Ad

تعتبر الفوتوغرافيا حضورًا للنفس بوصفها آخر ،أي هي انفصال مراوغ للوعي بالهوية[1]. ويعد فعل أن أرى نفسي -غير النظر في المرآة- فعلا حديثًا بالمقياس التاريخي. ففي الماضي كان رؤية الشخص لجسده أمامه شيء من الهلوسة، وهذا الانزعاج ناتج من رؤية المرء نفسه على ورقة. ويفسر الفيلسوف رولان بارت* ذلك باختلال الملكية، إذ حولت الفوتوغرافيا الذات إلى موضوع[2]. وفي هذه المقالة سنجيب عن عدة أسئلة حول صورة السلفي، من أهمها متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟ وكيف يتم تسويق الذات من خلالها؟

مفهوم السلفي


ذكر قاموس Oxford أن كلمة “سلفي” تعني الصورة التي يلتقطها الفرد لنفسه، بهاتف ذكي أو بواسطة كاميرا النت ويتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي[3]. ومع انتشار الهواتف الذكية، أصبحت الصورة الذاتية الرقمية selfie ذات تأثيرات تواصلية اجتماعية. ويعتبر توجيه الكاميرا إلى الذات والتقاط صورة شخصية، نوعا من أنواع أنشطة التواصل الاجتماعي وأكثرها بروزًا. وعلى عكس البورتريه الذي يستغرق وقتًا لرسمه بإتقان، فصورة السلفي لا تتطلب تقنيات معقدة ولا روحًا فنية.


وقد انتشرت صور السلفي بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة، مما جعلها ظاهرة منتشرة في العالم فعالمنا اليوم مليء بالسلفي. وتعد الصورة الذاتية وسيلة لجذب انتباه شخص ما بصريًا، ومحاكاة للتفاعل وجهًا لوجه. وليكون الفرد موجودًا وجب عليه إنتاج هذه الصورة بشكل مستمر، وعرضها من خلال الشبكة. والحصول على الإعجاب والشعبية هي المكافأة النهائية، وبالتالي هي وسيلة لإسقاط آراء الآخرين على الذات.
تعتبر صورة السلفي وسيلة للتواصل والرؤيا والعرض بوصفها منتجًا. ومن الممكن أن تكون إضاعة للوقت، أو عمل عشوائي يتمحور حول الذات من خلال بعض التأملات اللحظية لها. وأخيرًا وسيلة ليرى الآخرون الفرد داخل الشبكات الاجتماعية، وبالتالي الحصول على المصادقة منهم.

الوجه بورنوغرافيًا


في عالمنا السريع اليوم وتحت تأثير الاستهلاك المتزايد، لا شيء يدوم،” إنه زمن الاستهلاك الذي لا يشبع أبدا”[4] . وغدت الصورة الأكثر استهلاكا على الإطلاق، مجتمعاتنا تستهلك صورا أكثر من الأفكار. و ربما يكون مجتمع اليوم أكثر تحررًا وأقل تعصبًا، ولكن بذات الوقت هو أقل أصالة. وهذا “ترجمة للوعي السائد بالاعتراف بتأثير الضجر المثير للغثيان، كما لو أن الصورة بتعميمها، أنتجت عالما بلا اختلافات”[5].
وضمن ذلك اسُتحدثت قيمة جديدة وهي انبثاق الخاص داخل العام؛ أي الإعلان عن الخاص. فيصبح الخاص مستهلكا ضمن قيمة العرض بوصفه سلعة. ويستعير الفيلسوف بيونغ شول هان لفظة بورنوغرافيا ليصف فيها أي عميلة عرض أو انكشاف للمجال الخاص داخل المجال العام. أي كونها وسيلة للغوص في أعماق الذات البشرية ووضعها في أشكال علنية[6].
وتصبح الصور شفافة عندما تتحرر من كل نزعة تربطها بالمشهد المسرحي أو الرقص أو التصوير، عندما تتحرر من أي عمل تأويلي، ومن أي معنى على الإطلاق تغدو أكثر التصقًا بالبورنوغرافيا، التي هي عبارة عن اتصال سطحي بين الصورة والعين”[7].

السرية والتعرية في صورة السلفي


متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟ قد يتساءل القارئ عن الرابط بين البورنوغرافيا (الإباحية) وصورة السلفي. ويجيب الفيلسوف جان بودريار على ذلك، فيقول: “الصورة عن قرب للوجه هي نوع من الفحش كما لو أنك قد نظرة إلى أحد الأعضاء الجنسية من مسافة قريبة. إنه يغدو عضوًا جنسيا. أي صورة أي شكل، أي جزء من الجسم يُحدق فيه من مسافة قريبة يتحول إلى عضو جنسي”[8].
ولا يوجد أكثر من تجانس الصور الإباحية، هي دائمًا صورة ساذجة، لا مقصد لها ولا حسابات. مثل واجهة زجاجية لا تعرض ولا تكشف سوى جوهرة وحيدة واجهة مخصصة بالكاملة لشيء وحيد، الجنس ولا يوجد موضوع آخر[9]. أليست صورة السلفي وسيلة عرض للوجه الإنساني فقط عبر الشاشة واجهة مخصصة للتحديق بها من مسافة قريبة؟
الجسم اليوم غدا مجموعة بيانات، وفي الوقت نفسه يتم تفكيكه لأشياء جزئية تشبه الأعضاء التناسلية، تشغله الشبكة الرقمية. يقول هان:” في عالم اليوم الجسم في أزمة. حيث لا ينحل فقط إلى مجرد أعضاء بورنوغرافية، ولكن إلى مجموعة من البيانات الرقمية”[10].
ويضيف آغامبين: “الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفصح عنه الوجه الجميل، وهو يكشف عن عريه مبتسما. هو هل تريد أن تشاهد سري؟ هل ترغب بالكشف عن ما هو مستور؟ فلتنظر جيدا إذا ما دام ذلك في استطاعتك”[11]. فالوجه المعروض ليغازل المستهلك يفتقر إلى قيمة السمو. الوجه يعرض دون أي سر لا يخفي شيء ولا يعبر عن شيء، ولا يظهر شيء غير عرض ذاته. ومن هنا اختزال الوجه بقيمة العرض تمنحه صفة بورنوغرافية، “فالوجه الذي يتم تعبئته بقيمة العرض لكي يصل إلى نقطة الانفجار هو وجه بورنوغرافي”[12].
ولا يتضمن الوجود العاري للذات أي قيمة إذا ظل على الهيئة التي هو عليها. بقد ما يكون له قيمة وشأن داخل قيمة العرض، أي توجيه الانتباه إلى ما يتم إنتاجه. وهنا السلفي هي إعادة إنتاج للذات داخل قيمة العرض. وفي عصر تطورت فيه آليات التقاط الصور وتعديلها وفلترتها، لتكون واجهة الذات أمام الآخر.

صورة السلفي كانعكاس للذات عند بيونغ شول هان


يطرح الفيلسوف بيونغ تشول هان في كتابه “خلاص الجمال” موضوع صورة السلفي تحت عنوان الجسد الناعم، فيعتقد أن الصورة المقربة للوجه تعكس مجتمعا غدا منغلقا على نفسه. فالوجه أصبح محاصرا داخل نفسه ويغدو مرجعًا ذاتيًا لها وبذلك لم يعد معبرًا ويفتقد للعمق والجوهر والنظرة الذاتية.
ويشير أن التقاط صورة السلفي ناتج عن الفراغ الداخلي للأنا المعاصرة. فيراها فقيرة للغاية، فصورة السلفي “هي على وجه الدقة وجه فارغ بلا تعبير” [13]. كما ويؤكد أن إدمان التقاط الصور ناتج عن فكرة ” اليوم لا شيء يدوم”، وهذا يؤثر على الأنا ويزعزع استقرارها في مواجهة الفراغ الداخلي للأنا المعاصرة، ويضعها في حالة عدم الأمان. وبالتالي النفس تصبح مشتتة ولا تستقر ولا تشعر بالراحة. وهذا الفراغ الداخلي يدفع الذات إلى إعادة إنتاج نفسها من خلال صورة السلفي. وبالتالي صورة السلفي صورة فارغة للنفس ، أي استنساخ للفراغ.

وظيفة الصورة


من منا يستطيع إحصاء عدد صور السلفي التي نراها، ونحن نتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي. ومن منا لا يملك تصنيفًا ونظرة خاصة لها، نظرتنا للجمال، ذوقنا الخاص، اندهاش، افتتان، إعجاب، اشتهاء أو حتى نفور ولامبالاة. صورة السلفي صورة هشة هامدة، ملساء لا تقع إلا في مجال الحقل الرحب للرغبة الفاترة. كما أنها تثير الإعجاب أو الانجذاب، لكن لا يمكنها النفاذ إلى المتلقي لتثير شغفه. اهتمام المتلقي بها كالاهتمام بعروض، وملابس، وكتب، قد يجدهم جيدين.
ما الغاية من الصورة؟ قد يطرح المتلقي هذا السؤال بوصفه مستهلكا، تسمح الصورة لمتلقيها بمعرفة مقاصد ملتقطها، وتخلق حالة من التوفيق بين المجتمع والصورة عن طرق تخصيص وظائف لها، يقول بارت: ” الصورة خطرة” فوظيفتها تمثل عذرا للمصور. ومن هذه الوظائف: الإبلاغ، التمثيل، المفاجأة، التدليل، إثارة الرغبة[14]، كل ذلك دون إحداث أثر عميق بالنفس.
الصورة دائما عرض لشيء ما، وصورة السلفي تقدم عرضًا حصريًا للوجه. وقد يلاحظ المتلقي شكل الأسنان العينين، الشفتين، شكل الأنف، نظرة واحدة تكفي لكل ذلك، بل تكفي لمعرفة الفلاتر الموضوعة للصور، أو التغيرات التجميلية على الوجه، وبذلك تثير الصورة الاهتمام السطحي، ولا تتجاوز نفسها ولا تفصح عن شيء.

السلفي كصورة متوحدة


و تدخل صورة السلفي ضمن ما سماه بارت الصورة الفوتوغرافية المتوحدة. ويعد هذا النوع من الصور الأكثر انتشارًا في العالم الصورة العادية، فيقول بارت: “تكون الصورة متوحدة عندما تحول توكيدًا الواقع دون انشطاره، ودون زعزعته، التوكيد هو قوة تماسك لا ازدواجية ولا التفاف ولا تشويش. الصورة المتوحدة لديها كل ما يجعلها عادية”[15].
تضيف إلزا غودار أننا اليوم انتقلنا من عالم كانت الصورة فيه تسجل ما هو موجود. إلى عالم تتكاثر فيه الصور بلا جدوى، ويتعلق الامر بصورة هشة وعائمة صورة ملتقطة بسرعة، إنها صور لن تكون أبدا حقيقية. فبرمجيات التحسين والتصحيح وإضافة اللمسات مودعة في الآلة الفوتوغرافية نفسها، فلم تعد الصورة تنقل واقعا ، بل تغيره باستمرار. وهي صور هشة، لحظات عابرة، ومضات ليس لديها الوقت لتفكر في الواقع أو تقوم باستعادته[16]، وبذلك تكون خارجة من المعنى.

تسويق الوجه


تعتبر صورة السلفي إعلانًا فعالًا عن الذات (أيّ تسويق ذاتي- selfbranding). يستطيع الفرد من خلالها تقديم ذاته كموضوع للعرض والتداول في مجتمع الاستهلاك. كلما زاد الإعجاب زاد تقدير الذات وتضخم، وزادت الثقة بالنفس واحترام الذات. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى فعل السلفي بوصف الشخص الذي يلتقط الكثير من السلفيات يفتقر إلى الثقة بالنفس.
ويعمل على طمأنة نفسه بالتقاط صورة سلفي جميلة كمرجع مصور لذاته يعيد إليه شيئًا من احترام الذات. من خلال ما يحصده من إعجاب. وبما أن الذات ليست مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر تأكيدها من خلال البحث عن أكبر قدر من التقدير لنفسها في تكاثر اللايكات[17]. يؤكد عصر الفيس بوك والفوتوشوب أن الوجه البشري أصبح مساويًا فقط لقيمة العرض، الوجه مجرد عرض على الشاشة منزوع من هالته، سلعة على شكل وجه إنسان[18].

الصورة بوصفها موتًا


كل من يلتقط صورة اليوم يكافح بكل الأساليب لتصبح الصورة موتا. ألا يشعر من يلتقط صورة لنفسه أن ذاته تصبح موضوعًا، في لحظة واحدة تتحنط ويقف الزمن وتغدو صورة. ناهيك عن ما يلحق بها من تبعات لتغدو أجمل، خاصة الفلاتر لتغدو الصورة محنطة بشكل مثالي. ولا يتوقف الأمر هنا، بل وينتظر صاحب الصورة رأي المجتمع بها، متناسيًا أنه لم يصبح إلا صورة(منتج). ماذا يفعل المجتمع بالصور؟ ما يقرأ منها؟ كيف يقرأون الوجوه؟ خاصة بعد انتشار السلفي كظاهرة. يقول بارت: “ولكن حين أظهر على منتج العملية – يقصد عملية التصوير- ما أراه أنني لم أصبح إلا صورة. بما يعني الموت نفسه، الآخرون يجردونني من نفسي، يشيِّئونني بضراوة، يبقونني تحت رحمتهم، رهن إشارتهم. يصفونني في مدونتهم استعدادًا لجميع الخدع الغامضة”[19].
يشير بارت أن الصورة لا يمكن تحويلها إلا إلى نفاية، حتى لوكان على مواد صلبة (كالشاشة مثلًا). فما أن يتخذ المرء وضعية السلفي ويلتقط صورة للعامة، تصبح على الشاشة مستهلكة. يشبه بارت الصورة بالكائن الحي تولد تتفتح ثمّ تشيخ[20]، والصورة التي لا تملك أثرا تكون أبعد ما يكون عن الديمومة.

عليك أن تحدث نفسك باستمرار أو بتعبير آخر إعادة إنتاج مستمرة للذات. واحد هذه الطرق تقديم صورة تجعلك موضوعا حاضرا على الشاشة، وإعادة الفعل نفسه مرارًا. وحتى لو كانت الصورة على الشاشة فهي قابلة للزوال حينما تصبح مستهلة.
وفي الختام “لم يعد للكلمات أي شأن، إن العالم يُكتب بالصور” [21]. الذي يتكلم اليوم هو الآنية في هذه اللحظة الثابتة حول ملايين البكسيلات، الملتقطة بنظرة واحدة، إنها تتكلم عن الحياة والموت والأحاسيس والانفعالات، لقد حُصر قياس حجم العواطف في تأويل جاهز للرؤية. وبالتالي حل مجتمع الصورة الهشة محل الخطاب العقلاني.

المراجع


*- رولان بارت: فيلسوف فرنسي وناقد أدبي، ومنظر اجتماعي، غطت أعماله عدة مجالات فكرية عديدة، وأثر في تطور مدارس عديدة كالبنيوية والماركسية والوجودية.
1- بارت، رولان، الغرفة المضيئة (تأملات في الفوتوغرافيا)، ترجمة: هالة نمر، ط1، المركز القومي للترجمة، 2020م، ص16.
2- المرجع السابق، ص 17.
3- أحمد، رحاب يحيى(2019)،سلوك نشر صورة السلفي على مواقع التواصل وعلاقته ببعض اضطرابات الشخصية، دراسات تربوية ونفسية، ع(104)، ج2، ص ٨٦.

https://sec.journals.ekb.eg/article_81169.html


4- غودار، إلزا، أنا أوسلفي إذن أنا موجود، ترجمة: سعيد بنكراد، ط1، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2019م، ص83.
5- بارت، ص108.
6- هان، بيونغ شول، خلاص الجمال، ترجمة: بدر الديم مصطفى، ط1، دار معنى للنشر والتوزيع، 2020م، ص20.
7- هان، بيونغ شول، مجتمع الشفافية، ترجمة: بدر الديم مصطفى، ط1، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2019، ص15.
8- هان، خلاص الجمال، ص21.
9- بارت، ص42.
10- هان، مجتمع الشفافية
11- هان، مجتمع الشفافية، ص51.
12- المرجع السابق
13- هان، خلاص الجمال، ص22.
14- بارت، ص12.
15- المرجع السابق، ص41.
16- غودار، ص63.
17- المرجع السابق، ص80/86.
18- هان، مجتمع الشفافية، ص31.
19- بارت، ص 18.
20- بارت، ص86.
21- غودار، ص60.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر فلسفة

User Avatar

أنوار سلمان

حاصلة على درجة الماجستير في التاريخ، مهتمة بالقراءة والبحث العلمي.


عدد مقالات الكاتب : 4
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق