Ad
هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

كيف يتفاعل البشر مع بيئتهم؟

هل حدث من قبل أن ذهبت إلى مكانٍ ما وتوقفت منبهرًا من منظره وما أوجده من مشاعر بداخلك؟ لماذا قد نشعر بالملل إذا مشينا بجانب بعض المباني ذات الواجهات المغلقة؟ ما الذي يجعل بعض الأماكن والساحات تنبض بالحياة وبعضها الآخر موحشًا؟ هل يمكننا تحليل شخصية شخص ما من غرفته ومقتنياته؟ وما هي أضرار الازدحام على الصحة وكيف نصمم الأحياء السكنية لتكون آمنة وأيسر للسير؟ هذه الأسئلة تقع ضمن مجال علم النفس البيئي «Environmental Psychology»، و هو علم يدرس تأثير البيئة إجمالًا على التجربة والسلوك والصالح البشري العام، بالإضافة إلى تأثير الأفراد (والمجتمعات) على البيئة. وتعدد مجالاته يجعله مجالًا مثيرًا للاهتمام والبحث إذ أنه يتعلق بالكثير من القضايا التي نعيشها بشكل يومي.

البدايات: علم النفس “المعماري”

ظهر علم النفس البيئي رسميًا كفرع من علوم النفس خلال فترة الستينات. إلا أن المصطلح ظهر لأول مرة في النصف الأول من القرن العشرين، حين درس «ويلي هيلباخ» أثر عوامل بيئية مختلفة مثل اللون والشكل والشمس والقمر على أنشطة بشرية مختلفة، وقسّم البيئة إلى ثلاث نطاقات: البيئة والمجتمع والعمران (أو الحضر). اعتقد هيلباخ أن كلًّا من هذه النطاقات يؤثر على العقل البشري عبر وسيلتين: الأثر المباشر للمعاني والرموز (التجارب المباشرة للبيئة)، والأثر غير المباشر عن طريق التأثيرات الفسيولوجية على الجسم والدماغ.[1]

في هذه الفترة كانت الأبحاث التي تستكشف العلاقة بين البيئة والنفس مبعثرة إلى حد كبير، ولم يكن معترفًا بها كمجال بحثيّ مستقل. بحلول أربعينات القرن العشرين بدأت الدراسة المنهجية للمكان والحيز كما ظهرت العديد من الدراسات حول إضاءة المنازل وأثرها على الصحة وسلوكيات الأطفال في البيئات الطبيعية وغيرها. وحيث كانت معظم تلك الدراسات تركز على الكيفية التي تؤثر بها البيئات الحضرية بالأخص على إحساس وسلوكيات الناس، فقد سُميت بـ«علم النفس المعماري»، للتمييز بينها وبين دراسات علم النفس الأكثر تقليدية.

بيئة حضرية فعّالة

في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على البيئة المبنية أو الحضرية، مثل المعمار والتقنية، وآثارها على النفس. وكان هذا التركيز على البيئات المبنية مدفوعًا بشكل كبير بالمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الفترة. حيث كانت العمارة الحديثة تحاول معالجة تحديات ما بعد الحرب العالمية -مثل توفير الإسكان المناسب للسكان. ولهذا نشأت أسئلة حول الكيفية المثلى لبناء المنازل والمكاتب والمستشفيات لتخدم مستعمليها بأكبر فاعلية ممكنة، وكيف يمكن للمؤثرات البيئية (كالحرارة، والرطوبة، والتكدس والازدحام) التأثير على الأداء البشري وبالتالي كيف يمكن التحكم بها.

البحث الاجتماعي في المعمار

بدأت تظهر ولو بشكل طفيف أيضًا دراسات اجتماعية ونفسية حول الأثر الاجتماعي للحيّز، ـ لعل أبرزها الدراسة الرائدة لعالم النفس «ليون فيستنغر» التي أظهر فيها العلاقة بين المجاورة المكانية واحتمالية تكوين علاقات اجتماعية طويلة المدى، وهو ما أسماه بأثر المجاورة «Proximity Effect». أي أن الناس يميلون لإقامة علاقات اجتماعية أكثر مع الذين هم أقرب لهم فيزيائيًا. درس «فستنغر» سكنًا طلابيًا بمعهد إم آي تي ولاحظ أن الطلاب الذين يعيشون في غرف بجانب درج المبنى كانت لديهم علاقات اجتماعية أكثر مع باقي السكان حيث يحتكون بهم بشكل أكثر تواترًا، كما أنه كلما كانت غرفتان أقرب لبعضهما زادت فرصة ساكنيهما لتكوين صداقة.

بناءً على أبحاثه حول سيكولوجية الجماعات والانتماء، كان فيستنغر يطالب المعماريين أيضًا بأخذ الاحتياجات الاجتماعية للسكان ورغبتهم في الانتماء قيد الحسبان أثناء تصميم المناطق السكنية.[2] توالت في الفترة التالية، وبالأخص منذ الستينات، الدراسات حول البعد الإنساني في التصميم والتخطيط العمراني، مثل دراسات «كيفن لينش» عن “صورة المدينة” و«روبرت سومر» حول المساحات الشخصية ونظرية «أوسكار نيومان» حول «المساحات الآمنة – Defensible Space» لخلق أماكن أكثر أمنًا وسلامة.

علم النفس البيئي والاستدامة

الفترة التالية لنمو مجال علم النفس البيئي بدأت في الستينات، حين بدأ العالم بإدراك المشاكل والأخطار البيئية المحيطة. ومن هنا ظهرت الدراسات حول مشكلة الاستدامة ودراسة وتغيير السلوك البيئي لخلق بيئة مستدامة وصحية. شملت تلك الدراسات في بداياتها مشاكل مثل تلوث الهواء والتلوث الضوضائي، ومن ثم توسعت لتشمل مباحث كاستهلاك الطاقة ودراسة المخاطر المرتبطة بتقنيات الطاقة. في الثمانينات بدأت بالظهور أيضًا الدراسات حول جهود تحفيز الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالسلوكيات الصديقة للبيئة. وتصاعد هذا التوجه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث صار من الواضح أن الأزمات البيئية كالتغير المناخي والتلوث والتصحر تهدد الصحة والأمن الغذائي والمائي للعالم أجمع. وبالتالي فقد تم استدعاء مفهوم للاستدامة يشمل الصالح العام البيئي والمجتمعي والاقتصادي، ويرى بعض الباحثين أن علم النفس البيئي تطور بمرور الزمن إلى “علم نفس الاستدامة” على المستويات الثلاث.

كيف نصمم مدنًا أكثر جاذبية؟

بجانب دراسة البيئة والاستدامة والطاقة التي توسعت مع اتساع الوعي بالازمة المناخية، بدأت أيضًا دراسة الكيفية التي يتفاعل بها البشر مع بيئاتهم الحضرية، وهو ما يسمى في بعض الأحيان بعلم النفس الحضري «Urban Psychology» والذي كان رائده هو المخطط الأمريكي «وليام و. وايت»،  الذي يلقب أحيانًا بأبو علم النفس الحضري.[3] كان «وايت» مهتمًا بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الميادين والشوارع والحدائق مليئة بالناس وجاذبة للنشاط البشري، بينما تكون أخرى شديدة الوحشة ومنفرة للنشاط البشري. ولذلك قام بتصوير وملاحظة شوارع وميادين وحدائق نيويورك ليحاول تحليل العوامل التي تجعل الناس يتجمعون في مكانٍ ما.

كانت من أبرز نتائج وايت -والتي تبدو شديدة البداهة حد الضحك ربما- هي أن الناس يجلسون حيث يتوفر لهم مكان للجلوس. فلدهشة وايت نفسه كان العديد من الحدائق والميادين لا يوفر حتى مقاعد للجلوس والاستمتاع بالهواء والشمس. هذا إن لم يتم وضع موانع ضد جلوسهم حول بعض المباني؛ كما تفعل بعض الشركات والمؤسسات حين تحاول طرد المشردين والشحاذين -ومن أسماهم وايت “غير المرغوب فيهم” «Undesirables»- عن طريق تسوير مبانيها وجعل محيطها غير جذاب؛ وتكون النتيجة أن الناس يبتعدون عنه ويصبح موحشًا في حين أن أولئك غير المرغوب فيهم يحتلونه. لقد لخص وايت نتائج دراساته بقوله “أنه من الصعب جدًا تصميم مكانٍ غير جذاب للناس. ما يستحق الدهشة هو كيف يتم ذلك باستمرار”.[4]

نطاق علم النفس البيئي حاليًا

لعلنا الآن نتساءل عن حدود ونطاق علم النفس البيئي، هل هو لتصميم مبانٍ أكثر فاعلية وراحة، أم للبحث حول قضية الاستدامة ودعم مصادر الطاقة البديلة؟ هل يدرس البشر أم الحضر؟  وما هي بالضبط البيئة التي يدرس النفس البشرية ضمنها؟ الحقيقة هي أن علم النفس البيئي مجال متعدد النطاقات «Multi-disciplinary»، ويتصف بمقاربته متعددة المجالات للقضايا محل البحث وتعدد مناهجه، فهو يتداخل بشكل صميميّ مع الهندسة المعمارية وعلوم البيئة والسياسات العامة، بالإضافة إلى التبعات المجتمعية لها كالآثار الصحية والنفسية. وبالمقابل يبحث أيضًا كيف يؤثر الناس في بيئاتهم: كيف يجعلونها أكثر ذاتية، كيف يعبرون عن أنفسهم وانتماءاتهم، وكيف يدفعهم ذلك إلى الحفاظ على سلامة محيطهم وبيئتهم على سبيل المثال.

سنتحدث في مقالاتٍ تالية عن تطبيقات معاصرة لعلم النفس البيئي وأثرها في البيئة الحضرية والسلوك البشري، ولكن يكفينا في هذه الفقرة أن نبين أن العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم (حضرية كانت أو طبيعية) معقدة ومتداخلة للغاية. ولعل هذا سبب في أن علم النفس البيئي يتسم بالبحث بدافع العثور على أكثر الحلول فاعلية لمشاكل حاضرة بالفعل. إضافة إلى أن علم النفس البيئي يدرس هذه العلاقة على مستوياتٍ عدة، ابتداءً بمشاكل النفايات وإعادة التدوير على مستوى الأحياء مرورًا بالتخطيط السليم والصحي للأحياء السكنية ومناطق العمل على مستوى المدن والدول وانتهاءً بدراسة التقنيات الجديدة لمواجهة تغير المناخ على مستوى الكوكب كله.

ولذلك أيضًا، فإن هناك عدة مجالات تبحث هذه العلاقة وتتداخل مع بعضها البعض على عدة مستويات وفي عدة نطاقات.  فبجانب علم النفس البيئي، هناك على سبيل المثال أيضًا علم الاجتماع الحضري «Urban Sociology» وعلم البيئة الحضري «Urban Ecology» وعلم الظواهر أو الفينومينولوجيا المعمارية «Architectural Phenomenology»، وكلها لديها دوريات ومجلات متخصصة وبعضها يدرّس في أقسام جامعية مختصة.


المصادر:

  1. Environmental Psychology : an Introduction
  2. Blueprints for a History of Environmental Psychology
  3. Architecture and Group Membership, Leon Festinger
  4. Project for Public Spaces
  5. Social Life of Small Urban Spaces

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


علم نفس عمارة

User Avatar

زياد حسنين

كاتب ومعماري، مهتم بالدين والفكر والتاريخ وأشياء كثيرة أخرى.


عدد مقالات الكاتب : 14
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق