Ad
هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

يعد موضوع حرية الإرادة من المواضيع القديمة في الفلسفة، ومثلها فكرة الحتمية. وقد شكّلت الحرية على مر التاريخ معضلة للكثيرين، طرح فيها العديد من الفلاسفة آراءهم وتحليلاتهم. فالبعض يرى أننا نحن البشر نتمتع بالحرية في تصرفاتنا واختياراتنا. في حين يرى البعض الآخر أننا محكومون بحتمية الكون الذي يسير وفق خطة محددة تشترك فيها جميع العناصر، بما فيها نحن البشر.

لا تكمن المشكلة فقط في الخلاف على مدى حرية البشر في إرادتهم أم حتمية مصيرهم. بل تقود هذه البداية إلى مسألة أشد تعقيداً، وهي المسؤولية الأخلاقية. فما هي درجة المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها البشر تجاه أفعالهم؟ وكيف تتغير هذه الدرجة عند الأخذ بوجهة نظر الحتمية دوناً عن حرية الإرادة؟ [1]

سنستعرض في هذا المقال بعضاً من الأفكار والتحليلات لمسألة حرية الإرادة وعلاقتها (أو عدم علاقتها!) بالحتمية، إضافة إلى ارتباطها بالمسؤولية الأخلاقية.

حرية الإرادة (Free Will)

تنطوي حرية الإرادة على حرية المرء في اتخاذ القرار بالأفعال التي يقوم بها. وفقاً لديفيد هيوم (David Hume) وتوماس هوبز (Thomas Hobbes)، تعني الحرية عدم وجود عوائق خارجية تمنع المرء من القيام بما يريد. ويمكن توسيع هذا إلى افتراض أن الحرية هي عدم إجبار الشخص على القيام بما لا يريد. فامتلاكنا لحرية الإرادة يؤدي إلى حريتنا في اختيار الأفعال التي نقوم أو لا نقوم بها. أي يربط كل من هيوم وهوبز حرية الإرادة بحرية الأفعال [2].

من الاعتراضات التي واجهت هذا الرابط هي أنه يمكن للمرء أن يكون حراً باختيار أفعاله، لكن قد يحدث ما يمنعه من القيام بهذه الأفعال. فالعوائق الخارجية التي قد تمنع الشخص من القيام بنشاط محدد لا تلغي حرية هذا الشخص باختياره للقيام بهذا النشاط أصلاً. فمثلاً، يمكن لأحد ما أن يختار الذهاب في نزهة، ولكن الطقس يمنعه من تنفيذ هذا الفعل. فهذا الشخص كان حر الإرادة باختيار ما سيفعله. أي أنه قرر بكامل إرادته أنه يرغب بالذهاب في نزهة. ولكن عوامل الطقس منعته من تنفيذ هذا العمل. لكن هذه الإشكالية التي يراها البعض في الربط بين حرية الإرادة وحرية الأفعال تتوقف على كيف نعرّف حرية الإرادة بالأصل [2].

الحتمية (Determinism)

الحتمية هي النظرة التي تربط الأمور في الكون بعلاقة سببية. فمن وجهة النظر هذه، لا يحدث شيء ما إلا ويكون وراءه سبب محدد أدى إلى حدوثه، قد يكون هذا السبب مباشراً أو غير مباشر. ولكن العلاقة بين جميع العوامل هي التي تؤدي إلى حدوث هذا الأمر بعينه دوناً عن سواه. وفقاً للحتمية السببية، يتحدد مسار المستقبل بأكمله وفق ما حدث في الماضي وحسب قوانين الطبيعة. فمثلاً إذا وقعت أحداث الماضي بطريقة معينة ورافقتها قوانين الطبيعة بصيغة معينة، سيؤدي اجتماع كل من هاتين القوتين إلى مسار وحيد للمستقبل لا يمكن أن يحيد عنه. وهذه هي حتمية المستقبل التي سببتها عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. ولكن الحتمية لا تنطوي على ضرورة توقع المستقبل. إذ يمكن للمستقبل أن يكون محتوماً بعوامل الماضي وقوانين الطبيعة دون أن يكون باستطاعة أحد أن يتوقعه [2].

لكن النتيجة التي تقودنا إليها الحتمية هي أننا غير قادرين على امتلاك الحرية التي نظن أننا نملكها. ولا يمكننا أن نقوم بأي شيء مغاير للأمور المحتومة الناتجة عن اجتماع عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. وفقاً لهذا، فحتى الأمور التي نقررها، ظناً منّا أنها بمحض إرادتنا “الحرة”، هي نتائج محتومة بناء على ما مضى.

فأين حريتنا إذاً؟ وكيف لنا أن نخرج من عباءة الماضي؟ لا يمكننا، وفقاً للحتمية، فنحن محكومون، وأفعالنا نافذة شئنا أم أبينا ولا تصدر عنا. بالتالي، لا تحمّلنا وجهة النظر هذه مسؤولية أفعالنا. وفيما يلي سنتوسع في هذه النقطة [3].

التوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Compatibilism)

بالعودة إلى حرية الإرادة، يرى البعض أن الحتمية لا تتناقض مع حرية الإرادة. فيمكن للمرء أن يقرر ما يريد حتى وإن كان هذا الأمر محتوماً. يمكن لنا أن نختار الأمر “المحتوم” دون أن تكون حتميته قد أجبرتنا على اتخاذ رأي أو موقف معين منه. تدعى وجهة النظر هذه بالتوافقية [1].

تأتي التوافقية رداً على فكرة الحتمية. وكما ذُكر في الفقرة السابقة، تعزو الحتمية أفعالنا إلى عوامل جرت في الماضي البعيد. أدت هذه العوامل، نتيجة وجودها مع قوانين الطبيعة المعينة، إلى ما نحن عليه الآن وإلى ما سيحدث في المستقبل. فنحن غير مسؤولين عما نختار. ولن يكون لخيارنا أي أثر فيما سيحدث، فما سيحدث هو أمر محتوم [3].

يأتي رد التوافقية على هذا الطرح لا ليناقضه أو ينفيه. بل يرى التوافقيون أن حتمية الأفعال لا تنفي أو تقوّض فكرة الحرية بقيامنا بهذه الأفعال أو اتخاذ القرارات المرتبطة بها. فالمرء يكون أمام خيارات متعددة ليقوم بها، ولديه الحرية في اتخاذ القرار بما سيفعل. إن كان هذا الفعل محتماً لا يعني أن المرء لم يكن لديه خيارات أخرى. لهذا يرى التوافقيون أننا مسؤولون عن أفعالنا لأن حتميتها لا تنفي حرية اختيارنا لها [3].

اللاتوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Incompatibilism)

بالمقابل، يرى مناصرو اللاتوافقية أن الحتمية، إن كانت صحيحة، لا تتوافق مع حرية الإرادة. أي أن حتمية سير الأمور في المستقبل تنفي امتلاكنا للحرية. وهذا يعني أننا، حتى وإن ظننا أننا نملك حرية الاختيار، فإن الخيار الوحيد الذي سنقوم به هو الخيار المحتم. وسبب حدوث هذا الخيار ليس إرادتنا بذلك، بل حتميته بناء على ما مضى [4].

وفق وجهة النظر هذه، يمكن تفسير عدم توافق حرية الإرادة والحتمية بطريقتين مختلفتين. تقول إحداهما أنه بسبب الحتمية، يستحيل علينا أن نكون نحن السبب في أفعالنا، ولا نستطيع التحكم بها. أما وجهة النظر الأخرى فتشرح أن الحتمية تجردنا من القوة أو القدرة على اختيار شيء أو القيام بفعل غير الأمر المحتوم مسبقاً [4].

المسؤولية الأخلاقية بين حرية الإرادة والحتمية (Moral Responsibility)

لنقف قليلاً عند بعض الآراء حول المسؤولية الأخلاقية. فعند الحكم على شخص ما أنه مسؤول من الناحية الأخلاقية، فمعناه أن هذا الشخص يتمتع بقدرة معينة، وأن سلوكه نابع من تطبيقه لهذه القدرة بطريقة ما. عندها، يمكن القول بأن هذا الشخص مسؤول عن أفعاله التي نتجت عن هذه القدرة [5].

لكن يرى بعض الفلاسفة أن افتقارنا لحرية الإرادة – أي في حال كانت الحتمية أمراً حقيقياً – يجعلنا غير مسؤولين من الناحية الأخلاقية [6]. كما ذُكر سابقاً، تعتبر الحتمية أن كل شيء ناتج عن عوامل من الماضي، من ماضٍ لا علاقة لنا به، ومن قوانين الطبيعة. وفق هذا، لا علاقة لنا بكل ما يحدث من حولنا، حتى الأفعال التي نقوم بها. ولذلك، فنحن لا نتحمل مسؤولية تلك الأفعال [5].

من جهة أخرى، يرى البعض أن الحتمية لا تلغي بالضرورة مسؤوليتنا الأخلاقية. فحتى إذا ألغت الحتمية قدرتنا على التحكم بما يجري، فهي لا تلغي قدرتنا على التحكم بكل ما تتطلبه المسؤولية الأخلاقية [2].

يمكننا هنا التوقف عند ما يسمى بمبدأ الإمكانيات المحتملة (The Principle of Alternative Possibilities). وفق هذا المبدأ، نتحمل مسؤولية أفعالنا فقط إذا كان لدينا القدرة على القيام بغير ما قمنا به. أي إذا كان أمامنا فعلان أو أكثر، وكان بمقدورنا الاختيار فيما بينها، وقررنا اختيار فعل ما، نتحمل مسؤولية خيارنا بسبب وجود بدائل عنه. لكن مبدأ الحتمية ينقض هذه المسؤولية لأنه لا يرى أن اختيارنا كان بسبب حرية إرادتنا. بل كان هذا الخيار محتوماً مسبقاً، ولم يكن باستطاعتنا القيام بغير ذلك حتى مع وجود بدائل [6].

تتشعب التحليلات والآراء فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية. وتبقى قضية حرية الإرادة والحتمية من القضايا الأساسية في الفلسفة لأهميتها في فهم مدى تحكمنا نحن البشر بأفعالنا.

اقرأ أيضاً: الفردية بين حرية الفرد والمجتمع

المصادر

  1. Coursera: Mason, Elinor, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Free Will – Internet Encyclopedia of Philosophy
  3. Compatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  4. Incompatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  5. Moral Responsibility – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  6. JOHN FISCHER: FREE WILL AND MORAL RESPONSIBILITY

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر فلسفة

User Avatar

Watfa Alassafeen

مترجمة من سوريا. أحب القراءة والكتابة.


عدد مقالات الكاتب : 44
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق