معنى الحياة في الرهان المعرفي
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!
يثير إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم أكثر القضايا قدمًا في تاريخ السؤال البشري. اعتاد الإنسان أن يستفسر عن معنى وجوده في سياقات متباينة ووضع فرضيات كثيرة للوصول إلى إجابة مقنعة، بحيث يمكن وصف المسيرة البشرية بأنها مسيرة موجهة نحو إيجاد معنى للحياة.
وحتى تبدو الحياة ذات قيمة ومعنى، كان على الإنسان أن يتجاوز ظاهرها المادي ويدعي بأنه ثمة هناك جوهر يسكن العالم/الوجود. وهذا ما دفعه إلى تصورات أسطورية في البداية، فقام بأسطرة كل شيء وعرَفه في ظل قوى خفية.
لكن مع مرور الوقت لم يكف الناس عن طرح هذا السؤال بل احدثوا بعض التغيرات في سياقها وحسب. فمنهم من ادعى بأن المعنى يكمن في علاقاتنا الروحية، ومنهم من انزل المعنى إلى مستوى الجسد وقال بأن حياة ذات معنى تتحقق بتحقيق رغباتنا الشخصية. في حين رأى بعضهم في صنع معنى من قبل الفرد كحل حاسم، لكن اخذ اليأس بعضهم من هذا السؤال وقالوا بأن الحياة تفتقر إلى القيمة والمعنى أساسًا.
وفي هذا المقال، سوف نسلط الضوء على النظريات التي ناقشت معنى الحياة.
محتويات المقال :
المنظور الديني:
مسألة معنى الحياة من المسائل المفضلة في النقاش الديني. وقد يحدث أن يتفرد الدين في تقديم الإجابة؛ وذلك لأن الدين نفسه قائم على وجود معنى للحياة سلفًا. ويتمادى في هذا الجانب ويرى في تلك الغاية قيمة أكثر مما تحمله الحياة، لأن تلك الغاية تسبق الحياة ومتقدمة عليها.
على رغم من وجود ديانات كثيرة تتنازع فيما بينها في أكثر القضايا جوهريةً، إلا أن هناك وجهة نظر بهذا الخصوص. وهي: حياة ذات معنى تتطلب وجود الله والإيمان به. بمعنى أن وجود الله جنبًا إلى جنب مع الارتباط المناسب به ضروريين وكافيين لتأمين حياة ذات معنى(1).
يرى الدين في حياة الفرد على أنها جزء من خطة الله في خلق الكون، وما يجعل من حياته ذات قيمة كبيرة ومعنًى نهائي هو أنه يساعد لله في تحقيق تلك الخطة وذلك القصد الإلهي، وإذا ما فشل الفرد في فعل ما يريده الله، يسود اللا معنى في حياته(2).
وفي هذا الصدد يكتب الفيلسوف بليز باسكال: “هذه الهاوية اللانهائية لا يمكن ملؤها إلا بما هو لا متناه وثابت، أي بالله نفسه”. ويعترف القديس أوغسطينيوس: “لقد صنعتنا لنفسك. وقلوبنا مضطربة إلى أن تستقر فيك”(1).
المنظور العلمي:
السؤال عن معنى الحياة إذا ما طُرح في سياق علمي سيحدث الكثير من المغالطات لسببين على الأقل.
أولًا: هناك شيء من الأنانية البشرية في هذا السؤال، إذ نبحث عن معنى يتوافق مع مصالحنا الإنسانية. وهذا السؤال يفترض مسبقًا بأن المعنى يُقاس على الإنسان. أي الإنسان هو العنصر المحكي في تحديد المعنى؛ والعلم لا يمكنه التعامل مع مسألة كهذه. فالإنسان مجرد حلقة تطورية وكيان حيوي كسائر الكائنات.
ثانيًا: لا يتعامل العلم مع غاية الأشياء بالمعنى الذي نريده إنما مع آلية عملها، واستنتاج قيمة أو معنى من هذه الآلية لا يعدو أن يكون أكثر من تأويل فلسفي أو ديني.
ويخبرنا العلماء أن الوجود نشأ من تفاعل عشوائي بين المواد الكيميائية والغازات، وإذا كان له معنى فهو كئيب وضيق جدًا.
فالإنسان حاله حال الأميبا وغيرها من الكائنات، معنى حياته هو انتشار المادة الجينية، هذا صحيح وفي نفس الوقت مؤسف(3). تشبه الحياة لعبة، الهدف منها هو الإستمرار في اللعب.
استطاعت بعض الجينات والأنساب النبيلة من البقاء في اللعبة لفترة أطول، ولكن أين هو المعنى في لعبة لم يسن قواعدها أحد، وفي النهاية لا يمكن الفوز بها. إذن ليس هناك ثمة معنى جوهري للبقاء على قيد الحياة(4). ويعلق لورانس كراوس على ذلك ويقول: “حقيقة تطورنا على هذا الكوكب هي مجرد حادث كوني، والاشخاص الذين يعتقدون بخلاف ذلك من المحتمل أنهم يعانون من وهم ديني”(5).
الطبيعانية أو المذهب الطبيعي:
هناك طبيعانية ذاتية وأخرى موضوعية. الأولى تتميز بكونها متفائلة، فهي تدعي بأن حياة ذات معنًى قوي ممكنة حتى ولو لم يكن هناك إله أو عالم ما بعد الحياة أو فوقها.
وهي تسلم بأن حياة ذات معنى تختلف من شخص لآخر وتقوم على حصول الفرد ما يريده بقوة أو من خلال تحقيق أهداف محددة ذاتيًا أو من خلال تحقيق ما يعتقد المرء أنه مهم حقًا، كما الاهتمام بشيء ما أو حبه بصدق من شأنه أن يجعل الحياة ذات معنى(1).
لكن يؤخذ على هذا المذهب تطرفه الذاتي، فتطبيقه سيكون بمثابة تبرير لكل الأفعال الشنيعة والوحشية طالما أن الأشخاص الذين يقومون بهكذا أفعال يجدون راحة وطمأنينة فيها.
في الطرف المقابل هناك، الطبيعانية الموضوعية. يحاول المذهب الموضوعي معالجة الفجوات التي تتخلل المذهب الذاتي، وهو يؤكد بأن حياة ذات معنى تتأسس على التواصل الفعال والمناسب مع الحقائق الموضوعية المستقلة عن عقل الفرد(1).
ومن الجدير بالقول هو أن الموضوعية لا ترفض الذاتية دائمًا. بل نجد أحيانا أنها ترى في الجانب الذاتي كشرط مهم لتحقيق حياة ذات معنى، وبهذا الصدد تقول سوزان وولف: “ينشأ المعنى عندما يلتقي الانجذاب الذاتي مع الجاذبية الموضوعية”(2).
المنظور الوجودي:
يقسم البعض الوجودية إلى وجودية دينية وأخرى ملحدة، لكن كما يقول بول ريكور التصنيف شأن بيداغوغي وليس معرفي.
ومن جانب آخر يرفض كبار الوجوديين فكرة التمذهب، أي لا يدعون وجود فلسفة وجودية أو موجودية بحتة. لكن هناك نوع من التوافق بين ما نطلق عليهم فلاسفة الوجودية حول إشكال المعنى.
فهم يرفضون وجود معنى للحياة، أي معنًى جاهز، لكنهم يعولون على إمكانية خلق معنى ما في سياق الحرية الفردية. وهذه الحرية كما يقول سارتر، يتم تحديدها بمعزل عن أي تحديد مسبق من قبل الإله أو من خلال قيم أو معرفة موجودة سلفًا”(6).
ولأن الوجودية تخرج الإنسان إلى سياق مختلف عن سياق وجود باقي الكائنات. فهي تركز على الوجود الإنساني على أنه نمط خاص من الكينونة كما يقول هايدغير. فالإنسان حين يلقى في الوجود لا يحمل معه أي معنى أو جوهر، بل هو من يقوم بصنع معنى لوجوده بعد أن يدركه على نحو خاص(6).
وهنا يقول هايدغر في كتابه الأهم (الكينونة والزمان): “السؤال عن معنى الحياة هو السؤال حول كيفية عيش حياة أصيلة، حياة تكون حياتنا نحن دون أن تكون محددة مسبقًا في المجتمع، وأن تعيش حياة أصيلة هي أن تختارها بنفسك”(7).
ولنيتشه فكرة مشابهة، فهو يرسم صورة الإنسان على أنه جسر لا هدف، ويؤكد على أنه مهما كان معنى الحياة أو سيكون، فهو معنًى أرضي وليس سماويًا، ومعنى الحياة هو أن يتم خلقه لا اكتشافه(7).
المنظور العدمي:
ما هو جدير بالإشارة إليه في البداية، أن ما يجعل العدمية مختلفة عن الوجودية هو كونها ترفض حتى إمكانية خلق المعنى.
فهي لا ترفض وجود معنى جاهز وحسب بل تشك حتى في مزاعم الوجودية حول إمكانية صنع معنًى ما؛ وذلك لأنه حياة ذات معنى غير ممكنة على الإطلاق. تركز العدمية على عنصرين مهمين في حياة الإنسان، الشعور بالملل وعدم الرضى، بحجة أن الملل يصف الحياة بشكل كاف على أنها بلا معنى، كما أن حياة الإنسان تفتقر إلى القدر المطلوب من الرضى ليمنحها معنى(1).
وتؤكد بأن ما من شأنه أن يجعل الحياة ذات قيمة إما لا يمكن أن يوجد أو لا يمكن الحصول عليه. كما تزعم بوجود شيء ما في الحالة الإنسانية تمنع المعنى من الظهور(2).
خلاصة:
معنى الحياة من القضايا التركيبية كما يقول أدوارد مور. فمهما حاولنا أن نجعل منها قضية موضوعية نسقط في فخ الذاتية. حكمنا على طبيعة الأشياء لا يتعدى كونه تأويلًا شخصيًا منا، وحتى تلك الاحكام تتغير حسب الزمن وتأخذ مكانها أحكام أخرى. لكن مع ذلك، من الضروري أن يستمر الإنسان في بحثه عن المعنى، وقد يكون البحث هو نفسه المعنى. لا يمكن التغاضي عن أهمية البحث طالما أن السؤال لا يتوقف عن الظهور، ويعد من الاسئلة الحاضرة على الدوام في ظل عالم لا يسكت فيه صوت الحرب. في الوقت ذاته قد يساعدنا هذا السؤال لأن نعيد النظر في الكثير من السرديات التي تربطنا بالعالم وبالآخرين وبأنفسنا.
المصادر:
- 1- iep.utm.edu
- 2-plato.stanford.edu
- 3- theschooloflife
- 4- academic.oup
- 5-psychologytoday
- 6- iep.utm.edu
- 7-iep.utm.edu
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :