Ad
هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

يمكن تعريف فلسفة العقل (Philosophy of Mind) على أنها دراسة طبيعة العقل، والظواهر والوظائف والخواص العقلية. كما يبحث هذا الاختصاص من الفلسفة في ماهية العلاقة بين العقل والجسد [1]. ويسعى للإجابة على التساؤلات حول اختلاف العقل عن المادة، وماهية التفكير والإحساس والتجربة والتذكر وغيرها من الوظائف المرتبطة بالعقل دون الجسد [2].

فسر الفلاسفة في هذا الاختصاص طبيعة العقل بطرقٍ عدة. ونتج عن هذه التفسيرات والتحليلات لعلاقة العقل بالجسد أكثر من اتجاه. سنسلط الضوء في هذا المقال على كل من الثنائية (Dualism)، ونظرية هوية العقل (Identity theory)، والوظائفية (Functionalism).

الثنائية في فلسفة العقل – ثنائية العقل والجسد

في تفسيره للعقل واختلافه عن الجسد، يشرح ديكارت (Descartes) أن مكوّنات العقل تختلف اختلافاً كلياً عن مكونات الجسد. فالعقل ذو طبيعة لا مادية، ولكنّ الجسد هو مادة ملموسة [3].

ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على الاختلاف الجذري بين العقل والمادة. ويذهبون إلى رفض اعتبار أن العقل والدماغ هما شيء واحد. بل يصل بعضهم إلى حد رفض فكرة أن العقل هو بكلّيّته منتج من منتجات الدماغ. إذاً، كيف يفسر أنصار الثنائية هذا الاختلاف بين العالمين العقلي والمادي؟

تناقش الثنائية المادية أن العقل والجسد مؤلفان من مادتين مختلفتين. فالعقل هو أداة تفكير لا يتمتع بخواص الأشياء المادية كالحجم والشكل والصلابة. ولا يتبع قوانين الفيزياء التي تتأثر بها الأشياء المحسوسة. ويفسر بعض هؤلاء العلاقة بين الجسد والعقل على أنها علاقة تفاعلية يؤثر فيها كل منهما على الآخر [4]. ولكن هذا يضعهم أمام تساؤل عن كيفية تأثر مادتين مختلفتين ببعضهما. فقد واجه ديكارت هذا الاستفسار حول إمكانية العقل البشري، وهو أداة التفكير غير المادية، بأن يحدد تحركات الجسد المادي [3].

نظرية هوية العقل في الفلسفة

من جهة أخرى، ترى نظرية هوية العقل أن العقل هو شيء مادي. ويشرح هذا الاتجاه أن حالات العقل وعملياته هي متطابقة تماماً مع حالات الدماغ وعملياته. والدماغ هو مادة باعتباره عضواً من الجسم البشري. فمثلاً عندما نشعر بالألم، أو نرى شيئاً، أو نتخيل شيئاً، تفسر نظرية هوية العقل أن هذه التجارب التي نعيشها في عقلنا ليست مرتبطة بالدماغ مجرد ارتباط، بل هي عمليات تحصل في الدماغ فعلاً. وتدعي هذه النظرية أن كل الظواهر العقلية تقابلها حالات جسدية. فالشعور بالألم مثلاً، أو الإحساس بالمحبة لشيء ما أو الكره لشيء آخر، يقابله تحفيز لإحدى الألياف العصبية [5].

لكن تواجه نظرية طبيعة العقل تساؤلات من منظور “التحقيقية المتعددة” (Multiple realisability). حيث تطرح فكرة إمكانية تجسيد الحالات العقلية بأكثر من حالة جسدية. كما أنه يمكن للأحياء الأخرى أن تعيش نفس الحالات الجسدية من دون وجود حالات عقلية تشبه تلك الموجودة لدى البشر. فالأحياء تشعر بالألم مثلاً، ولكن أدمغتها ليست كأدمغة البشر، ولا تعيش الحالات العقلية نفسها التي تسبب لدى البشر تحفيز شعور الألم. أي أن هذا الشعور الممثل لحالة عقلية معينة، يتفسر جسدياً بأكثر من طريقة لدى أكثر من كائن. وهذا يتحدى فكرة ارتباط حالة عقلية بحالة جسدية مقابلة لها كما تطرحها نظرية هوية العقل [3] [6].

الوظائفية

وأخيراً، ترى الوظائفية أن الظواهر العقلية لا تُعرَّف بمادتها ومكوناتها. بل هي عبارة عن الوظائف التي تؤديها والدور الذي تلعبه في المنظومة التي تشكل جزءاً منها. وفق هذا، يفسَّر الألم على أنه الحالة التي تخلق شعوراً بوجود شيء ليس على ما يرام في الجسد. وهذا يؤدي إلى رغبة بالخروج من هذه الحالة. حيث أنه يمكن لكل المخلوقات أن تشعر بالألم وتعيش تلك الحالة العقلية إذا أدت لديها نفس الوظيفة. أي إذا خلقت لديها الرغبة بالخروج من هذه الحالة [7].

مقارنة العقل بجهاز الحاسوب

مهدت الوظائفية الطريق لمقارنة العقل بجهاز الحاسوب من ناحية عمله. فالحاسوب هو جهاز لمعالجة المعلومات. يعمل عن طريق تلقي نوع معين من المعلومات (كدفعة كهربائية ناتجة عن ضغط زر معين)، ثم يحولها إلى معلومة من نوع آخر (ظهور حرف معين على الشاشة). ومثله العقل الذي يأخذ المعلومات من الحواس والحالات العقلية التي نعيشها، ثم يعالجها، ويخرج بسلوكيات أو حالات عقلية أخرى.

ولكن تواجه هذه المقارنة بعض التحديات. إذ تعمل الحواسيب على معالجة رموز محددة تتلقاها. وللرمز جانبان مترابطان، هما الجانب البنيوي (syntactic) والجانب المعنوي (semantic). مثلاً، يمكن ربط رمز معين – ولنقل المربع – ببدء نشاط معين – وليكن الرسم. يتمثل الجانب البنيوي بشكل الرمز (أربعة أضلاع وأربع زوايا قائمة). في حين يمثل بدء الرسم الجانب المعنوي المرتبط بالرمز. عند برمجة جهاز حاسوب على هذا، سيبدأ بالرسم فور إدخال رمز المربع. وبنفس الطريقة، عند تعريف العلاقة بين المربع والرسم للعقل، سيقوم بربطهما وبإعطاء الأوامر لبدء الرسم فور رؤية المربع. ولكن الفرق هنا، والذي يمثل تحدياً أو تساؤلاً لتشبيه الحاسوب بالعقل، هو أن الحاسوب يعمل فقط على الجانب البنيوي للمعلومة أو الرمز الذي يعطى له. فهو مبرمج على إعطاء مخرج معين عند إعطائه مدخلاً ما، ولكنه لا يفهم الجانب المعنوي للرمز. ولا يعمل وفقاً لمعناه. بل يركز فقط على شكله [3].

إذاً، تمثل طبيعة العقل موضوعاً شائكاً في الفلسفة أدى إلى ظهور فلسفة العقل المختصة بهذا السياق. ولا يمكن القول بأنه يوجد اتفاق على طبيعة العقل وعلاقته بالجسد. بل توجد عدة اتجاهات ترى هذا الموضوع من منظار معين لكل منها. وبنفس الوقت، تواجه كل منها تحديات وتساؤلات تؤدي إلى الخروج باتجاهات أخرى.

اقرأ أيضاً: كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

المصادر:

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر فلسفة

User Avatar

Watfa Alassafeen

مترجمة من سوريا. أحب القراءة والكتابة.


عدد مقالات الكاتب : 44
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق