :
تدقيق لغوي : Chaimaebellahsaouia

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق