Ad

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

لم تعد تكتفي ذات الإنسان الفرد بمواجهة مجتمعها وقضاياه، فهي صارت ذات عالمية. كما أن العالم لم يعد مجرد مجموعة من الدول والثقافات المغلقة على نفسها، فهو عالم واحد في مشكلاته بالنسبة لكل فرد منا. شهد العالم حربين عالميتين حصدتا أرواح ملايين البشر، غير أن من لم يشهدوا المعارك لم يفكروا في تلك الحربين، والكثيرين منهم لم يسمعوا بهما حتى. لكن الآن، تغريدة واحدة قادرة على هز كيان ملايين البشر، كل صغيرة وكبيرة في العالم باتت تخصنا حيثما كنا. هذا وفضلا عن الأزمات الاقتصادية ومشاكل التفاوت الطبقي وخطابات الكراهية وبروز قيم جديدة تناقض موروثنا الثقافي والأخلاقي. في عالم كهذا، غالبا ما نشعر باللا جدوى من محاولاتنا في تغيير يومنا للأفضل، نواجه صعوبة في تغطية مصاريفنا اليومية، نشعر بأن اللا معنى يكتسح العالم. نستطيع القول بأننا نعاني من مشاكل وجودية بحتة؛ لذا، فإن العلاج الوجودي قد يستطيع مساعدتنا في إضفاء معنى لحياتنا وتفعيل إمكاناتنا لمواجهة المعاناة المستمرة.

العلاج النفسي الوجودي:

حسب فيلسوف القرن العشرين باول تيليش، يواجه العلاج النفسي الوجودي هواجس الحياة المطلقة المتمثلة بالوحدة والمعاناة وانعدام المعنى ضمن قالب من العدل والصدق والتي يمكن تشخيصها في كل فرد منا وذلك لكونها متجذرة في تجاربنا الشخصية(1). فهذا النوع من العلاج لا يبحث في ماضي الفرد والتاريخ المرضي في العائلة. وبدلًا من إلقاء اللوم على أحداث من الماضي فالعلاج الوجودي يرى فيه بصيرة لتصبح أداة لتعزيز الحرية والإصرار(2). وأغلب الأساليب المستخدمة في العلاج الوجودي تركز على المسؤولية وحرية الاختيار وذلك لأن الكينونة التي تعاني من المشاكل اختيرت لأن تكون ذلك، بمعنى أن الفرد قد اختار هذه المعاناة أو الطريقة المؤدية إليها، لذا، فالمعالج النفسي كما يقول إرفين يالوم هو رفيق درب المريض، يساعده من خلال التعاطف والدعم لاستنباط البصيرة وتحديد الاختيارات وتهيئة أفق مناسب لملاقاة الذات.
يعتمد العلاج الوجودي على بعض الأفكار الرئيسة الكامنة وراء الوجودية كفلسفة، وهي:

  • نحن مسؤولون عن اختياراتنا الشخصية.
  • الاختيارات التي نتخذها تجعلنا أفرادًا مميزين، ونحن نعيد تشكيل أنفسنا باستمرار من خلال تلك الخيارات.
  • نحن من نصنع لنا معنى في الحياة.
  • القلق خاصية طبيعية في حياة الإنسان.
  • يجب أن نتصالح مع القلق لنعيش بشكل أصيل(3).

رواد العلاج الوجودي:

كان أوتو رانك من بين المعالجين الوجوديين الأوائل الذين سعوا بنشاط نحو هذا التخصص، وبحلول منتصف القرن العشرين رفع كل من باول تيليش ورولو ماي وإرفين يالوم أفق النظرية الوجودية في العلاج النفسي من خلال كتابات تأسيسية لها، كما أثرت الوجودية في المدارس والنظريات الأخرى مثل العلاج المنطقي الذي طوره فيكتور فرانكل وعلم النفس الإنساني، وهناك جمعية باسم التحليل الوجودي تأسست في عام 1998، وتم إنشاء المجتمع الدولي للمستشارين الوجوديين في عام 2006(4).

الفرضيات الوجودية المتعلقة بالشخص:

التعامل مع المريض أو العميل تحدده الاعتبارات التي نعطيها له وذلك من أجل بناء ثقة قوية والتي هي أساس كل علاج نفسي. لذا فالعلاج الوجودي ينطلق من تصورات أو فرضيات أساسية لنبني عليها علاقتنا مع المريض، والتي هي:
1- كل الكائنات الحية تتمركز حول ذاتها وتسعى جاهدة للمحافظة على التمحور أو التمركز، وهذه هي المشكلة التي يقع فيها المريض أثناء المعالجة.
2- الكائنات البشرية لديها النزعة وإمكانية مشاركة الآخرين والخروج من دائرة التمحور الذاتي.
3- المرض أو الاضطراب طريقة يسعى الفرد من خلالها إلى الحفاظ على كينونته.
4- الكائنات البشرية يمكن أن تشترك في مستوى معين من الوعي الذاتي الذي يتيح لها تجاوز الوضع الآني أو الموقف الفوري والنظر إلى مجالات أرحب تسمح بكم هائل من الاحتمالات(5).

مراحل الوعي الذاتي:

كل فرد منا يمر في مراحل مختلفة، ولكل منها مشاكلها وتحدياتها وخصائصها الحيوية والمعرفية، السابقة تؤثر في اللاحقة، وهكذا فإن شخصيتنا في مرحلة الشباب غير مستقلة تمامًا عن التجارب التي عشناها في الطفولة والمراهقة. والوعي الذاتي من الأسس الرئيسة في علم النفس الوجودي، وهذا الوعي يمر بأربع مراحل:
1- البراءة والطهارة: تظهر قبل ولادة الوعي بالذات وهي تمثيل واقعي وخاصية للرضيع.
2- العصيان: تشمل هذه المرحلة الطفولة والمراهقة حيث يسعى الفرد إلى تكوين قوة داخلية تكفل له تأمين حقوقه الخاصة، ومن علامات هذه المرحلة العدوانية والانحراف.
3- الوعي الطبيعي بالذات: وهي المرحلة التي نعني عندما نتحدث عن الشخصية السوية، حيث ان الشخص قادر على التعليم والاستفادة من أخطائه والعيش كفرد مسؤول.
4- مرحلة الوعي الإبداعي: تتضمن القدرة على رؤية شيء ما خارج نطاق التصورات والقيود العادية وذلك باكتساب واكتشاف شيء خاطف ولماح من الحقيقة الموضوعية كما تظهر في الواقع(5).

القضايا الأربع في التشخيص:

عكس المدارس التقليدية ومنها التحليلية والسلوكية، لا يعول العلاج الوجودي على الجانب الحيوي للفرد أو البيئة التي تحيطه، فالفرد أكثر من مجرد كائن يخضع لشروط البيئة، كما يتعدى كيانه الحيوي؛ فهو في مواجهة مستمرة وحوار لا ينقطع مع الوجود في كليته. لذا فالمعالج النفسي الوجودي بدلًا من أن يعود إلى ماضي الفرد أو يحلل البيئة الثقافية والفيزيائية المحيطة به، يمضي قدمًا نحو المخاوف الكامنة في الإنسان والتي تحول بينه وبين حياة مستقرة. وهذه القضايا أو المخاوف التي تقف وراء الاضطرابات النفسية هي:

  • الحرية والمسؤولية.
  • الموت.
  • العزلة.
  • اللا معنى(6).

ما هي الاضطرابات التي يمكن معالجتها وجوديًا؟


طالما أن الناس عادة ما يقعون في إشكالية عدم التمييز بين المشكلة النفسية والاضطراب النفسي؛ يقتضي الأمر توضيح الفرق بينهما. فعندما نفقد شخصًا عزيزًا علينا مثلاً، نجد بأننا لا نرغب في الأكل، نواجه صعوبة في النوم أو ننام لساعات طويلة، نفقد شغفنا بممارسة النشاطات التي كنا نستمتع بها، لا نؤدي واجباتنا المدرسية أو المهنية بصورة جيدة، نعيش حالة حزن شديد وحتى الرغبة في الموت. ففي هذه الحالة لدينا مشكلة نفسية، وهي ستزول مع الوقت، ويمكننا أيضا حلها عن طريق تقنية حل المشكلات أو الدعم النفسي، وإذا ما أردنا أن نزور معالجًا نفسيًا فجلسات نفسية قليلة كافية لنستعيد حيويتنا وشغفنا.
لكن، حينما نجد فجأة بأن صحتنا النفسية بدأت تتدهور وتستمر معنا أعراض الاكتئاب: فقدان الشهية، فقدان أو زيادة الوزن، الأرق أو النوم لساعات كثيرة، الأفكار الانتحارية، الحزن الشديد والتشاؤم، نوبات من البكاء، صعوبة في التركيز، لأسابيع ودون وجود سبب واضح؛ فهذا يعني لدينا اضطراب نفسي (الاكتئاب) ويجب أن نزور معالجًا نفسيًا. ومعالجة الاضطراب تستغرق شهورًا من الجلسات النفسية. والعلاج النفسي الوجودي من بين الأساليب العلاجية الكثيرة التي يمكن أن يلجأ إلى استخدامها المعالج النفسي. والاضطرابات التي يمكن للعلاج الوجودي التعامل معها، هي كالتالي:

  • القلق.
  • اضطراب الشخصية الاعتمادية.
  • الاكتئاب.
  • «اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية – PTSD»
  • «اللامبالاة – Apathy»
  • الخجل.
  • الاستياء.
  • الغضب والعدوانية.
  • اليأس والشعور باللا معنى.
  • الذهان(6).

ملخص:

ليس العلاج النفسي الوجودي هو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه مع الاضطرابات المذكورة؛ مستوى تعليم المريض، عمره وطبيعة الاضطراب تحدد الاساليب والتقنيات التي يلجأ إليها المعالج النفسي، كما أنه يمكن استخدام أكثر من اسلوب وتقنية في الخطة العلاجية. غير أن هذا العلاج فعال مع الاضطرابات التي يكون سببها الشعور بلا معنى الحياة وعدم الجدوى من العيش مع الظروف والاستسلام لها، وبما أن السوداوية من الاعراض البارزة للكثير من الاضطرابات النفسية فالعلاج الوجودي بإمكانه مساعدة المريض في تصحيح تصوراته ومفاهيمه حول الحياة وعلاقاته مع الآخرين.

مصادر:


1- psychology today

2_ Counselling Directory
3_ positive psychology
4- good therapy
5- باربرا انجلر، مدخل إلى نظريات الشخصية، ترجمة فهد بن عبدالله، ص420-421.
6- healthline

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة علم نفس

User Avatar

Jaffer Joqy

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة


عدد مقالات الكاتب : 32
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق