Ad

أزمة الاستدامة: كيف يحاول المعماريون حل أزمة المناخ؟

بالنسبة للكثيرين، فإن العمارة والمدنية هما واجهة الحضارة البشرية المعاصرة؛ فحين نفكّر في المدن العريقة أو الصاخبة كنيويورك أو لندن أو طوكيو، فإن مبانيها وامتداداتها العمرانية هي أول ما يخطر على البال في الأغلب. لكن بغض النظر عن كل إشكاليات حياة المدينة الحديثة، الاجتماعية والعملية، فإن هناك أزمة تواجه التصميم المعماري والهندسي حول العالم، وهي مشكلة الاستدامة «sustainability». ومع توقع الأمم المتحدة بارتفاع نسبة سكان المدن حول العالم إلى 68% من إجمالي سكان العالم[1]، يتضح بشكلٍ أكبر أثر الإنشاءات والتمدن على الكوكب ككل.

أزمة العمارة وأزمة المناخ

حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن قطاع الإنشاءات يتسبب في 38% من انبعاثات الكربون عالميًا[2]،  تتوزع على عدة عمليات كعملية التشييد، وإشغال المبنى، والصناعات المتعلقة بالإنشاءات، وغيرها. وفي ظل أزمة المناخ الحالية يستهدف العالم الوصول إلى تحييد انبعاثات الكربون بشكلٍ كامل بحلول عام 2050، ووقف ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى 1.5 درجة مئوية بحلول 2030. [3] ولكن في ظل أوضاع مضطربة منذ سنوات فإن هذا الهدف يبدو بعيد المنال، ويستوجب العمل على مجالات متعددة لضبط هذا الخطر. وبالطبع فإن قطاع الإنشاءات يواجه تحديات مشابهة، حيث يمثل ركيزة أساسية في الاقتصاد العالمي، وهو المسؤول عن تشييد المطارات والموانئ والأنفاق التي ترتكز عليها حركة النقل والتجارة والتي تساهم هي الأخرى في انبعاثات الكربون عالميًا.

ما هي الاستدامة؟

حدّد المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين «RIBA» ركائز الاستدامة الثلاث: البيئية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تضمن التوازن بين العوامل الثلاث[4]. يمكننا تعريف الاستدامة حسب أهداف المؤسسة كما يلي: “تناسب دورة حياة المبنى مع قيمته، رفع جودة وقيمة الحياة الاجتماعية، ضمان الصحة والسلامة، الاستغلال الحسن للأرض والبيئة، رفع جودة التواصل والنقل، رفع جودة دورة الماء، وتحييد أثر الكربون المتضمن في المباني أو المنبعث من عمليات الانشاء.”.

تحاول الهيئات والكليات المعمارية والهندسية حول العالم اليوم تدارك أزمة المناخ عن طريق إدماج شروط الاستدامة في مناهجها وأهدافها وقوانينها. بالإضافة إلى حث الممارسين والمكاتب المعمارية والهندسية على اتّباع نموذج “أخضر” في التصميم.

ما الذي يمكن للمعماريين فعله؟

على مستوى التصميم الفردي للمباني، يمكن لمصممي المبنى أو المشروع أن يقيّموا حالة المبنى ويتخذوا قرارًا بتعديله عوضًا عن هدمه بالكامل وبناء مبنى جديد بالكلية. من أشهر المعماريين المشهورين بهذا النوع من المشاريع هما المعماريان الفرنسيان آن لاكاتون وفيليب فاسال. أحد أشهر مشاريع الثنائي هو تجديدهما لبرج «بوا لو بريتر – Bois Le Prêtre»السكنيّ في فرنسا. البرج مكوّن من 17 طابقًا وتم بناؤه في الخمسينات بواجهات اسمنتية سميكة. فكّر المعماريون بإعادة تشكيل المبنى عن طريق إزالة الواجهات وتركيب شرفات ذات شبابيك زلّاجة عليها. بمجرد “استغلال المتاح” في البرج، حسب تعبير المعماريّين[5]، فقد وفّرا تكاليف هدم المبنى وانشاء آخر، ووفروا كميات ضخمة من مواد البناء المستعملة التي كانت لتهدر. فوق ذلك وسّعوا شقق البرج وسمحوا لها بإضاءة أكبر وأفضل.[6]

دراسة حالة وموقع المشروع مهم أيضًا لتحديد اتجاه الواجهات والرياح ونوعية المواد المناسبة للمناخ المحلّي، وتحديد مدى حاجة المبنى للعزل. المباني الزجاجية قد تكون غير فعالة في مناخات حارة وصحراوية كالخليج العربي، حيث تمتص كميات مهولة من حرارة الشمس مما يتطلب تبريدها باستمرار وتحتاج نوافذها للصيانة أكثر بفعل العواصف الترابية وارتفاع درجات الحرارة. اختيار مادة الاسمنت مثلًا للبناء يتطلب كمية طاقة كبيرة، في حين أن استعمال مواد محلية (كالخشب أو الطين) يمكن أن يؤدي نفس الغرض بأداء مكافئ. المعماري المصريّ -وأحد روّاد الاستدامة في العالم العربي- الدكتور حسن فتحي أطلق شعار “انظر تحت قدميك وابنِ”، لتشجيع استعمال المواد وأساليب التخطيط والمعمار المحلية.[7]

استغلال ضوء الشمس في إضاءة وتدفئة المباني، واستغلال الرياح لتهويتها وتبريدها، قد يغني عن استعمال التكييفات والتدفئة لفترات مطولة على مدار اليوم ويقلل استهلاك الطاقة بنسبة قد تصل إلى 30%.[8]

بالطبع، يتطلب إدماج أفكار كهذه وضع بعض التقييدات على تصميمات المساحات واختيار المواد وغيرها، ولذلك فمن الضروري أن تشمل مرحلة التصميم فكرة الاستدامة والأثر بعيد المدى للمبنى. بعض المعماريين وصل بهم الأمر إلى تصميم مبانٍ “قابلة للتحلّل” ولا تترك أثرًا بيئيًا بعد انتهاء عمرها الافتراضي.[9]

مبادرات دولية: يُعلن المعماريون

للأسف تظل هذه الحلول الفردية غير فعالة على المستوى الدولي، فهناك الكثير من المشاريع التي لا تضع أزمة المناخ وشرط الاستدامة قيد الحسبان أو حتى ضمن أولوياتها. لذلك فقد ظهرت العديد من المبادرات لمحاولة تنظيم مهنة العمارة عالميًا. إحدى هذه المبادرات هي مبادرة »يُعلن المعماريون – Architects Declare»، التي انطلقت عام 2019 بمشاركة 17 مكتبًا معماريًا حائزًا على جائزة ستيرلنغ المعمارية.

يذكر مؤسس المبادرة، مايكل بولين، أن ما دفعه  لإنشائها هو تأثره بأسلوب التفكير النظمي «System Thinking»، حيث صار يسعى لتغيير المنظومة بمحاولة تعديل النموذج «Paradigm» الذي يقود سلوكها وقيمها، وتعديل أهداف المنظومة من الأصل، عوضًا عن مجرد خلق أمثلة ناجحة لمشاريع مستدامة ومحاولة ترويجها.[10]

تعدى عدد أعضاء المبادرة الألف موزعين على 27 دولة، وتوسعت لتشمل تخصصات هندسية أخرى أيضًا. لكنها في يونيو 2020 تعرضت لأزمة حادة بعد توجيه النقد لاثنين من أعضائها المؤسسين، مكتبا نورمان فوستر وزها حديد، لمشاركتهما في مشاريع مطارات مخالفة لبيان المبادرة ومكلفة بيئيًا حسب المبادرة. انتهت الازمة في ديسمبر الماضي بانسحاب المكتبَين، في حين اتهم «باتريك شوماخر» -رئيس مكتب زها حديد-المبادرة بأنها “شديدة الراديكالية”.[11]

اختلاف في الأولويات أم في وجهات النظر؟

علق «نورمان فوستر» على اتهامات المبادرة له بمخالفة مثياقها المهني بأنه مع شركائه كانوا روّاد التصميم البيئي للمطارات منذ عقود، ومشاريع كمدينة مصدر بالإمارات ومطاري ستانستيد والملكة علياء تشهد له بذلك. حسبَ «فوستر» فإن الحل ليس في إيقاف حركة الطيران بل في إنشاء مطارات صديقة للبيئة.[12]  في المقابل توجه النقد لـمكتبي فوستر وزها حديد بأن أولياتَهم ليست معالجة الأزمة المناخية، خاصةً إذا تعارضت مع نموذج عملهم التجاري.[13]

الجدل أيضًا حول مساهمة قطاع الطيران في الأزمة. الكاتبة «كريستين مورراي» تساءلت عن جدوى إثارة الضجة حول المطارات التي تشكّل 3% من انبعاثات الكربون رغم أن تلك المشاريع ستنفذ على أي حال، قائلة “أنتم لم توقفوا المطار وإنما قسمتم المهنة إلى أخيار وأشرار.”[14]

كما يبدو واضحًا الآن، فأصل هذه الأزمة سياسي الطبع بالدرجة الأولى. الحكومات التي تقيم مشاريع مكلفة بيئيًا لن يعنيها استبدال مصممٍ بآخر، وفي هذه الحالة قد يكون الأنسب تصميم هذه المشاريع بحيث تحجّم آثارها البيئية أو تحتويها إلى حدٍ ما. الكثيرون يرون أن علاج المشكلة يجب أن يكون على مستوى حراك سياسي اجتماعي دولي لتدارك الكارثة المناخية التي تتهدد كوكبنا.

وأنت عزيزي القارئ، هل ترى الحل الراديكالي ممكنًا؟ أم أن الحل الأنسب هو تقليل الأضرار الناجمة عما هو كائن بالفعل؟ ضع في الحسبان أنه ربما يتوجب على بعض المجتمعات التضحية بامتيازات أو فرص تمدنية وتوسعية من أجل مستقبل هذا الكوكب. هل تعتقد أن لدينا الاستعداد لذلك؟

المصادر

[1] Department of Economic and Social Affairs

[3] Emissions Gap Report 2019

[4] RIBA Sustainable Outcomes Guide

[5] للإطلاع على فلسفة لاكاتون وفاسال في التصميم، يمكن مطالعة إصدارهما: Reduce, Reuse, Recycle

[6] LaFarge Holcim Foundation: Anne Lacaton

[7] للإطلاع على أفكار حسن فتحي وأمثلة واقعية للبناء بمواد محلية، يمكن مطالعة كتابه “عمارة الفقراء”.

[8] Whole Building Design Guide

[9] Dezeen

[10] The Architectural League

[11] Dezeen

[12] Dezeen

[13] World Architecture

[14] Dezeen

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


عمارة

User Avatar

زياد حسنين

كاتب ومعماري، مهتم بالدين والفكر والتاريخ وأشياء كثيرة أخرى.


عدد مقالات الكاتب : 14
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق