حفرة اليأس: تجارب هاري هارلو لتصنيع أعراض الاكتئاب السريري

تعتبر تجارب هارلو مع القردة حدثًا مهمًأ في علم النفس السلوكي، حاول من خلالها البرهنة على أن الارتباط بين الطفل والأم ليس فقط ارتباطًا تنبع أهميته عن تقديم الأم للغذاء> بل يمتد للعطف والحنان وتعلم السلوك الاجتماعي. ساد في خمسينيات القرن الماضي الفكرة بأن العلاقة بين الطفل والأم علاقة مبنية على تقديم الأم للطعام للطفل فقط. وأدت سيطرة علماء السلوك والمحللون النفسيون في الولايات المتحدة على انتشار هذه الفكرة. جادل هارلو بأن هذه الأفكار تغفل جانبًا مهمًا من العلاقة بين الطفل والأم، وهي غير مقتصرة على الغذاء فقط. حاول البرهنة على ذلك من خلال تجارب على القردة قام بتسميتها “حفرة اليأس”، وذلك كما يرى هارلو بأن الاكتئاب يشبه كثيرًا “الغرق في بئر من اليأس”.

المصدر

الفرضية التي استندت عليها التجربة:

طور هذه التجربة عالم النفس المقارن هاري هارلو، وذلك كان في سبعينات القرن الماضي في جامعة ويسكونسن، في الولايات المتحدة. كرد على علماء السلوك الذين يقولون بأن العلاقة بين الأم والطفل علاقة بيولوجية تنبع أهميتها من تقديم الأم للغذاء للطفل. وساد الاعتقاد حينها بوجوب ترك الطفل قدر المستطاع، وذلك لأن الاستجابة لكل احتياجات الطفل قد تسبب مشاكلُا نفسية له لاحقًأ. برهن هارلو على خطأ هذه النظرة السائدة، وبدأ سلسلة تجارب على القردة تشمل فصل القرد الرضيع وعزله عن أمه، ووضعهم في ما سماه “حفرة اليأس”.
الهدف من هذه التجربة كان خلق أعراض الاكتئاب السريري لدى القرد الرضيع، وإنتاج نموذج حيواني للاكتئاب. وذلك بهدف الوصول لفهم أكبر لهذه الحالة النفسية ومنشأها. [1]

مراحل التجربة:

المصدر

العزل الأولي:

تضمنت مراحل التجربة الأولى لدراسة تأثيرات الوحدة عزل قرد في قفص محاط بجدران فولاذية فيها مرآة تسمح بالرؤية من جهة واحدة. يستطيع الباحث رؤية القرد لكن القرد لا يرى أي شيء. والتواصل الوحيد للقرد من العالم الخارجي من خلال رؤية يدين الباحث عند تقديمه للطعام والشراب له.
تم وضع صغار القردة فيها بعد ولادتهم بفترة قليلة، أربعة منهم لثلاثين يومًا، وأربعة لستة أشهر، وأربعة لمدة عام. بعد ثلاثين يوم وجد أن القردة مضطربة للغاية، رفض اثنان منهما الطعام وجوعها نفسيهما حتى الموت. بعد العزل لعام كانت القرود بالكاد تتحرك، لم تسكتشف، ولم تلعب، ولم تكن قادرة على ممارسة الجنس. كما وجدت صعوبة في التكيف مع القردة الأخرى عند وضعها في مجموعات كبيرة. وتعرضت للتعنيف الشديد من قبل القردة الأخرى التي لم تتعرض لللفصل والعزل. [2]

تجربة الأم السلكية:

المصدر

التجربة الأولى:

قام فيها هارلو بفصل القردة الرضيعة في زنزانات فولاذية تضمنت وجود أمين بديلتين قام بتصميمهما. الأولى كانت مصنوعة من الأسلاك والخشب، والثانية صنعت من قماش ناعم ولطيف الملمس بالنسبة للقرد الرضيع. المجموعة الأولى قدمت الأم السلكية الطعام ولم تقدم القماشية ذلك، والمجموعة الثانية معاكسة قدت فيها القماشية الطعام. تبين أن القرود تميل لإمضاء الوقت مع الأم القماشية أكثر من السلكية في الحالتين حتى لو كانت السلكية تقدم الحليب. حيث كان الرضيع يذهب إلى الحديدية عند الجوع وسرعان ما يعود للقماشية.
هذا الأمر يدعم النظرية التطورية للتعلق، حيث أن الاستجابة الحساسة والشعور بالأمن من مقدم الرعاية “الأم” هو المهم عند الرضيع، لا الطعام. [3]

التجربة الثانية:

عدل هارلو التجربة وقام بفصل القردة إلى مجموعتين الأولى لديها أم سلكية تقدم الطعام، والأخرى لديها أم قماشية لا تقدم الطعام. تم تقديم نفس الكمية من الطعام والشراب للأطفال ونموا بشكل متساوي. لكنهم كانوا مختلفين في السلوك، فكانت القردة التي تملك أمًا قماشية تتصرف بطريقة مغايرة عن القردة ذات الأم السلكية. ومغايرة أيضًا مقارنة بالقردة التي عاشت مع أمها الطبيعية. فكانت تلك القردة أكثر عنفًا وغير قادرة على سلوك نفس سلوك القرد الطبيعي، هذه السلوكيات لوحظت على القردة التي أمضت أكثر من 90 يومًا مع الأم البديلة، حيث كان بالإمكان عكس السلوك قبل 90 يومًأ إذا تم وضعها في بيئة طبيعية وتوفير العناية اللازمة لها. [3]

التجربة الثالثة:

كانت هذه المرحلة أقسى مراحل التجربة وأكثرها وحشية، أشار لها هارلو باسم “الأم الشنيعة” وقام بها باستخدام الأم البديلة القماشية الناعمة التي أحبها القردة، لكن هذه الأم القماشية تم تجهيزها بآليات وحشية تهاجم الرضيع، منها ما قام بصعق الرضيع فجأة أو مهاجمته، ومنها ما كان مجهزًا بإبر معدنية تهاجم الرضيع عندما يعانق الدمية. ابتعدت القردة عند مهاجمة الدمية لها واستخدام أساليب الرفض هذه، ولكنها عادت لتحاول إيجاد الأمن عند الدمية ذاتها عندما تلاحظ القردة أن الدمية قد “هدأت”. [1]

حفرة اليأس:

المصدر

تصميم حفرة اليأس

كان الاسم التقني لغرفة الاكتئاب الجديدة هو “جهاز الغرفة التقني” لكن هارلو سماها حفرة اليأس، أو زنزانة اليأس، لأنه رأى أن الاكتئاب يشبه الشعور في غرق في بئر من اليأس والوحدة، يمتص المصاب إلى داخله. وقام بتصميم جهاز معدني بشكل حجرة صغيرة صممت كهرم مقلوب يوضع القرد في أسفله وهو في عمر ثلاثة أشهر وكانت هذه القردة قد أندمجت مع أقرانها وشكلت روباط اجتماعية وعاطفية معها، كان الهدف كسر هذه الروابط لخلق أعراض الاكتئاب السريري لدى القرد.
كانت حواف الهرم زلقة ومائلة، حاول القردة تسلقها في أيامهم الأولى ولكنها سرعان ما استسلمت. [2]
كانت هذه التجربة رابع التجارب على القردة وشكلت أعراض اليأس وفقدان الأمل لدى القرد خلال فترة وجيزة. القردة التي أمضت فترة طويلة في العزل أبدت فقدان تام للقدرة على التفاعل الإجتماعي، وتدمرت هذه القردة بشكل تام ولم يمكن إصلاحه. [2]

التزاوج عند القردة المعزولة

عجزت القردة المعزولة عن إتمام أي علاقة اجتماعية مع أبناء جنسها ومن بين ذلك كانت العلاقات الجنسية، أراد هارلو فهم هذا الموضوع فقام بإجبار القردة على القيام بالعملية، وذلك من خلال ابتكاره لما سماه “رف الاغتصاب” قام فيه بربط الإناث اللاتي تم عزلهن بالوضعية التي تتخذها القردة عند عملية التزاوج، فلم يكن التلقيح الاصطناعي قد تطور حينذاك.
تبين أن القردة لم تكن فقط عاجزة عن التفاعل الاجتماعي والجنس، بل تجاهلت نسلها بشكل تام ولم تكن قادرة على التعامل مع الرضيع، إحدى القردة حطمت رأس رضيعها، أخرى قامت بمضغ أقدام رضيعها. هذه القردة ببساطة لم تكن قادرة على الأمومة أو الاهتمام بمخلوق آخر. [2]

نتائج التجربة:

3استنتج هارلو أنه ليتمكن القرد من التطور بشكل طبيعي، يجب أن يحصل على التفاعل مع كائن آخر يؤمن له الرعاية والعطف خلال مراحله الأولى من حياته أو المراحل الحرجة، ويتمكن من التشبث به. وهذا التشبث هو استجابة طبيعية في أوقات الإجهاد يلجأ إليه القرد عند شعوره بالخوف وفقدان الأمان، فيتشبث بها ليقلل من حالة الإجهاد.
كما استخلص إلى أن الحرمان المبكر من الأم يؤدي لضرر عاطفي، لكن هذا الضرر يمكن عكسه في المراحل الأولى قبل نهاية المرحلة الحرجة من حياة الرضيع. ولكن بعد انتهاء هذه المرحلة لا يمكن تصحيح الحالة بغض النظر عن تعريض الرضيع لبيئة ملائمة ووضعه تحت رعاية، الضرر لا يمكن عكسه بعدها.
ووجد أيضًا أن الحرمان الاجتماعي هو ما عنى منه القردة وليس فقط الحرمان من الرعاية الأمومية، فعندما أحضر هارلو القرد ليلعب مع أقرانه لمدة 20 دقيقة يوميًا وجد أن القرد نما بشكل طبيعي دون وجود مشاكل اجتماعية لديه. [3]

مشاكل التجربة الأخلاقية:

ساعدت تجربة هارلو الأخصائيين الاجتماعيين على فهم مخاطر إهمال الأطفال وتعرضهم للتعنيف وافتقارهم للراحة، وبالتالي فهم ضرورة التدخل لمنع ذلك. كما أن استخدام الحيوانات لفهم كيفية تشكل الروابط الاجتماعية والتعلق يسهل دراسة أوضاع الأطفال المعرضين للخطر.
لكن عمل هارلو تم انتقاده بشدة لكونه شديد القساوة والوحشية في التعامل مع الحيوانات، ولكون هارلو استمر في القيام بعمله بالرغم من وضوح نتائج التجربة له، وكانت هذه وحشية بلا جدوى. [3]
بالرغم من فوائد هذا البحث إن معاناة هذه القردة الرضع تفوق فوائده. وما من فوائد قد تخفف من وحشية هذه التجارب. شجع هذا البحث العديد من الناشطين والعلماء على النظر إلى موضوع استخدام الحيوانات للتجارب، والنظر في أخلاقية الموضوع.

المصدر

ألبرت الصغير، ضحية تجارب الخوف

كيف يتشكل الخوف؟ وهل بالإمكان خلقه عند الشخص؟ هذا السؤال الذي حاول عالم النفس جون واتسون الإجابة عنه، مستخدمًا في ذلك طفلًا بعمر تسعة أشهر ليكون عينة لتجربته.

حقوق الصورة: newscientist

تجربة ألبرت الصغير

تجربة الطفل ألبرت، أو ألبرت الصغير هي تجربة قام بها عالم النفس السلوكي جون واتسون لاستكشاف التعلم العاطفي عند الطفل. أجريت هذه التجربة المضبوطة “في بيئة المختبر” عام 1920، وذلك في جامعة جونز هوبكنز، على طفل يبلغ من العمر تسعة أشهر وذلك لاستكشاف موضوع التكييف الكلاسيكي. نُشرت النتائج أول مرة في عدد فبراير من مجلة علم النفس التجريبي. [1]
وكانت هذه التجربة مضبوطة، تظهر أدلة تجريبية على التكييف الكلاسيكي للبشر، ,وأظهرت أن ما قدمه بافلوف في تجاربه في التكييف المشروط على الحيوانات بالإمكان تطبيقها على البشر. وبالتالي بالإمكان خلق شعور، أو خوف عند إنسان لم يكن يخف من الشيء مسبقًأ. [1]

الأطروحة التي مهدت للتجربة

اعتمد واتسون في تجربته بشكل رئيسي على نظرية بافلوف في التكييف الشرطي، وحاول تطبيق ذلك بتعريض الطفل لمحفزات عديدة ثم ربطها بمحفزات أخرى، ليخلق لديه شعور الخوف من الفأر، الذي لم يكن يمتلكه الطفل مسبقًا. حيث يلعب التكييف الكلاسيكي دورًا رئيسيًا في تطوير المخاوف والفوبيا “الرهاب”، وقد تكون بعض أنواع التجارب ناتجة بشكل جزئي من التكييف الكلاسيكي. [2]

التكييف الكلاسيكي classical conditioning:

التكييف الكلاسيكي هو نوع من التعلم كان له تأثير كبير في مدارس علوم النفس وخصوصًا المدرسة السلوكية. اكتشفه عالم الفيزيولوجيا إيفان بافلوف. وهو عملية تعلم تحدث من خلال الارتباط بين المحفز البيئي والمحفز الذي يحدث بشكل طبيعي. يتضمن التكييف الكلاسيكي وضع إشارة محايدة قبل رد فعل طبيعي. في تجربة بافلوف الشهيرة مع الكلاب كانت الإشارة المحايدة هي صوت نغمة وكانت الاستجابة الطبيعية للكلب هي سيلان اللعاب استجابةً للطعام. ومن خلال ربط الحافز المحايد “النغمة” بالمحفز البيئي “الطعام” يمكن أن ينتج صوت النغم وحده الاستجابة الطبيعية، أي سيلان اللعاب. [3]

تفاصيل تجربة ألبرت الصغير

كان المشارك في التجربة طفل وتمت تسميته “ألبرت ب” وهو ليس اسمه الحقيقي، وهو العينة المدروسة في التجربة. الباحثان المشرفان على التجربة كانا واتسون أخصائي العلوم السلوكية وطالبته روزالي راينر.
بدأت التجربة بتعريض الطفل لعدة محفزات stimuli، منها فأر أبيض وقرد وأقنعة وصحف مشتعلة وتمت ملاحظة وتسجيل ردود أفعاله للمحفزات. الطفل لم يظهر أي خوف من أي من المحفزات التي تعرض لها.
في المرة التالية التي تم عرض الفأر على الطفل رافق ذلك إحداث واتسون لضوضاء عالية بالضرب على أنبوب معدني. وبطبيعة الحال فإن الطفل استجاب للضوضاء بالبكاء. تم إقران الضوضاء العالية بظهور الجرذ أمام الطفل لمرات عدة خلال فترات زمنية متفاوتة، وأدى ذلك لبكاء الطفل كلما رأى الفأر الأبيض، الذي ارتبط لديه بالمحفز الآخر.
كتب واتسون: “في اللحظة التي رأى فيها الطفل الفأر بدأ بالبكاء، استدار فورًا بحدة إلى اليسار، وسقط على جانبه الأيسر، وبدأ بالزحف بعيدًا عنه بسرعة، تمكننا بصعوبة الوصول له وإمساكه.” [4]

الارتباط مع نظرية التكييف الكلاسيكي

تقدم تجربة ألبرت الصغير مثالًا واضحًا عن كيفية تطبيق التكييف الكلاسيكي لتكييف الاستجابة العاطفية باستخدام المحفزات المختلفة.
المحفز المحايد: وهو محفز لا يثير أي استجابة في البداية وهو الجرذ الأبيض.
منبه غير مشروط: وهو الحافز الذي يثير استجابة انعكاسية لدى الطفل المدروس وهو الضوضاء العالية التي تسببت بالبكاء
الاستجابة غير المشروطة: وهي رد فعل طبيعي لمحفز معين “الخوف”، وفي التجربة هي خوف الطفل من الضوضاء وبكاءه.
المنبه المشروط: وهو حافز يثير استجابة بعد اقترانه بشكل متكرر بالحافز الغير مشروط، أي اقتران الحافز المحايد “الفأر” بالمنبه غير المشروط “الضوضاء” الذي يحول المحفز المحايد لمنبه مشروط.
الاستجابة الشرطية: وهي الاستجابة الناتجة عن الحافز الشرطي “الخوف” عند تعريض الطفل للمنبه المشروط “الفأر الذي اقترن بالضوضاء”. [4]

نتائج التجربة

أثبت واتسون وراينر أن الاستجابات العاطفية يمكن أن تكون مشروطة عند البشر. ولاحظا أن تعميم التحفيز قد حدث؛ أي أن ألبرت الصغير لم يخشى الفئران فقط بعد التجربة وإنما تعدى خوفه للعديد من الأجسام المشابه، أي شيء أبيض وذو فرو. وهذه الظاهرة يطلق عليها اسم التعميم.
بعد خمسة أيام وجد الباحثان أن ألبرت طور رهابًا من الأشياء التي تشترك مع الجرذ ببعض الخصائص بما في ذلك كلب العائلة، وبعض الصوف القطني. بعد أسابيع وأشهر من التجربة تمت ملاحظة ألبرت وكان خوفه من الفئران أقل وضوحًا، هذه العملية تسمى الانقراض. لم يتسنى لواتسون وراينر عكس التأثير الذي أحدثوه لدى الطفل وذلك لأن أمه قامت بسحبه فورًا بعد انتهاء التجربة. وأيضًا لم يتسنى للباحثين متابعة وضع وحالة الطفل حول الفوبيا هذه وذلك لوفاته في عمر السادسة بسبب استسقاء الرأس. [4]

نقد التجربة

كان واتسون قد خطط لعكس التكييف الذي أحدثه للطفل، وذلك بالقيام بعكس ما قام به؛ أي ربط التحفيز بمنبه شرطي محبب للطفل بدلًا من أن يكون مخيفًا له. ولكن تم سحب ألبرت من التجربة ذلك. بالتالي أصبح للطفل رعب لم يكن يمتلكه من قبل، ومن الممكن أن يرافقه طول حياته.
تعتبر ممارسة كهذه غير أخلاقية بتاتًا في عصرنا هذا وذلك بسبب المعايير التي حددتها جمعية علم النفس الأميريكية وجمعية علم النفس البريطانية. وينتقد المنهج المعرفي النموذج السلوكي لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار العمليات العقلية، ويجادلون بأن عمليات التفكير التي تحدث بين الحافز والاستجابة مسؤولة عن عنصر الشعور في الاستجابة. [5]

5- simplypsychology

Exit mobile version