Ad
هذه المقالة هي الجزء 4 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

حديث عن السلوكية وسكينر

ذكرنا في الجزء السابق من سلسلة علم النفس دور فرويد وإسهاماته الفكرية ورأي العلم فيها. واليوم سنتعرض لمدرسة فكرية أخرى حظت بشهرة واسعة في القرن العشرين وهي السلوكية وأشهر مناصريها «بي.اف. سكينر- B. F. Skinner».

على عكس فرويد الذي طور نظرية التحليل النفسي بنفسه، فهي أقرب إلى الاختراع الفردي. ظهرت السلوكية قبل سكينر بوقت طويل. وناصرها علماء أهمهم جون واتسون. وترجع شهرة سكينر إلى جمعه أفكار السلوكية وتنقيحها وتطويرها وتقديمها للمجتمع العلمي.

مباديء السلوكية الثلاث

تتبنى السلوكية ثلاث رؤى متطرفة وشيقة للغاية وهي:
١. التشديد القوي على أهمية التعلم والتجربة. فيري السلوكيون أن طبيعة الإنسان كلها نتاج التجربة. ليست هناك طبيعة بشرية حقيقية، فالبشر طيعون وقابلون للتشكيل.

ويقول جون واتسون: “أعطني مجموعة من الأطفال الأصحاء المعافين ومساحتي الخاصة لتربيتهم بها. وأضمن لك أنني سأحول أي شخص منهم عشوائيًا إلى المتخصص الذي أختار، طبيب أو محامي أو تاجر أو مدير وحتى متسول أو لص. بغض النظر عن مهاراته أو إهتماماته أو ميوله أو قدراته أو مشاعره أو أصوله”

وفي هذا السياق، نجد واتسون مؤمنًا بالمساواة. فلا يوجد فصيل من البشر أفضل من الآخر. بل يعتمد الأمر كله على التعلم وأسلوب المعاملة.
٢. «معاداة السيطرة الذهنية-Anti mentalism». قدس السلوكيون كل ما هو علمي. وعلى عكس فرويد، آمنوا أن الحديث عن الحالة الذهنية الداخلية مثل الرغبات والأمنيات والأهداف والمشاعر غير علمي. لذا طوروا منهجهم دون الاعتماد على أي شيء غير قابل للرصد. بل استخدموا مفاهيم مثل: المحفزات وردود الأفعال والتعزيز والعقاب. وتشير جميعها إلى أحداث ملموسة في العالم الحقيقي.
٣. عدم وجود اختلاف يُذكر بين فصائل الكائنات الحية. رأي السلوكيون أن المفاهيم السالف ذكرها يمكن تعميمها على جميع الكائنات الحية. لذا طوروا منهجًا لدراسة السلوك البشري عن طريق دراسة سلوك الحيوانات.

كيف فسرت السلوكية السلوك البشري؟

وضع السلوكيون ثلاثة مباديء للتعلم. وزعموا أنها يمكنها تفسير كافة الحياة العقلية والسلوكيات البشرية.

المبدأ الأول وهو «التعود-Habituation». يمكن تعريف التعود أنه انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. مثل اعتياد صوت دقات الساعة أو ضوضاء المرور. ويعد التعود صورة هامة من صور التعلم وآلية تكيف مفيدة. تُمكن البشر من تعقب الأحداث والتغيرات الجديدة لتحديد إذا كانت ستؤذيهم أم لا. ومن ثم التوقف عن ملاحظة الأشياء بعد فترة، بعد أن تُثبت اندماجها بالبيئة المحيطة استعدادًا لملاحظة تغير جديد وهكذا.

المبدأ الثاني: «الشرطية الكلاسيكية-Classical Conditioning». يعد عالم النفس الروسي «إيفان بافلوف-Ivan Pavlov» أشهر من تحدث عن الارتباط الكلاسيكي. قامت تجربة بافلوف على تقديم الطعام إلى كلب وملاحظة كمية اللعاب التي ينتجها. كان بافلوف يقرع الجرس أولًا ويتبعه بتقديم الطعام للكلب فينتج اللعاب. ومع الوقت لاحظ بافلوف أن قرع الجرس وحده دون تقديم الطعام تسبب أيضًا في إنتاج اللعاب.

وهنا قدم بافلوف نتائجه التي فرقت بين نوعين من الارتباط بين المحفز ورد الفعل: أولًا، الارتباط غير المشروط. عندما يُسبب محفز غير مشروط (تقديم الطعام للكلب) رد فعل غير مشروط (إنتاج اللعاب). ويحدث هذا الأمر بشكل طبيعي، لم يضطر الكلب لتعلمه. ثانيٌا، الارتباط المشروط. عندما يُسبب محفز مشروط (صوت الجرس) رد فعل مشروط (إنتاج اللعاب). يحدث هذا الارتباط عبر التعلم، وفيه يتحول صوت الجرس تدريجيًا من عامل محايد إلى محفز مشروط. وهنا نجد أن الاقتران المتكرر بين المحفزات غير المشروطة والمحفزات المشروطة يؤدي في النهاية إلى إنتاج رد فعل مشروط.

المزيد من الشرطية الكلاسيكية

لم تقتصر تجارب الشرطية الكلاسيكية على الحيوانات فقط، بل عُممت على البشر أيضًا. قام سكينر بتجربة «ألبرت الصغير-Little Albert» الشهيرة. حيث أتي بالطفل ألبرت صاحب التسعة أشهر وعرض عليه مجموعة من “المحفزات” مثل: جريدة مشتعلة وقرد وأرنب وفأر أبيض. ولاحظ ردود أفعاله، فلم يبد الطفل أي إشارة خوف أو اضطراب.

أعاد سكينر التجربة، لكن عندما ظهر الفأر الأبيض أثار ضوضاء مزعجة، فأخذ الطفل يبكي. بعد إعادة التجربة عدة مرات وإقران الفأر الأبيض بالضوضاء كل مرة، صار ألبرت يبكي عند رؤية الفأر الأبيض فورًا حتى في غياب الضوضاء. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لاحظ سكينر بكاء الطفل عند رؤيته الأرنب أو معطف من الفرو أو قناع سانتا. امتد خوفه إلى كل ما هو أبيض ومكسو بالفراء فيما عرفه سكينر بـ «تعميم المحفز-Stimulus Generalization»

وهنا يمكننا القول أن الشرطية الكلاسيكية ليس مجرد ظاهرة معملية. فقد عُممت نتائجه على مختلف أنواع الحيوانات. بل وأدعى البعض أنه يفسر بعض الجوانب الشيقة من ردود الفعل البشرية. مثل: حالات «الرهاب-Phobia».

رأي السلوكيين في تجربة ألبرت الصغير تفسيرًا لنشأة الرهاب. وأيضًا شعور الجوع، تُفسر تجربة الجوع بوجود إشارات في البيئة المحيطة مرتبطة ومحفزة لهذا الشعور. وآمن السلوكيون أنه يحدث بسبب التاريخ الارتباطي بين المحفزات وردود الفعل. وأخيرًا تكوين الرغبة الجنسية خاصة الفيتيشية. رأي السلوكيون أنه إشراط كلاسيكي مباشر. فبينما يختبر الشخص المتعة الجنسية مع شريكه يحدث أن تقع عيناه على الحذاء مثلًا ومن هنا يحدث الارتباط. فيصبح الحذاء محفز مشروط لرد فعل مشروط وهو المتعة الجنسية.

الإسهام الأبرز لسكينر

المبدأ الثالث والأخير للتعلم عند السلوكية هو «الشرطية الإجرائية-Operant Conditioning». وهنا يحدث التعلم عن طريق المكافأة والعقاب، فيربط الشخص بين سلوك معين ونتائجه. طُور هذا المبدأ على يد سكينر. الذي اعتمد على «قانون التأثير-Law of Effect» لثورندايك بشكل أساسي وبنى عليه نظريته. ينص قانون التأثير أن احتمالية تكرار الأفعال المتبوعة بنتائج إيجابية أعلى من تلك المتبوعة بعواقب سلبية.

طور سكينر هذا المفهوم وأضاف إليه مصطلح «التعزيز-Reinforcement». ومعناه أن السلوك الذي يُعزز يتكرر وينمو تأثيره، أما السلوك الذي لا يُعزز يضعف تدريجيًا حتى يتلاشى. مثال على ذلك: تملك خنزيرًا وتود تدريبه على السير إلى الأمام فقط. عندما يسير الخنزير للأمام تكافئه وتقدم له الطعام. وعندما يسير للخلف تعاقبه وتمنعه عن الطعام. وبمرور الوقت وباستخدام تقنية المكافأة والعقاب ستحصل على خنزير يسير للأمام فقط. وهكذا استخدم سكينر الإشراط الإجرائي لتدريب الحيوانات. ولم يتوقف على تعليمها السير للأمام فقط بل دربها لفعل أمور أكثر تعقيدًا. مثل لعب كرة الطاولة، وأيضًا طور خلال الحرب العالمية الثانية قذيفة موجهة بطيور الحمام. لكن لحسن الحظ لم تُستخدم قط!

لو اقتصرت تجارب سكينر على الحيوانات فقط لما اتسعت شهرته. لكنه عممها على البشر وسلوكياتهم أيضًا. ناصر سكينر مبدأ الإشراط الإجرائي وآمن أنه يجب تطبيقه على الحياة اليومية لتصبح حياة البشر أكثر رضا وكمالًا. فطالب بإعادة إصلاح نظام السجون. وبدلًا من التركيز على مباديء العدالة والعقاب، ينبغى تعزيز التصرفات الحميدة والعقاب على التصرفات المسيئة.

رأي العلم في السلوكية

أثبت العلم أن الأفكار الثلاث التي قامت عليها السلوكية خاطئة بشكل كامل. وفيما يلي تفصيل للنقد الموجه للسلوكية:

أولًا: هل كل المعرفة تأتي من التعلم؟ أثبت العلم يقينًا أن كل شيء لا يأتي عن طريق التعلم. وهناك ما يكفي من الأدلة على وجود قدر من المعرفة والرغبات الفطرية عند البشر والحيوانات على حد سواء.

ثانيًا: هل الحديث عن الحالة العقلية غير علمي؟ ثبت خطأ هذا الاعتقاد أيضًا. تعتمد علوم مثل الفيزياء والكيمياء بشكل كبير على أشياء غير قابلة للرصد. ويبدو تفسير السلوك الإنساني تبعًا للآليات الداخلية له أكثر منطقية. مثلما يحدث مع الحاسوب فلن نستطيع تفسير لماذا يقدر على لعب الشطرنج مثلًا دون التطرق إلى برامجه وآلياته الداخلية.

ثالثًا: هل تحتاج الحيوانات للتعزيز والعقاب كي تتعلم؟ الإجابة أيضًا لا. ظهرت دراسات للعالم تولمان في القرن الماضي تثبت عكس ذلك. حيث وُضعت بعض الفئران في متاهة ووجدوا أنها تنهيها بسرعة عند تعزيزها بشكل مستمر. لكنهم وجدوا أيضًا أنها تنهيها بشكل أسرع إذا لم تُعزز على الإطلاق. لذا يمكننا القول أن مبدأ التعزيز والعقاب يساعد لكنه ليس الخيار الأمثل.

رابعًا: هل يمكن تعليم الحيوانات أي شيء دون قيود؟ والإجابة هي لا. لدى الحيوانات ردود فعل فطرية، التي يمكن استخدامها في تجارب التعلم لكن لا يمكن تغييرها. فيمكن تعليم حمامة أن تنقر الأرض من أجل الطعام أو ترفرف جناحيها للهروب لكن يصعب تعليمها العكس.

صحة الشرطية الكلاسيكية

أثبت العلم وجود استثناءات للشرطية الكلاسيكي منها ظاهرة تدعى «تأثير جارسيا-The Garcia Effect» التي تفسر النفور من الطعام عند الحيوانات والبشر. فعندما يتزامن شعور الغثيان مع وجود طعام جديد يتطور نفور تجاه هذا الطعام. والمثير هنا أن هذا النفور خاص ومميز. فإذا حُقن حيوان بعقار ما يجعله يشعر بالغثيان، وقدم له في نفس الوقت طعامًا جديدًا فسينفر من هذا الطعام. أما إذا صُعق كهربيًا وقُدم له طعامًا جديدًا فلن ينفر منه. ثنائية النفور من الطعام والغثيان فطرية وبالتالي فهي أقوى من ثنائية النفور من الطعام والألم.

استثناء آخر للشرطية الكلاسيكية وهو نشأة الرهاب. ثُبت خطأ الإدعاء القائل أن تطور الرهاب يحدث نتيجة ارتباطات كلاسيكية. بل اتضح أن هناك بعض أشكال الرهاب التي تطورنا كبشر لنصاب بها. فنجد أن البشر وحيوانات الشمبانزي أكثر عرضة للإصابة بالخوف من الثعابين. لذا من المرجح أن الإصابة بالرهاب لها علاقة بالتاريخ التطوري وليس التاريخ الشخصي.

النقد الأخير والأكثر قوة الذي وضع نهاية للسلوكية كنظرية سائدة كتبه المفكر نعوم تشومسكي. الحجة الرئيسية التي ساقها تشومسكي هي افتقار السلوكية -كما الحال مع فرويد- لـ «القابلية للدحض-Falsification». فعندما يتعلق الأمر بالبشر، تعد أفكار التعزيز والعقاب غامضة للغاية ولا يمكن احتسابها علمًا صحيحًا.

ختامًا، يمكننا الجزم أن السلوكية تلاشت تمامًا في وقتنا الحالي. لكنها تركت ورائها إرثًا هامًا ولا تزال تعد أحد أكبر الإسهامات الفكرية في القرن العشرين. فقد منحتنا فهمًا أفضل لآليات التعلم، فلا ننكر حقيقة آليات مثل التعود والإشراط الكلاسيكي ولا إمكانية دراستها بشكل علمي ولا الدور الهام الذي تلعبه في حياة الحيوانات وربما البشر أيضًا. لكنها فقط لا تشرح كل شيء.

المصادر

  1. verywellmind
  2. simplypsychology
  3. britannica
  4. verywellmind

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


علم نفس فكر

User Avatar

Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.


عدد مقالات الكاتب : 29
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق