Ad
هذه المقالة هي الجزء 19 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تخيل معي أنك وضعت عددًا من الأطفال عشوائيًا في مجموعتين وذهبت بهم في رحلة ميدانية. هؤلا الأطفال لم يتقابلوا قبل مطلقًا لكنهم يتشاركون نفس السن والخلفية الاجتماعية.

بعد مرور يومين اختار الأطفال أسماءًا لمجموعاتهم، وبعد أربعة أيام احتد الصراع بين كلا المجموعتين، وبعد ستة أيام وقع الأطفال في التنميط فوصفوا مجموعاتهم بصفات محببة فيما أهانوا المجموعة الأخرى، وعندما حاولت خلق نوع من التواصل فيما بينهم ازداد الوضع سوءًا.

فما الذي حدث هنا؟

تجربة كهف روبر

ما تخليته الآن هي تجربة شهيرة في علم النفس الاجتماعي تدعى تجربة «كهف روبر-Robber’s cave experiment» قام بها عالم النفس التركي مظفر شريف. استنتج منها ما يلي:

  • عند وضع مجموعة من الغرباء سويًا في مجموعة واحدة وتوحيد أهدافهم، سينشأ نوع من التنظيم وتوزيع الأدوار فيما بينهم.
  • عند خلق تنافس بين المجموعتين حديثتي التكوين، سينشأ نوع من التفضيل بين أفراد المجموعة، والعداء تجاه أفراد المجموعة الأخرى.

نجد هنا أن هؤلاء الأطفال، في غضون أربعة أيام فقط، طوروا حسًا بالانتماء لمجموعة ما ووصفوا جميع أفرادها بالذكاء أو سرعة البديهة او غيرها من الصفات الحميدة فقط لانتماء هؤلاء الأفراد لتلك المجموعة. بينما ذموا جميع أفراد المجموعة الأخرى ووصفوهم بالكسل أو الحماقة فقط لانتماء هؤلاء الأفراد لتلك المجموعة.

ذلك “التنميط” الذي وقع فيه هؤلاء الأطفال شائع ومؤثر ويمكننا رؤيته يوميًا. فلا يقتصر على فريقين في رحلة ميدانية وإنما يمتد ليشمل مجموعات كاملة من البشر. رجال ونساء أو سود وبيض. جميعها ألقاب وفرق لا تأتي وحدها، وإنما ترتبط بها قائمة طويلة من الصفات والأنماط (إيجابية أو سلبية) وتاريخ من العنصرية.

التنميط بين الإيجابيات والسلبيات

مصطلح التنميط أو «الصور النمطية-Stereotypes» له تاريخ طويل. بداية من القرن الخامس عشر حينما كان يستخدم لوصف عملية الطباعة حتى وقتنا الحالي.

مصطلح الصور النمطية حاليًا هو عدد من المعتقدات الثابتة والمعممة على مجموعة أو طبقة من البشر. فعندما نقع في تنميط شخص ما نشير أن هذا الشخص يحمل عددًا من الصفات التي يحملها جميع أفرد مجموعته/طبقته.

لا نحتاج لذكر الوصمة السلبية التي ترتبط بهذا المصطلح، فإذا وقعت في التنميط فقد ارتكبت فعلًا سيئًا. والسؤال هنا هل التنميط بالفعل أمر سيء؟

الإيجابيات

يستخدم علماء النفس مصطلح التنميط على نطاق أوسع. نحن نتعرض لمعلومات ومؤثرات جديدة طوال الوقت، ونحلل هذه المعلومات في ضوء معارفنا المسبقة فنقوم بالتنميط أو التعميم.

إذا رأيت هيكلًا خشبيًا بأربعة أرجل وتعرفت عليه أنه مقعد، بالتأكيد ستصل إلى النتيجة أنه يمكنك الجلوس عليه، وإذا رأيت كلبًا وتعرفت عليه ستصل أيضًا إلى النتيجة أنه بالتأكيد ينبح.

تقع هذه التعميمات (أن جميع المقاعد للجلوس عليها وجميع الكلاب تنبح) ضمن نطاق التنميط.، وتكمن أهميتها في تبسيطها العالم من حولنا، فلا نضطر إلى معالجة كل شذرة من المعلومات الجديدة بل نقفز سريعًا إلى النتائج.

السلبيات

لا يصيب هذا القفز السريع إلى النتائج دائمًا، وهنا تظهر الجوانب السلبية للتنميط. فعندما يمتد الأمر إلى البشر تضعف سلطة التعميمات أمام قوة الاختلافات بين الأفراد.

هذه هي الأسباب وراء عدم صحة الصور النمطية عند البشر غالبًا:

  • التحيز للتوكيد

    هو نوع من التحيز المعرفي يتضمن تفضيلنا للمعلومات التي تتماشى مع معتقداتنا أو تحيزاتنا السابقة وتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. إذا طبقنا هذا المفهوم على الصور النمطية سيتضح لماذا لا ينبغي الوثوق بها.

    مثال: أحد الصور النمطية عن الرجال السود أنهم يميلون للعنف، فإذا رأيت مجرمًا أسودًا سيبرز في عقلك تحيزك المسبق وتزداد اقتناعًا به، وإذا رأيته يدير عملًا ناجحًا فعلى الأرجح ستغفله وتتناساه.

  • عدم مصداقية المعلومات التي تنشأ منها الصور النمطية.

    نحصل على جميع معلوماتنا عن العالم من وسائل الإعلام (التلفاز والصحف والكتب). معلومات هذه الوسائل غير موثوق بها وغالبًا مضللة. لأنها ببساطة لا تمثل جميع الفئات في العالم، وعند تمثيلها بالفعل قد تتبنى صورًا غير واقعية ومضللة.

    مثال: تتعرض السيدات في مجال الموسيقى الكلاسيكة لصورة نمطية مفادها أنهم أقل كفاءة من العازفين الرجال. استطلعت أحد الدراسات ذلك وقامت بما يُعرف بـ «تجارب الأداء المحجوبة-Blind Auditions» وهنا يعزف المشاركون خلف ستار فلا يرى الحكم جنس المشارك. جاءت النتائج بتفوق العازفات الإناث وفوزهم بالوظيفة. يظهر لنا هذا المثال عدم صحة الصورة النمطية بالإضافة إلى أثرها السلبي على حيوات من يتعرضون إليها.

خطر الصور النمطية

لا تتوقف سلبيات الصورة النمطية عند هذا الحد، بل ترتبط بها ظاهرة غاية في الجدية والخطورة، وهي ظاهرة «خطر الصورة النمطية-Stereotype Threat». تحدث عن هذه الظاهرة عالم النفس كلود ستيل في ورقة بحثية استطلع فيها أثر (خطر الصورة النمطية) على أداء المواطنين الأمريكين ذوي الأصول الأفريقية في اختبارات الذكاء.

عرّف ستيل خطر الصورة النمطية أنه: خطورة الوقوع في أو توكيد الصفة/النمط السلبي الذي تشتهر به مجموعة معينة من البشر التي ينتمي إليها الفرد.

في حالة الأمريكين ذوي الأصول الأفريقية، يتعرض هؤلاء الأشخاص لصورة نمطية مفادها أنهم أقل ذكاءًا من المواطنين البيض. لذا عندما ذكرهم ستيل بهويتهم العرقية ثم وضعهم أمام اختبار ذكاء، تدنى أدائهم بشكل كبير.

وهنا دعني أوضح أن ستيل لم يجمع المشاركين ليلقي عليهم محاضرة عن أصولهم الأفريقية وما يشيع عن انخفاض معدل ذكاء المنتمين إليها. بل الحقيقة أن خطر الصورة النمطية يمكن إثارته بأبسط الطرق وأقلها وضوحًا مثل:

  • عندما يكون الشخص (المتعرض لصورة نمطية سلبية) وحيدًا وسط مجوعة من البشر.
    مثال: تواجد رجل أسمر البشرة وحيدًا وسط مجموعة يمكنه إثارة خطر الصورة النمطية.

  • عند التلميح للنمط السلبي الشائع عن مجموعة ما أمام شخص ينتمي إليها.
    مثال: ملأ استبيان يستطلع جنس الشخص أو عرقه قبل اختبار ما كافٍ لإثارة خطر الصورة النمطية.

  • عندما يخضع الشخص (المتعرض لصورة نمطية سلبية) للتقييم، والقائم بالتقييم لا ينتمي لنفس المجموعة المتعرضة للنمط السلبي.
    مثال: تحرز النساء نتائج أفضل في اختبارات الرياضيات عندما يكون المراقبون من الإناث لا الرجال.

  • عندما يخضع الشخص (المتعرض لصورة نمطية سلبية) للتقييم، ويكون موضوع التقييم هو نفسه الصورة النمطية السلبية.
    مثال: إخضاع المواطنين ذوي الأصول الأفريقية لاختبارات ذكاء (الصورة النمطية الشائعة عنهم أنهم أقل ذكاءًا)

كيف نتصدى لسلبيات الصور النمطية؟

قبل التطرق إلى الوسائل التي تمكننا من مجابهة الصور النمطية وتأثيراتها السلبية، أود مناقشة الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك أولًا. لماذا نهتم بالصور النمطية؟ وما السيء حيالها الذي يستدعي المجابهة؟

أحد الدراسات قام بها عالم النفس جاك دوفيدو ليستطلع تأثير الصور النمطية على معدل توظيف الشباب. عندما أتى المتقدمون (سود وبيض) للوظيفة بتوصيات مناسبة كانت معدلات التوظيف متساوية بين العرقين، أما عند غياب التوصيات فاز البيض بمعدلات توظيف أكبر.

المغزى من هذه التجربة ليس ذم الأشخاص وعنصريتهم (من المحتمل أنهم لم يعوا أن اختياراتهم وقعت بشكل أكبر على المشتركين البيض) وإنما الاعتراف أن هذه الصور النمطية موجودة ومؤثرة.

أحد المستويات التي تتواجد بها الصور النمطية هو المستوى الباطني أو اللا شعوري، وهو المستوى الذي لا يعي فيه الشخص وقوعه في التنميط أو العنصرية.

ربما يصرح الشخص على الملأ أنه يشجع السيدات على تولي المناصب القيادية، أو يرى أن السود لا يقلون كفاءة عن البيض (وهذا هو المستوى العام/الواضح للصور النمطية) بينما يثبت تعرضه لموقف أو اختبار ما عكس ذلك (وهذا هو المستوى الباطني للصورة النمطية مثلما حدث في تجربة دوفيدو).

أحد العلماء الذين استكشفوا المستوى اللا شعوري للصور النمطية هي العالمة مهزرين باناجي. التي قامت بواحدة من أضخم الدراسات من حيث عدد المشاركين على مدار تاريخ علم النفس. وهو اختبار على الانترنت يمكنك تجربته من هنا: Project Implicit

يستكشف هذا الاختبار الصور النمطية الباطنية التي قد نحملها جميعًا ولا نعيها. ولا يقتصر هذا الاختبار على السود فقط بل النساء والمثليين جنسيًا وأصحاب الديانات المختلفة أيضًا. وما تثبته نتائج هذا الاختبار هو عدم التوافق بين نسب الصور النمطية الواضحة (التي يتحدث بها الأشخاص علانية) والصور النمطية اللاشعورية.

تدفعنا هذه النتائج للتعامل مع الصور النمطية من منطلق آخر، منطلق أننا ربما نحملها جميعًا لكن ما علينا فعله هو تطوير الوسائل للتعامل معها.

إذًا كيف نتعامل معها؟

  • الخطوة الأولى لتقليل خطر الصور النمطية هي الوعي، الوعي بالصور النمطية وتوعية الآخرين بشأنها.
  • رفض الصور النمطية بشكل واضح وعلني.
  • خلق طرق وأجواء مناسبة للاختبارات أوالوظائف بحيث لا تثير «خطر الصورة النمطية-Stereotype Threat» 
  • تبني صورة مرنة وواقعية عن الذكاء والترويج لها، يتطور الذكاء بها تدريجيًا، لا يسير في خط مستقيم.

خاتمة

هنا ننهي حديثنا عن الصور النمطية، وكيف يفسرها علماء النفس بشكل أوسع وأكثر إيجابية كوسيلة لتبسيط العالم من حولنا، كذلك كيف يمكن لهذا التنميط أن يحمل آثارًا سلبية ونتائج مدمرة على أداء الأفراد والجماعات. وأخيرًا كيف يمكن للوعي والعلم بهذا المفهوم وتفاصيله أن يجنبنا مخاطره الكثيرة.

اقرأ أيضًا: نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود

المصادر

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر علم نفس

User Avatar

Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.


عدد مقالات الكاتب : 29
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق