Ad
هذه المقالة هي الجزء 16 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟ وقعت العديد من الأحداث الشنيعة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ولعل أبرزها المحرقة الجماعية (الهولوكوست) لليهود على يد النازيين في معسكرات الإبادة. بعد انتهاء الحرب العالمية وإعلان هزيمة الحزب النازي وانتحار هتلر، عُقدت محاكمة نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب وقادة الحزب ومرتكبي الإبادة الجماعية. حاول هؤلاء الدفاع عن أنفسهم وساقوا عددًا من المبررات ولعل أكثرها إثارة للاهتمام هو الإدعاء أنهم كانوا يطيعون أوامر السلطة وحسب. لك أن تتخيل مدى برودة هذا الإدعاء واستفزازه لمشاعر الضحايا أو ذويهم أو حتى عالِم نفس فضولي!

دراسة ميلغرام

قرر ستانلي ميلجرام عالم النفس في جامعة يال التحقق من إدعاء الألمان بشأن السلطة، فقام بدراسة للإجابة عن السؤال أيهما ينتصر: الطاعة/ الخضوع للسلطة أم الإرادة/ الضمير البشري؟

https://www.youtube.com/watch?v=mOUEC5YXV8U
مقطع مختصر لتجربة ميلغرام

أُجريت الدراسة عام 1961 في جامعة يال، حيث نشر ميلجرام إعلانًا في الجريدة يطلب متطوعين من الرجال للمشاركة في تجربة عن الذاكرة والتعلم. تقدم أربعين مشاركًا ما بين عمر العشرين والخمسين، جُمع كل واحد منهم مع أحد الحلفاء (ممثل يوظفه القائم بالتجربة يدعي أنه مشارك حقيقي) وقاموا بسحب ما. رتب ميلجرام السحب بحيث يحصل المشارك على دور المعلم والممثل على دور المتعلم دائمًا. من الجدير بالذكر أن ميلجرام لم يظهر في مكان التجربة وإنما عين ممثلًا يرتدي معطفًا أبيضًا ليقوم بدوره. يشرح هذا الممثل للمشارك أن عليه طرح الأسئلة على المتعلم وإذا جاءت إجاباته خاطئة يصعقه كهربيًا، بحيث تزداد شدة التيار عند كل إجابة خاطئة، بداية من 15 فولت وانتهاءًا بـ 450 فولت.

هدف التجربة وخطواتها

هدِف ميلجرام من هذه التجربة معرفة مدى تأثير السلطة على الأشخاص العاديين، وتحت أي ظروف يمكن لهؤلاء الأشخاص ارتكاب أفعال سيئة.

تجري خطوات التجربة كما يلي: يذهب الممثل (المتعلم) إلى غرفة أخرى وتُثبت الإلكترودات بذراعه بينما يحصل المشارك الحقيقي (المعلم) على قائمة بالأسئلة. يبدأ المشارك بقراءة الكلمات ويجيب الممثل دائمًا إجابات خاطئة ثم يدعي التألم والصراخ حينما يضغط المشارك على زر الصعق. يزداد توتر المشاركين بمرور الوقت لسماعهم تألم الشخص في الجانب الآخر، وعندما يعترض أحدهم أو يطالب بالتوقف يستخدم الممثل بالمعطف الأبيض نبرة واثقة ويوضح لهم وجوب استمرار التجربة وأنه يتحمل المسئولية كاملة.

نتائج التجربة

قبل بداية التجربة سأل ميلجرام عددًا من الأشخاص وعلماء النفس عن توقعاتهم لنسبة الأشخاص الذين سيصلون إلى أقصى شدة للصعق الكهربي (450 فولت) وجاءت توقعاتهم أن النسبة لن تتعدى 2%. أثبتت النتائج الفعلية عكس ذلك تمامًا، حيث أشارت الدراسة أن 65% من المشاركين وصلوا إلى الحد الأقصى (450 فولت) و 100% من المشاركين تخطوا حاجز 300 فولت وذلك رغم سماعهم صراخ وتألم الشخص على الجانب الآخر.

يقول ميلغرام:

“على الرغم من أهمية الجوانب الأخلاقية والقانونية لمفهوم الطاعة إلا أنها تخبرنا القليل عن سلوك الأشخاص في المواقف الحقيقية. لقد أعددت تجربة بسيطة في جامعة يال لأختبر قدر الألم الذي يسببه شخص إلى آخر فقط لأن عالم بمعطف أبيض أمره بذلك. عندما حرضت السلطة الحازمة المشاركين ضد الوازع الأخلاقي القوي وهو عدم إيذاء الآخرين، وبالرغم من أن صرخات الألم كانت تملأ آذانهم، انتصرت السلطة دائمًا”

الوصفة المثالية للجريمة!

أعاد ميلجرام التجربة ثماني عشرة مرة بتعديلات مختلفة ليختبر العوامل التي تؤدي إلى هذه النتائج، وجاءت ملاحظاته كالتالي:

تقل نسبة الأشخاص الذين يصلون إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية (450 فولت) في عدد من الحالات:

  • عند نزع سلطة جامعة يال من المعادلة، والقيام بالتجربة خارج الجامعة.
  • عندما يكون المعلم والمتعلم في غرفة واحدة بحيث يمكن للمشارك أن يراه ويلمسه.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات هاتفيًا.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات من شخص عادي لا يرتدى المعطف الأبيض.
  • عندما يثور أحدهم ويرفض استكمال التجربة فيتبعه المشاركين الآخرين.
  • عند منح المشاركين اختيار مستوى الصدمة الكهربية، فيختارون الأقل دائمًا.

وبجمع هذه العوامل معًا توصل ميلجرام إلى الوصفة المثالية لجعل شخص ما يرتكب جرمًا شنيعًا:

  1. السلطة (سلطة جامعة يال- سلطة العلم والمعطف الأبيض)
  2. ثقة وثبات القائم بالتجربة (لو أظهر القائم بالتجربة توتره أو خوفه لاختلفت النتيجة)
  3. المسافة بين المعلم والمتعلم.
  4. موقف جديد بلا أي خبرة سابقة عن كيفية التصرف معه.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

القوى المحركة للشر

الآن كيف يمكن لعناصر هذه الوصفة المثالية أن تدفعنا إلى فعل جرم شنيع؟ ما الذي يحدث على مستوى سيكولوجي فردي يقلل من فداحة الشر ويُسهل ارتكابه؟

هناك اثنان من العوامل الرئيسية التي يمكن وصفها بقوى الشر، أولها:

«تجريد الشخص من فردانيته-Deindividuation of self»

ويحدث ذلك بعدد من الوسائل التي تقلل من شعور المرء بنفسه كفرد مستقل وبالتالي تقلل من شعوره بالمسئولية: –

  • استقبال الأوامر من شخص أو سلطة أخرى.

وبالتالي تتغير عقلية الفرد من: أنا أرتكب فعلًا خاطئًا، إلى: أنا فقط مجرد أداة في يد سلطة أخرى تتحمل المسئولية. يعد تحمل المسئولية بالتحديد أحد العوامل المحورية التي فسر بها ميلجرام نتائج دراسته. فأشار أنه عند تواجد سلطة يراها المشاركون قانونية أو أخلاقية (مثل سلطة العلم) يتحول الشخص في تصرفاته من الحالة الفردية إلى «الحالة العاملية-Agentic State» فيقل شعوره بالمسئولية ويسهل ارتكاب الخطأ.

  • وجود الشخص في مجموعة.

عندما يتواجد الفرد في مجموعة يقل شعوره بفرديته ومسئوليته عن أفعاله. وأشهر الأمثلة التي يبرهن بها علم النفس ذلك: «حادثة كيتي چينوفيز-Kitty Genovese Case»

كيتي جينوفيز فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها. تعرضت لاعتداء أثناء عودتها من العمل أدى إلى وفاتها، حدث الاعتداء في مساحة مفتوحة أمام المبنى الذي تسكنه. وأشار تقرير جريدة نيويورك تايمز أن ما يقرب من 38 شخصًا شهد الحادث ولم يبلغ الشرطة أو يقدم المساعدة. (من الجدير بالذكر أن الجريدة أصدرت تقريرًا آخرًا عام 2016 تعتذر عن التقرير القديم وتصف أرقامه بالمبالغ فيها، كما تؤكد تواجد بعض الأشخاص وتقديمهم المساعدة وقت الحادث بالفعل)

فسر علم النفس هذه الظاهرة فيما يعرف بـ «تأثير المارة-Bystander Effect» وهو انخفاض الشعور بالمسئولية عند التواجد في مجموعة، مثلما تشاهد محتاجًا في الشارع، فتحدث نفسك أنني لست مضطرًا لتقديم المساعدة، من المؤكد أن شخصًا آخرًا سيقدمها. ويوضح علماء النفس أن هذا التفكير يخلق حالة من «تفرق الشعور بالمسئولية-Diffusion of responsibility» فتقل احتمالية تقديم المساعدة.

  • إغفال الهوية

مثلما يفعل الجنود في الحروب فيرسمون على وجوههم أو يرتدون الأقنعة، تعد هذه الوسائل نوعًا من إخفاء الهوية، فيتحرر صاحبها من شعوره بفرديته (لست أنا من يرتكب الفعل السيء) وبالتالي يقل شعوره بالمسئولية.

القوة الثانية: استصغار الآخرين

على عكس الدافع الأول، يعتمد هذا الدافع على تجريد الآخر من فرديته. فهذا الشخص الآخر ليس شخصًا بعد الآن، ولن أشعر بالذنب إن آذيته. وهناك عدد من الوسائل التي تجعلنا نستصغر الآخرين أو ننسى أنهم بشر مثلنا. وهي: –

  • المسافة

كما وضحت تجربة ميلجرام، كلما ابتعدت الضحية عن ناظر المعلم فلا يستطيع رؤيته أو لمسه، يقل إدراكه له كفرد. وبالتالي تقل المسئولية فيصل إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية رغم سماعه صرخات الألم. وتنعكس النتائج عندما يكون الشخصان في نفس المكان.

  • حس الدعابة

لا يقتصر حس الدعابة على الضحك والخفة فقط، بل يمكن أن ينطوى على جوانب أكثر قتامة وخطرًا. فعند استخدامه للسخرية من شخص ما، ستراه تدريجيًا أقل إنسانية منك، مما يزيد من احتمالية الأذى ونقص الشعور بالمسئولية.

  • تجاهل الأسماء

ينص أحد بنود تصريح الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: ” كل فرد لديه الحق في اسم ” وربما تظن أن هذا أمر بديهي. لماذا نحتاج إلى بند لتأكيده؟ والحقيقة أن تجاهل اسم شخص ما أو محوه يقلل من أهميته وقيمته كفرد. يقل احتمال أذاك لشخص ما إن كنت تعرف اسمه، أما عند تجاهله تزداد احتمالية الأذى ويقل الشعور بالمسئولية.

  • التقزز

التقزز شعور عالمي يشعر به جميع البشر، وأساسي له تعبير وجهي مميز. تثير العديد من الأشياء شعورنا بالتقزز مثل البراز أو البول أو الدم أو القيء أو اللحم المتعفن. يمكن أن يمتد شعور التقزز للبشر أيضًا. إذا شعرت بالتقزز تجاه شخص ستقل أهميته وإنسانيته في نظرك، وتزداد احتمالية عدوانك عليه دون شعور كبير بالمسئولية.

تشير مقولة الفيلسوفة مارثا نوسباوم:

“دائمًا ما ارتبطت صفات التقزز باليهود والنساء والمثليين جنسيًا والمنبوذين والفقراء على مدار التاريخ، فكان يُنظر إليهم كأنهم أصحاب أجسام مدنسة”

كل شخص ينتمي لهذه الفئات تعرض لنوع من الاعتداء أو الأذى، وساهم شعور التقزز الذي حمله الناس تجاه هذه الفئات في تقليل إنسانيتهم في نظرهم، وبالتالي تسهيل الاعتداء عليهم دون احساس كبير بالمسئولية.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

أود أن أنهي الحديث بأشهر الانتقادات التي وجهت لتجربة ميلجرام. يجدر بالذكر أن هذا النوع من التجارب لا يسمح بتكراره حاليًا ولا يعد أخلاقيًا. فلم يكن من حق القائم بالتجربة تحت أي ظرف من الظروف أن يضع المشاركين تحت هذا الضغط، ليخرج أحدهم من الغرفة وهو يعلم أن بإمكانه إيذاء شخص ما وربما قتله إذا توافرت الظروف لذلك. لكن على الرغم من ذلك تظل أعمال ميلجرام عن الطاعة والسلطة مثيرة للاهتمام وتكشف لنا جوانب مثيرة وغامضة عن النفس البشرية لم نكن نعلم بوجودها!

اقرأ أيضًا: الاستثمار الأبوي كيف نفسر الاختلافات بين الرجال والنساء؟

المصادر

  1. BBC
  2. Simplypsychology
  3. Britannica
  4. Verywellmind
اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Esraa Ahmed
Author: Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر علم نفس

User Avatar

Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.


عدد مقالات الكاتب : 29
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *