Ad
هذه المقالة هي الجزء 1 من 13 في سلسلة كيف نشأت الحداثة وغيرت من شكل المعمار في عصرنا؟

الحداثة كنتيجة للعقلنة

اعتبر «ماكس ويبر» الحداثة نتيجة للعقلنة؛ حيث اعتبر أن “الطابع الروحي للمجتمعات التقليدية قد حل محلّه -على الأقل في العالم الغربي- رؤيةٌ للعالم شديدة العقلانية والحساب”. والتي تفضّل تحقيق غايةٍ ما على التبعات البشرية لكيفية تحقيق تلك الغاية. بعبارة أخرى، ينتج نظامٌ اجتماعي يهمل الإنسانية ذاتها التي اُعتقد أنه يرتقي بها.

 الإنسانية -حسب ويبر- قد تقلصت في هكذا عالم مُعقلن إلى حسابات وقياسات وتحكم؛ والمجتمع منشغل بالعقل والاستقرار والنظام.[1] وبالمثل، يمكن قراءة تاريخ التفكير والتصميم المعماري منذ نهايات القرن التاسع عشر وظهور نمط العمارة الحديثة بالتوازي مع تطور الحداثة.

الحداثة كمعمار مُعقلَن

الحقبة المعمارية المعروفة بـ«الحداثة» تؤرخ عامةً منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر ستينيات القرن العشرين. وبذلك فهي معاصرة للحداثة الغربية. من الممكن إذن افتراض أن العمارة الحديثة كانت نتيجة لتحديات الحداثة ومُثُلها. عايش المعماريون الحداثيون أوضاع المجتمعات الصناعية المعيشية المتردية وكان لديهم إحساس قوي بالمسؤولية الاجتماعية تجاهها،[2] كما أنهم عاصروا التقنية والصناعة ومواد البناء الحديثة والتي غيرت وجه المدينة.

بالمثل، وكما فضلت الحداثة الفلسفية الموحد «Standardized» والقابل للحساب، حاولت الحداثة المعمارية تقليص المعمار أيضًا إلى مبادئ أولية. التأويلات الحديثة للمعمار، مثل تلك التي قام بها «جوتفريد سيمبر» في “المبادئ الأربعة للمعمار” أو أسس «لو كوربوزيه» الخمسة للمعمار الجديد، يمكن النظر لها باعتبارها محاولات لتقليص المعمار إلى عناصر مبدئية، يمكن بسهولة توحيدها وحسابها وتصنيعها. اعتبر بعض النقاد هذه التحليلات الاختزالية تنزع الرمزية والقيمية من العناصر المعمارية، حيث تصير ملحقات إضافية دون أي قيم.[3]

بدأ المعماريون بالنظر للعمارة والعمران عبر نظارات صناعية. أعلن «لو كوربوزيه» أن المنزل يجب أن يكون آلة للعيش فيها، وصمم منازله الموحّدة أحيانًا متضمنة أثاثًا جاهزًا لضمان الانتظام العام[4]. نمو وتوسع مشاريع الإسكان الموحد «Standardized Housing» في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان ذروة هذه المُثل المعمارية الصناعية.

نظريات المعماريين الحداثيين في التصميم يمكن أيضًا رؤيتها باعتبارها تمثّلات لقيم الحداثة وسعيها نحو الفعالية والعقلانية، مثل انتقادات المعماري النمساوي «أدولف لووس» لتزيين المباني وشعار «لوي سوليفان» الشهير “الشكل يتبع الوظيفة”. وبالفعل، فإن بعض المؤرخين والمنظّرين يرون أن الرؤى الطوباية للعمارة الحداثية لم تكن نابعة من عقائد ماركسية أو فاشية كما هو شائع، بل كانت نتيجة لمبادئ الفوردية (تنظيم الانتاج) والتايلورية (الإدارة العلمية) وسعيهما نحو الفعالية والتنظيم.[5]

العمارة الحديثة والبُعد الإنساني

كيف كانت علاقة المعمار المعقلن بالناس؟ سيكون من المفيد هنا أن نرى رأي «ماكس ويبر» علاقة الناس بالحداثة. يرى بعض النقاد أنه حسب ويبر، فإن احتياجات النظام الاجتماعي في الحداثة “كانت أهم من احتياجات أولئك البشر الذين يرفعون قواعد ذلك النظام”. ونتيجة ذلك، فإن التقدم الحداثي بدا وكأنه يخلق مشاكل للناس أكثر من تلك التي يحلها – الاغتراب واللا معيارية والبيروقراطية كلها مؤشرات على نظام يتحكم بالناس ويخلق عالمًا لا متسع لهم فيه للتعبير عن آرائهم (بالمثل، تذكر كيف صمم «لو كوربوزيه» منازله بأثاث مصمم سلفًا، والتي لم تعط السكان متسعًا لتزيين بيوتهم كما يشاؤون). ما-بعد الحداثة، في هذا التصور، تكون ردة فعل على هذه العملية. [6]

يمكننا سريعًا مطالعة نموذجين لمشاريع عمرانية في فترة ما بعد الحرب العالمية لنرى كيف تمثلت هذه العلاقة الحداثية بالبشر في العمران، وكيف كانت العمارة الحديثة انعكاسًا للحداثة. النموذج الأول هو «روبرت موزيس” -المعماري الأمريكي- وخططه العمرانية لتطوير مدينة نيويورك. قوبلت خطط موزيس بالكثير من المقاومة، ولعل أبرزها كانت من قبل الكاتبة وعالمة الاجتماع «جين جيكوبز» – حيث اعترضت على انتزاع السكان من منازلهم وإزالة الحدائق لتطوير شبكة الطرق وغيرها تحت مسمى “التقدم”.

حين سُئل «موزيس» عن السخط الشعبي تجاه خططه العمرانية، قال: “لا أعتقد بصراحة، أخذًا بالحسبان العدد الكبير من الناس الذين احتجنا لإزاحتهم من طريق الإسكان العام وغيره من المشاريع التطويرية العامة، لا أعتقد أننا قمنا بأي ضرر بالغ. لا بد أنه سيكون هناك أناسٌ ساخطون أو منزعجون، فحسب النظرية القديمة لا يمكنك أن تصنع عجة دون أن تكسر بيضًا”. تحكي «جيكوبز» كيف كانت تواجه المسؤولين عن تلك الخطط العمرانية -التي كانت في الأغلب تصدر من الأعلى دون اعتبار رغبات السكان أنفسهم- بالمشاكل التي تتسبب بها، فالمدن تفقد حيويتها والمتاجر تمسي فارغة والساحات مهجورة. وكانت ردود المسؤولين تتكون من شعارات وتبريرات عديدة تنتهي إلى “الناس أغبياء، ولا يعرفون ما عليهم فعله”.[7]

النموذج الثاني من بريطانيا هذه المرة: وبالتحديد خطط «تي دان سميث» لتطوير مدينة نيوكاسل. كانت تلك الخطط جزءًا من حماس عام في تلك الفترة تجاه المدن ثلاثية الأبعاد (نموذج  يتصور المدن مكونة من عدة طوابق، وقد فقد صيته بين المعماريين اليوم). سعى «سميث» لجعل نيوكاسل “برازيليا الشمال”، على غرار مدينة برازيليا في البرازيل، وتصور مدينة شوارعها في السماء حيث تكون السيارة وسيلة النقل الاساسية وينتزع البشر من الشارع ليتنقلوا عبر ممرات وشوارع مرتفعة في الهواء. بالطبع، واجهت تلك الرؤى مشاكل عديدة على الصعيد الاجتماعي والأمني وصعوبة التحرك من خلالها، وتم التخلي عنها لتنتهي اليوم كممرات في الهواء لا تؤدي إلى أي مكان. مدينة برازيليا نفسها، تنتقد حاليًا من معماريين مثل «يان غيل» كنموذج لـ”تصميم عبر عين الطائر”، يتم من خلال الطائرة ودون اعتبار للبعد البشري والإنساني في التصميم.

العمارة الحداثية سعت في البداية لحل المشاكل المعيشية للعامة، وانتهت فعليًا بدفعهم جانبًا لإتاحة المجال للسيارات والتقنية. يمكن لنا إذن أن نتوقع أن هذا النمط العمراني الحداثي لم يكن محبوبًا بين الناس،[8] وبالفعل فإن بعض النقاد لاحظوا أن “الحساسية تجاه ما يلمس القلب نادرة للغاية في العمارة الحديثة”.[9]

نهاية الحداثة؟

إذا كانت ما-بعد الحداثة ردًا على عمليات العقلنة الحداثية، فسيكون من المنطقي أيضًا أن يكون نمط العمارة ما بعد الحداثي -ولو جزئيًا- ردة فعل إنسانية على المثل الحداثية في التصميم. بدءًا بدراسات اجتماعية مثل “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» أو «موت وحياة مدن أمريكية كبرى» لـ«جين جيكوبز»، شهدت فترة الستينات العديد من الدراسات والنظريات المعمارية التي تستكشف العلاقة بين العمران والبشر. في نفس الفترة، تطور البحث النفسي والاجتماعي ليبدأ مجال “علم النفس البيئي” في الظهور.[10]

يعتبر كتاب «روبرت فنتوري» “التعقيد والتناقض في العمارة” (1966) أول عمل معماري بارز يرفض العمارة الحديثة وقيم الحداثة. حيث جادل «فنتوري» بأن الزينة -بل وحتى حس الفكاهة- كان له مكان في المعمار – وهذا رفض صريح للفعالية والوظيفية التي ميزت المعماريين الحداثيين التقليديين مثل «ميز فان دي روه” أو “لو كوربوزييه”. يعتبر بعض المؤرخين عام 1968 كنقطة فارقة في تاريخ الحداثة، حيث تهشمت آمال الحداثة والتقدم على إثر اضطرابات اجتماعية وسياسية عالمية.[11] في عام 1968 أيضًا طور «هنري ليفيفر» -المفكر والفيلسوف الفرنسي- مفهومه عن “الحق في المدينة” – مشكلًا بذلك حركة جديدة لإعادة تشكيل المدينة كمكان للحياة بعيدًا عن آثار السلعنة «Commodification» والرأسمالية على التفاعلات الاجتماعية.[12]

شهدت تلك الفترة بدء ظهور عمارة  “صديقة للإنسان”، مثل مشروع “بايكر وول” للتطوير الإسكاني للمعماري «رالف إرسكين في نيوكاسل ببريطانيا والذي يمكن اعتباره نقطة فراق مبكرة عن النمط الحديث. لكن التطور الأكبر كان هدم وإزالة أبراج «برويت – آيغو» السكنية في سانت لويز بالولايات المتحدة عام 1972، والتي اعتبرها المعماري «شارلز جينكس» “نهاية الحداثة”، أي ذروة فشل النمط المعماري الحديث في تلبية متطلبات المجتمع وتحقيق آماله الطوباوية.

ما بعد الحداثة ومستقبل العمارة الإنسانية

بالتأكيد، فإنه من المبالغة القول بأن العمارة الحديثة قد انتهت، فالشره الصناعي والرأسمالي للفاعلية والانتاج والرغبة الحداثية في العقلنة لا تزال حية ترزق. ولكن العقود الاخيرة شهدت صعود المزيد من مدارس التصميم الصديقة للبيئة والصديقة للإنسان، مثل نمط العمارة الدارجة الحديث «Modern Vernacular» والعمارة الظاهراتية «Phenomenological Architecture» وأساليب الإدارة والتخطيط الديمقراطية. ناهيك عن ازدياد الوعي العام بأهمية التصميم المستدام والعمارة الخضراء. لقد أصبح الكثير من المعماريين والمخططين على وعي بمدى ارتباط البيئة والمجتمع.

بالإضافة إلى ذلك فإن أنماطًا جديدة من التخطيط بدأت في الظهور لتمنح الناس بيئات اجتماعية وصحية أكثر، ولعل أشهرها هو الإسكان المشترك «Co-Housing» وهو نمط من الإسكان بدأ ينتشر في أوروبا، وتهدف بالأساس إلى تخطي عيوب التخطيط العمراني الحديث الاجتماعية. هناك اهتمام أكثر بالشارع والخضرة والبعد الإنساني  في العديد من المشاريع والنماذج العمرانية المعاصرة، مثل طريق «روز كينيدي» في بوسطن أو ميدان إسرائيل في الدنمارك.

من الصعب بحق تعريف أو تحديد ما-بعد الحداثة، كأيديولوجية أو كنمط فني، ومن الأصعب أيضًا تحديد إلى أين تتجه. لكن اليوم هناك وعي متزايد بنقائص وعيوب المثل الحداثية لمعماريي القرن العشرين. فكما حاولت الحداثة الرفع من شأن الإنسان، وانتهت بتغريبه في واقع “منزوع السحر” حسب تعبير ماكس ويبر، فقد حاولت العمارة الحداثية رفع مستوى الناس المعيشي عبر أمال عريضة، ولكن انتهى بها المطاف بتغريبهم في مدن منزوعة السحر. وربما يكون مستقبل العمارة الإنسانية رهن العثور على قيم ومثل عليا جديدة عالميًا.


[1] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.104
[2] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04).
[3] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[4] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04)
[5] Coleman, Nathaniel (2012) Utopia and modern architecture? Arq (London, England). 16 (4), 339–348.
[6] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.84
[7] Citizen Jane: Battle for the City. 2016. [film] Directed by M. Tyrnauer. USA.
[8] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 7
[9] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[10] Steg, Linda, de Groot, Judith I. M & van den Berg, Agnes E (2019) Environmental Psychology. Newark: John Wiley & Sons, Incorporated. p.4
[11] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 13.
[12] Harvey, David (2008) The right to the city. New Left review. (53), 23.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


حياة عمارة

User Avatar

زياد حسنين

كاتب ومعماري، مهتم بالدين والفكر والتاريخ وأشياء كثيرة أخرى.


عدد مقالات الكاتب : 14
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق