Ad
هذه المقالة هي الجزء 5 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

  • يمكنك الاستماع لهذا المقال صوتيًا من هنا، سنبدأ حديث اليوم بطرح عدة أسئلة. كيف يكتسب الإنسان المعرفة؟ ما طبيعة الذكاء البشري؟ وكيف ينشأ وينمو؟ لا يمكننا إجابة هذه الأسئلة دون التطرق إلى علم نفس النمو. تحديدًا نظرية «النمو المعرفي- Cognitive Development» لعالم النفس السويسري «جان بياجيه-Jean piaget».

عن النظرية

لا يمكننا تفسير النمو المعرفي دون ذكر دور بياجيه. فهو أول عالم يضع نظرية تفسر طبيعة الذكاء عند الأطفال. كما يطرح أسئلة عن المعرفة نفسها، كيف تُكتسب ويستفيد منها البشر. اهتم بياجيه بنشأة المعرفة بشكل عام. واعتقد أن دراسة النمو الفردي للطفل سيرشده إلى الإجابة. فكان مؤمنًا أن نمو الفرد يحاكي النمو المتكرر للفصيلة. وصف بياجيه الأطفال أنهم مفكرون نشطون، أو علماء صغار. يحاولون اكتشاف العالم دائمًا. ويفعلون هذا عن طريق آليتين تعملان بالتبادل وتقودان الطفل خلال مراحل نموه المختلفة:

  1. «Assimilation -التماثل» وهي عملية إدخال معلومات جديدة على نظام معرفي موجود مسبقًا. أو بمعنى آخر توسيع نطاق المعرفة. مثل قدرة الطفل على التعرف على الكلب (هذا نظام معرفي وجد مسبقًا) تمتد لتسميته جميع الحيوانات ذوات الأرجل الأربع كلب.
  2. «التكيف-Accommodation» وهي عملية تكوين نظام معرفي جديد،يُمكن إدخال معلومات جديدة عليه. أو بمعنى آخر تغيير منظومة المعرفة نفسها. مثال: عندما يصحح الوالدان الطفل ويقولان أن هذا الحيوان صاحب الأرجل الأربع قطة وليس كلب، يكتسب الطفل معرفة جديدة.

بياجيه ومراحل نمو الطفل

آمن بياجيه بـ «المعرفة الجينية-Genetic Epistemology» بمعنى أن النمو المعرفي للطفل يحدث تبعًا لمخطط فطري وُجد قبل الولادة. وراقب بياجيه واختبر التغيرات التي تحدث للأطفال في مراحل عمرية مختلفة ومن خلالها وضع نظريته عن النمو المعرفي للطفل وقسمها إلى عدة مراحل:

  1. «المرحلة الحسية الحركية-sensorimotor stage» والتي تمتد حتى عمر السنتين. وفيها يكون الطفل كائنًا ماديًا للغاية. ليس لديه أي فهم للعالم الخارجي. يرى ويسمع ولا يفكر. وعند عمر الستة أشهر، يبدأ الطفل اكتساب مفهوم «ديمومة الأشياء-Object Permenance».

    أطلق بياجيه هذا الاسم على ظاهرة استيعاب البشر استمرار وجود الأشياء حتى عند غيابها عن النظر. البالغون يدركون هذه الفكرة، لكن الأطفال -حتى عمر الستة أشهر- كما ادعى بياجيه لا يدركونها. وهو ما فسر به انزعاج الأطفال عندما تخفي لعبتهم وراء ظهرك، فيعتقدون أنها اختفت للأبد.

فكرة أخرى مرتبطة بهذه المرحلة وهي فشل الأطفال الأكبر سنًا -عمر التسعة أشهر- في اختبار (أ وليس ب). مثال: تأخذ غرضًا يخص طفل عمره تسعة أشهر وتضعه في فنجان (نقطة أ) فتجد الطفل يمد يده ويأخذه.

تعيد التجربة عدة مرات فيتكرر نفس رد فعل الطفل. أما عند وضع الغرض في مكان آخر (نقطة ب) تجد الطفل يمد يده إلى النقطة أ. كأن الطفل في هذا العمر ليس ذكيًا بما يكفي ليمد يده إلى النقطة ب رغم رؤية الغرض يُنقل إليها. ومن هنا استنتج بياجيه قصور فهم عند الأطفال في هذا العمر، هذا القصور يتطلب الوقت والمرور بباقي المراحل ليتطور.

2. «مرحلة ما قبل العمليات-Preoperational stage» والتي تمتد حتى سبع سنوات. وهنا يتعلم الطفل اللغة، ويتطور خياله واستخدامه للرموز. وتتشكل فكرته عن العالم، لكن هذه الفكرة محدودة بمفهومين:

  • «التمركز حول الذات-Egocentrism» وهنا لا يقصد بياجيه الأنانية. وإنما عدم قدرة الطفل على استيعاب أن الآخرين يرون العالم بشكل مختلف عنه. أشهر التجارب التي توضح ذلك هي «مهمة الجبال الثلاث-Three mountains task».

    حيث عرض بياجيه مجسم ثلاثي الأبعاد لثلاثة جبال على أطفال في عمر الرابعة والخامسة، وطلب منهم رسم المشهد كما يرونه أمامهم. فلم يواجهوا صعوبة في ذلك. ثم طلب منهم رسم الجبل كما سيبدو لشخص يقف على الجانب الآخر. فواجه الأطفال صعوبة بالغة في فعل ذلك.
  • «الاحتفاظ-Conservation». بمعنى فهم أن إعادة توزيع المادة لا يؤثر على حجمها أو كتلتها أو طولها أو عددها. والأطفال في هذا السن كما يرى بياجيه لا يدركون هذا المفهوم. أحد التجارب الشهيرة التي توضح ذلك تضمنت وضع كميتين متماثلتين من الماء في إنائين متماثلين. ثم نقل الماء من أحدهما إلى إناء آخر أطول وأنحف. وسؤال الأطفال أي الإنائين يحوي كمية ماء أكبر. ورغم رؤية الأطفال تماثل كميات الماء في المقام الأول إلا أنه يقع اختيارهم على الإناء الأطول دائمًا.

3. «مرحلة العمليات الملموسة-Concrete Operations Stage» التي تمتد من سن السابعة حتى الحادية عشر. وهنا يدرك الطفل مفهوم الاحتفاظ. ويكتسب القدرة على التفكير المنطقي ولكن في نطاق مادي ملموس فقط. فلا يمتلك القدرة على التفكير المجرد.

4. «مرحلة العمليات الشكلية المجردة- Formal Operational Stage» التي تبدأ من سن الثانية عشر وتمتد فيما بعدها. وهنا يكتسب الطفل القدرة على التفكير المجرد خارج حدود العالم المادي.

نقد نظرية بياجيه

نجح بياجيه مقارنة بفرويد وسكينر وذلك لعدة أسباب: نظرية بياجيه عن النمو المعرفي للطفل متماسكة بما يكفي لاختبارها وإثبات خطأها. بمعنى أنها تتمتع بما ذكرناه سابقًا عن «قابلية الدحض-Falsification» على عكس فرويد وسكينر. كما حقق بياجيه نتائج مذهلة.

فلم يكن يدري أحد أن الأطفال يفكرون بشكل مختلف عن البالغين، بل اعتقد الجميع أنهم فقط غير قادرين على التفكير مثلهم. وجاءت مفاهيم بياجيه عن الاحتفاظ وديمومة الأشياء لتدحض هذه الفكرة.

لكن لم تخل نظرية بياجيه من بعض القصور. بعضها قصور نظرية: فلم يوضح بياجيه بشكل كامل كيف يكتسب الطفل المعرفة. كيف ينتقل من مفكر ملموس إلى مفكر مجرد. أو كيف يتحول من عدم إدراك ديمومة الأشياء إلى إدراكها. وبعضها قصور منهجية: اعتمد منهج بياجيه على الأسئلة والإجابات. لكن المشكلة أن الطفل ليس متمكنًا من التعبير واستخدام اللغة. وربنا يؤدي هذا إلى الاستهانة بما يعلمه الأطفال بالفعل. خاصة الأطفال الأصغر سنًا.

طفلك أذكى مما تعتقد!

يتشارك أغلبية البشر في نظرتهم تجاه الأطفال، أنهم صغار وسذج ولا يعلمون الكثير عن العالم. لكن العلم الحديث يثبت عكس ذلك. فالأطفال أذكي مما نعتقد. ولاكتشاف المدى الكامل لقدراتهم ربما علينا أن نكون أكثر ذكاءًا ونطور وسائل البحث. بدلًا من طرح الأسئلة وانتظار الإجابات هناك وسائل أكثر فاعلية. مثل: دراسة الموجات الدماغية، أو تحديد وقت النظر الخاص بهم. يعد الأخير أحد أهم الوسائل التي ساعدت في دراسة نمو الأطفال.

أحد التجارب الشهيرة التي قام بها العالم روبرت فانتز تضمنت عرض صورتين على أطفال بعمر يومين فقط وملاحظتهم. فوجد اختلاف في وقت نظرهم إلى الصورتين مما يقترح رؤيتهم للاختلاف بينهم. كذلك تفضيلهم للصورة التي ينظرون إليها لوقت أطول. وبهذا اكتشف العالم تفضيل الصغار للأسطح المزخرفة على الأسطح الفارغة.

تعتمد تجارب “وقت النظر” على مبدئين وهما:

  • التعود: كما فسرناه عند مناقشة السلوكية هو انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. وباستخدامه يمكن تحديد ما يراه الطفل مختلفًا. مثال: عرض صورة باللون الأحمر بشكل متكرر حتى يمل الطفل منها. ثم عرض صورة باللون الأخضر وملاحظة رد فعله. في حال انتباه الطفل لحدوث اختلاف فسينظر لوقت أطول.
  • المفاجأة: وتعتمد على رؤية الأطفال لأحداث تخالف فكرتهم المسبقة عن الأشياء وطريقة عملها. فنلاحظ ازدياد وقت نظرهم. مثال: «تجربة الجسر المتحرك-DrawBridge Study» الشهيرة. وُضعت شاشة متحركة على طاولة، تدور من وضع رأسي، وكذلك بشكل أفقي موازٍ للطاولة. رأي الأطفال هذا المشهد حتى اعتادوا عليه. ثم وُضع صندوق خلف الشاشة ليمنع دورانها بشكل كامل.

    تعرض الأطفال لنوعين من المحفزات أثناء الاختبار: محفز واقعي وهنا يعيق الصندوق الشاشة فتتوقف عن الدوران. ومحفز غير واقعي وهنا يُسحب العائق سرًا فتستمر الشاشة في الدوران بشكل طبيعي. ازداد وقت نظر الأطفال بشكل ملحوظ في الحالة الثانية مما يقترح فهم الأطفال لقوانين العالم المادي، واستيعابهم لديمومة الأشياء (استمرار وجود العائق خلف الشاشة حتى عندما لا يرونه) قبل عمر الستة أشهر.

والآن يثبت العلم إدراك الطفل للعالم المادي منذ البداية، لكن ليس بشكل كامل. بالرغم من وجود بعض المعرفة الفطرية إلا أنه هناك مساحة للتعلم والتطور. وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن تفسير معرفة الطفل لأشياء لم يكن يعرفها من قبل؟ كيف نفسر هذا النمو؟

كيف نفسر النمو؟

أولًا: عن طريق نمو المخ أو النضج العصبي. الخلايا العصبية التي يمتلكها الشخص البالغ هي نفس الخلايا التي امتلكها حينما كان جنينًا في رحم أمه. وما يحدث هو عملية تشذيب، أو تخلص من فائض الخلايا العصبية غير المفيدة. الأمر الذي يغير من الهيكل العصبي بشكل جذري.

ثانيًا: نمو الوصلات العصبية بشكل كبير، تصل «الوصلات العصبية-Synapses» إلى ذروة نموها عند عمر السنتين.

ثالثًا: نمو «الغشاء الميليني-myelin sheath». وهو الغشاء الذي يحيط بمحور الخلية العصبية ليزيد من سرعتها وكفائتها. ينمو هذا الغشاء بشكل تدريجي، فنجده غير مكتمل النمو عند المراهقين، خاصة في الفص الجبهي من المخ. وهو الجزء المسئول عن الإرادة وضبط النفس.

رابعًا: عدم قدرة الأطفال على «المنع-Inhibition». ولفهم ذلك سنعود إلى تجربة (أ وليس ب) في بداية المقال. فسر العلماء تكرار ذهاب الطفل إلى النقطة أ رغم رؤيته تغير مكان الغرض أنه يصعب على الطفل التحكم في الفعل وإيقافه بعد أن قام به بشكل متكرر. وذلك لأن الجزء الخاص بالتحكم/ المنع في المخ لم ينشط بعد. بل لاحظ العلماء أيضًا أن الطفل يمد يده إلى النقطة أ بينما ينظر إلى النقطة ب. كأنه يعرف الخيار الصحيح لكنه فقط لا يستطيع التحكم ومنع نفسه.

الأطفال اجتماعيون بالفطرة

لا يتوقف ذكاء الأطفال عند إدراكهم للعالم المادي وبعض قوانينه فقط. بل تقترح بعض التجارب امتلاك الأطفال قدرًا من الذكاء الاجتماعي الفطري، الذي يتيح لهم التفاعل مع عناصر البيئة المحيطة بهم. ومن هذه التجارب:

تجربة روبرت فانتز التي ذكرناها سابقًا. حيث لاحظ روبرت انجذاب الأطفال (بمعنى النظر لوقت أطول) إلى الصور التي تحمل أنماطًا تشبه الوجوه البشرية.

تجربة أخرى شهيرة قام بها ميلتزوف تتضمن التفاعل مع أطفال حديثي الولادة. وجدت أن الأطفال يقلدون تعابير وجه الشخص البالغ الذي يقف أمامهم مثل فتح الفم وإبراز اللسان. نتائج هذه التجربة على وجه الخصوص مدهشة، لأنها تثبت أن الأطفال مقلدون بطبيعتهم. وأن هؤلاء الأطفال يمتلكون نوعًا من المعرفة الفطرية أن الشخص الذي يقف أمامهم (مثلهم) ومن نفس نوعهم.

تجربة أخرى قام بها العالم بول بلوم تضمنت عرض أفلام على أطفال بعمر التسعة أشهر. أحد شخصيات الفيلم متعاونة تساعد الكرة على تحقيق الهدف. والشخصية والأخرى تعيقها. ثم اختبار أي الشخصيات تلفت انتباه الأطفال أكثر. وجائت النتائج بميل الأطفال إلى الشخصية المساعدة. ومن هنا يمكن استنتاج أن الأطفال لديهم نوع من التفسير الاجتماعي لمفاهيم المساعدة والإعاقة. كما يمكن القول أنهم يميلون فطريًا إلى التعاون.

أبيض أم أسود؟

وهنا قد يعتقد البعض ان هذا الأمر مبالغ فيه، لماذا ندرس علم النفس النمو؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالصغار؟ فهم سيكبرون في جميع الأحوال! والإجابة أن دراسة نمو الأطفال ليس هامًا لهم فقط، بل لنا كبالغين أيضًا. هناك بعض الأسئلة التي لا يمكن إجابتها إلا بالعودة إلى الوراء والنظر في بدايات الأشياء. أحد الأمثلة الشهيرة: هل الحمار الوحشي أبيض بخطوط سوداء أم أسود بخطوط بيضاء؟ وهنا يمكنك التأمل والتفكر في جسد الحمار الوحشي كما تشاء ولن تصل إلى إجابة. أما إذا قررت العودة إلى الوراء، وقمت بالنظر في نمو جنين الحمارالوحشي ستجد الإجابة. وهنا تكمن أهمية ما نفعله.

المصادر

  1. britannica
  2. webmd
  3. verywellmind
  4. simply psychology
  5. cell

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر علم نفس

User Avatar

Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.


عدد مقالات الكاتب : 29
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق