Ad
هذه المقالة هي الجزء 17 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

بين التحيز لمحورية الذات والرهاب الاجتماعي، ما رأي العلم؟ هل وجدت نفسك يومًا في موقف محرج وأخذت تعيده في رأسك مرارًا وتكرارًا معتقدًا أنها نهاية العالم؟ هل وقفت أمام حشد للتحدث وشعرت بنظراتهم تخترقك كأنهم يقرأون كل ما تشعر به؟ موقف ليس بالهين، من منا يريد هذا القلق في حياته؟ لا أحد بالطبع. لكن أنا هنا لأخبرك أنك لست وحدك، كما سأطلعك على رأي العلم في هذه المواقف، وربما تدهشك النتائج!

«تحيز التمركز حول الذات-Egocentric Bias»

تحيز التمركز حول الذات هو نوع من التحيز المعرفي يجعل الأشخاص متمركزين حول وجهة نظرهم عن الحياة والأحداث التي تحدث لهم أو لغيرهم. وبالتالي يجدون صعوبة في استيعاب اختلاف وجهات نظر الآخرين، أو يتجاهلونها كليًا. هناك العديد من الأمثلة التي يظهر فيها هذا النوع من التحيز منها:

  • شعور الشخص في الأحاديث العامة أمام جمهور بالتوتر، كما يعتقد أن توتره واضح تمامًا للجميع، فقط لأن توتره واضح لنفسه.
  • عدم قدرة الشخص الذي تعرض لموقف محرج أن يتناساه، كما يبالغ في احتمالية تذكر الجميع لهذا الحدث. فقط لأنه يتذكره جيدًا.
  • اعتقاد الشخص أن زملائه وأصدقائه يتشاركون جميع معتقداته ومبادئه، ذلك لأنه منغمس بها كليًا للدرجة التي لا تمكنه من تخيل أن الآخرين قد يمتلكون آراءًا مخالفة.

وكما يتضح من الأمثلة سنناقش تحيز التمركز حول الذات اليوم في إطار اجتماعي، بالتحديد على مستوى الفرد، كيف يرى الفرد أفعال الآخرين وكيف تكون ردود أفعاله عليها؟

تأثير تسليط الضوء

عرفنا أن تحيز التمركز حول الذات يظهر في كثير من التعاملات الحياتية. ونجد المشترك بينها جميعًا اعتماد الشخص بشكل أساسي على وجهة نظره، فيُسقط مشاعره وأفكاره ومعتقداته ورغباته على الآخرين. مستهينًا أو متجاهلًا مشاعرهم أو أفكارهم الخاصة.

هناك نمطان يظهر فيهما تحيز التمركز حول الذات بشكل واضح وخاص. أولهما «تأثير تسليط الضوء-Spotlight Effect»

يمكننا فهم هذا التأثير من خلال المثال الذي طرحناه سابقًا عن الموقف المحرج وعدم قدرة المرء على تناسيه. فيُعرف علماء النفس الاجتماعي هذا التأثير أنه ميل الشخص للإفراط في تقدير انتباه الآخرين له. فيشعر كأن الضوء مسلط عليه بينما يغفل حقيقة تمركز اهتمام الآخرين حول أنفسهم أيضًا.
أول من درس هذا التأثير وقدمه للعالم هو عالم النفس الاجتماعي توم جيلوفيتش. أحد أشهر التجارب التي قام بها وأكثرها طرافة هي تجربة القميص. سأل جيلوفيتش مجموعة من الطلاب أن يرتدوا قمصانًا ليومهم الدراسي اللاحق. ارتدت نصف المجموعة قمصانًا مطبوع عليها صور محرجة مثل صورة هتلر، وارتدى النصف الآخر قمصانًا مطبوع عليها صور لشخصيات محبوبة مثل مارتن لوثر كينج أو بوب مارلي. ثم سألهم في نهاية اليوم عن تقديرهم لنسبة الأشخاص الذين لاحظوا قمصانهم، كذلك سأل طلابًا عشوائيين في الحرم الجامعي إذا ما لاحظوا أحد هؤلاء الطلاب ذوي القمصان الرائعة أو المحرجة.

جاءت نسبة المشاركين (تقديرهم لنسبة الأشخاص الذين لاحظوهم) مقارنة بنسبة الطلاب (الأشخاص الذين لاحظوهم بالفعل) 2:1. فعندما اعتقد المشاركون أن مائة شخص لاحظ قمصانهم، كانت النسبة الفعلية خمسين شخصًا فقط.

قام جيلوفيتش وغيره بعدد من التجارب الأخرى حتى تأكد من وجود تأثير تسليط الضوء. وهو اعتقاد الأشخاص أن الآخرين يراقبونهم طوال الوقت بينما الحقيقة أنهم لا يفعلون، بل هم منشغلون في مراقبة أنفسهم فقط!

وهم الشفافية

النمط الثاني الذي يظهر فيه تحيز التمركز حول الذات هو «وهم الشفافية-Illusion of Transparency» هذا النمط هو ببساطة اعتقاد الشخص أنه أكثر شفافية ووضوحًا مما هو/هي عليه بالفعل. فيميل إلى المبالغة في تقدير ما يظهر من مشاعره. والمثال على ذلك ما طرحناه في بداية المقال عن الشخص الذي يتحدث أمام جمهور فيشعر أن نظراتهم تخترقه، ويمكنهم رؤية توتره بمنتهى الوضوح.

اختبر العلماء وهم الشفافية بعدد من الدراسات، منها: دراسة طلب فيها العلماء من المشاركين قول عدد من الجمل أمام جمهور، بعضها حقيقي وبعضها كاذب. ثم سؤالهم عن توقعاتهم هل سيصدقهم الجمهور أم لا؟

اعتقد أغلب المشاركين أن دلائل الخداع من توتر وقلق ظهرت على وجوههم عند قول الجمل الكاذبة، وهو ما تعارض مع النتائج الفعلية. بالرغم من مقدرة الأشخاص على اكتشاف الجمل الكاذبة في بعض الأحيان، إلا أن الأغلب لم يستطع ذلك. وهنا نستطيع القول أن وهم الشفافية له وجهان. الأول: إجادة البشر للكذب أكثر مما يعتقدون. الثاني: مبالغة البشر في تقدير ما يظهر من مشاعرهم، فيشعرون تحت الضغط أن جميع أسرارهم ونقاط ضعفهم واضحة أمام الجميع. وهو ما يتعارض مع الواقع بالطبع.

السؤال الأهم: لماذا؟

يمكننا ملاحظة التشابه العام بين نمطي التحيز، فكلا من تأثير تسليط الضوء ووهم الشفافية يتشابه في مصدره. وهو التركيز على آرائنا وأفكارنا ومشاعرنا وصعوبة التحول منها لتبني آراء وأفكار ومشاعر الآخر. والسؤال الأهم هنا: لماذا يحدث ذلك؟

  • السبب الأول بديهي نوعًا ما، نحن نقضي جُل أوقاتنا في التفكير واختبار الأحداث من وجهة نظرنا الشخصية. وبالتالي حينما نشعر بضرورة تبني موقف الآخر أو النظر إليه من وجهة نظره، نجد صعوبة في ذلك. فلا نستطيع الخروج من دائرة أحكامنا ومعتقداتنا، ونعتقد أن الجميع يشاركوننا إياها.
  • ثانيًا الاستدلال: الاستدلال هو اختصارات ذهنية يستخدمها المخ لاتخاذ القرارات وإصدار الأحكام بسرعة وبسهولة، على حساب الوقوع في بعض الأخطاء أحيانًا. يحدث التحيز حينما يستخدم المخ هذه الاختصارات ويفترض أن الآخرين يشاركوننا نفس أفكارنا عوضًا عن تقييم أفكارهم بالفعل.

الرهاب الاجتماعي وتأثير تسليط الضوء

يختبر مصابو الرهاب الاجتماعي خوف مزمن من أي نشاط اجتماعي. خاصة المواقف التي تتضمن احتمالية الحرج أو الرفض أو إصدار الأحكام. وبالرغم من معرفة هؤلاء الأشخاص عدم منطقية خوفهم إلا أنهم لا يستطيعوا التحكم به، وينتهي بهم الأمر متجنبين أغلب هذه المواقف أو مجبرين أنفسهم عليها تحت ضغط وقلق كبير.

يرتبط تأثير تسليط الضوء الذي ناقشناه مسبقًا بهذه الفئة من الأشخاص بشكل كبير. فعلي الرغم من أن جميعنا يختبر الحرج أو القلق في مواقف ما، إلا أن هذا الشعور متضخم للغاية عند مصابي الرهاب الاجتماعي. فيشعرون أن العيون والأضواء مسلطة عليهم في كل لحظة تفحص وتدقق وتضخم عيوبهم. وقد يصل بهم الأمر إلى عدم القدرة على متابعة الحياة بشكل طبيعي. مثال: إذا كنت مصابًا بالرهاب الاجتماعي وخرجت إلى عملك دون أن ترتب شعرك، ستشعر أن الجميع ينظرون ويطلقون أحكامهم عليك، وربما تشعر بالخجل وتختبيء من زملائك في العمل معتقدًا أنهم سيسخرون منك أو يشفقون عليك.

الخطوة الأولى في طريق التعايش مع هذا الرهاب هو الوعي. وعيك ومعرفتك بحقائق بسيطة مثل تأثير تسليط الضوء أو وهم الشفافية يمكن أن يقلل الضغط الذي تشعر به بشكل كبير. ماذا نحتاج أكثر من حقائق مثبتة علمًا كي نتأكد أن البشر لا يلاحظوننا بالقدر الذي نعتقده ولا يقرأون أفكارنا؟

لكن هنا يجدر ذكر أمر آخر وهو أن المعرفة لا تساوي الحل، بعض الحالات لا يكفيها سرد الحقائق والتجارب العلمية كي تتحسن، بل يمكننا القول أن هذا هو الأغلب. وهنا يجدر بالشخص مراجعة الطبيب والالتزام بأدوية معينة.

بين التحيز لمحورية الذات والرهاب الاجتماعي، ما رأي العلم؟

البشر ليسوا قارئي أفكار

هكذا أود أن أختم حديث اليوم، بتذكير بسيط أن البشر لا يستطيعون قراءة أفكارنا ورؤية نقاط ضعفنا. كذلك لا يهتمون كثيرًا بعثراتنا المحرجة وعلى الأغلب لا يتذكرونها. لكن فلتنذكر نحن ما ناقشناه عن بعض مفاهيم علم النفس الاجتماعي (على مستوى الفرد) وهي وهم الشفافية وتأثير تسليط الضوء. كذلك الدور الذي يلعبه هذا التأثير عند مرضى الرهاب الاجتماعي.

اقرأ أيضًا: تجربة ميلغرام: لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

المصادر

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر علم نفس

User Avatar

Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.


عدد مقالات الكاتب : 29
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق