Ad

طاعون النيوليبرالية الذي ترك الولايات المتحدة غير مهيأة للكورونا، حوار مع نعوم تشومسكي


نظرًا إلى وصول عدد الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا في الولايات المتحدة إلى 150,000 حالة وفاة، تقرأون الآن هذا اللقاء المترجم مع الفيلسوف والناشط السياسي، وعالم اللسانيات واسع الشهرة، ومؤلف ما يفوق المائة كتاب: البروفيسور نعوم تشومسكي. الذي يوضح فيه كيف من وجهة نظره أدت عقود من السياسات النيوليبرالية إلی تمزيق شبكة الأمان الاجتماعي والمؤسسات العامة، وترك الولايات المتحدة غير مستعدة لأزمة صحية كبرى كالأزمة الحالية، ويدعونا إلى ضرورة فهم جذور هذا الوباء. وهذا في حواره التالي مع الصحافيتين ايمي جودمان ونيرمين الشيخ من موقع الديموقراطية الآن.

تشومسكي:

في البداية علينا أن نعلم أن ثمة أوبئة أخرى قادمة وربما تكون أسوأ.
لقد كنا حتى الآن محظوظين. ذلك أن الأوبئة بشكل عام أمر خطير للغاية، وثمة العديد من الاحتمالات فيما يتعلق بأمرها. مثلًا، كل تلك الأوبئة التي حدثت في السنوات العشر أو الـ خمسة عشر الماضية، كان الفيروس الذي نتحدث عنه إما قاتلًا بكثرة ولكنه ليس معديًا جدًا، مثل الإيبولا، أو معدٍ جدًا لكنه ليس قاتلاً بكثرة، مثل COVID-19.
ما الذي قد يحدث في حال عانينا وباءًا قادمًا معديًا جدًا وقاتلا بكثرة على حد سواء؟ سنكون في ورطة كبيرة، وسنعاني ما هو أسوأ بكثير من وضعنا الحالي وأسوأ مما يسمى بـ “الإنفلونزا الإسبانية”، والتي كان يجب أن تسمى ‘إنفلونزا كانساس” حسب منطق ترامب (يسمي الرئيس الأمريكي فيروس كورونا بالفيروس الصيني). ذلك أنها نشأت في كانساس منذ قرن مضى. ربما نواجه ما هو أسوأ من ذلك بكثير.

طاعون النيوليبرالية الولايات للكورونا نعوم تشومسكي
البروفيسور نعوم تشومسكي

ثمة طرق وجدت للتعامل مع هذه الجائحة، كان العلماء على دراية بأن وباءًا آخر محتملًا قد يكون آتيًا، وذلك بعد وباء السارس فى عام 2003، لقد حذر العلماء من ذلك وعرضت السياسات التي كان بالإمكان تنفيذها. لكن ذلك لم يحدث، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الاختلالات المؤسسية العميقة. إذ لا يمكن لشركات الأدوية، والتي تعد الكيان المفترض الاعتماد عليه في هذا الشأن، من خلال المنطق الرأسمالي. أن تنفق المال في محاولة لمنع وقوع كارثة بعد عشر سنوات من الآن. لكن تركيزها ينصب على محاولة كسب المال العاجل وفي الغد. هذه طريقة سير النظام. لذا تم استبعاد شركات الأدوية من المنطق الرأسمالي.
أما فيما يخص الحكومة، من الممكن لها إجراء معظم البحوث الأساسية عن اللقاحات والأدوية، أو كلها تقريبًا. لذا كان بإمكانهم الشروع في الأمر، وإنشاء مختبرات، مستغلين الموارد غير المحدودة. لكن الحكومة تشكل – حسب تعبير الرئيس ريجان في الثمانينات وهو يوضح سياسته في عدم التدخل- المشكلة وليس الحل. إن الطاعون النيوليبرالي يحول دون إتمام أي من ذلك، بمعنى أننا يجب أن نتسلم مسؤولية اتخاذ القرارات من أيدي الحكومة، وهي المسؤولة عن التقصير؛ فيتحول الأمر إلى يد طغيان القطاع الخاص، غير الخاضع للمساءلة، هذا هو معنى شعار ريغان. وهذا هو المبدأ الأساسي للنيوليبرالية. الذي يعاني منها العالم منذ 40 عاما، باستثناء أقلية ضئيلة تمكنت من أن تصبح غنية وقوية للغاية.

ورغم ذلك، بقيت ثمة اجراءات ممكنة للحكومة الأمريكية. على سبيل المثال، عندما تولت إدارة أوباما مقاليد الحكم، وفي الأيام القليلة الأولى، اتصل أوباما بالمجلس الاستشاري العلمي الرئاسي، الذي أنشأه جورج بوش الأب، وقد كان يحمل احترامًا للعلم. وطلب أن يضعوا معًا برنامجًا للتعامل مع الأوبئة، وبالفعل جاؤوه بتقرير بعد أسبوعين، وتم تنفيذه. وظل الأمر على ذلك حتى كانون الثاني/يناير 2017.

وبعد أن تسلم ترامب منصبه، في الأيام القليلة الأولى، فكك النظام بأكمله. ويعتبر هذا جزء من سياسة كرة التحطيم العام التي نهجها ترامب، بمعنی: “علينا أن ندمر كل ما فعله أوباما”. لأنها الطريقة الوحيدة ليبدو وكأنه يفعل شيئًا.

وكانت ثمة برامج لعلماء أميركيين يعملون في الصين مع زملاء صينيين في محاولة للكشف عن الفيروسات التاجية (عائلة كورونا) وتحديدها. إنه عمل خطير جدًا وبعضهم فقد حياته. لكنهم كانوا ينجحون في الكشف عن الفيروسات، والتعرف إليها واختبارها. وذلك في معهد مدينة ووهان لعلم الفيروسات، التي هي مركز نشوء هذا الوباء، وألغى حينها ترامب البرنامج.

وقد نفذت في وقت متأخر من أكتوبر 2019 عمليات محاكاة لوباء تحذر مما سيحدث. ولم تعر إدارة ترامب الأمر أي اهتمام. ولهذا السبب، بمجرد أن أصاب الوباء أخيرًا، كانت الولايات المتحدة غير مستعدة على الإطلاق. ناهيك عن ذكر سلسلة التقاعس البشع والإجراءات التي تبعت ذلك، كرفض ترامب الاعتراف بالأمر برمته لبضعة أشهر!
وبينما كان هذا يحدث في الولايات المتحدة، كانت لبلدان أخرى ردات فعل. مثل آسيا وأوقيانوسيا وأستراليا ونيوزيلندا. كوريا الجنوبية، التي كانت واحدة من أول الأماكن التي أصابها الوباء، تعاملوا مع الأمر بعقلانية. حددوا أماكن الخطر، وسيطروا عليها، وأجروا الفحوص، وتعقبوا المخالطين.
أبلغت فيتنام – التي يبلغ طول حدودها مع الصين 1400 ميلا- عن صفر وفيات. وأدت كل من كوريا الجنوبية وتايوان ونيوزيلندا واستراليا بشكل جيد. حتى أوروبا، لقد تأخروا بما لا يستهان به، لكنهم تصرفوا أخيرًا. وقد انخفض المنحنى بشكل حاد منذ شهر مارس لمعظم أوروبا. والبعض الآخر، مثل النرويج وألمانيا، يبلي بلاء حسنًا في هذا الصدد. حتى أن حركة السفر عبر جنوب إيطاليا تكاد تكون طبيعية.

ويذكر أن الأمر تطور إلی درجة أن أوروبا، قد حظرت الزوار الأمريكيين من دخول حدودها. لقد نبذت الولايات المتحدة، لدرجة أنه لا يُسمح للأميركيين بالذهاب إلى بلدان أخرى. الأمر شبيه إلى حد كبير بما حدث في البرازيل. إذ أن الرئيس البرازيلي (بولسونارو) كان ينكر الأمر برمته “إنها مجرد إنفلونزا خفيفة. لا تقلقوا بشأن ذلك، البرازيليون أقوياء. نحن لا نهتم”. وتحتشد في الشوارع اجتماعات كبيرة من أنصار بولسونارو اليمينية للرقص والاحتفال ونشر الفيروس، ولا يجد بولسونارو في ذلك غضاضة.

جريمة حالية أخرى تزلزل العالم هي تدمير غابات الأمازون. وأثر هذا يمتد إلى العالم بأسره، وليس على البرازيل فحسب، وتشير التوقعات العلمية إلى أن الأمازون حسب مسارنا الحالي سيتحول في غضون 15 عامًا تقريبًا من بالوعة بحتة لثاني أكسيد الكربون، إلى مصدر صافٍ لانبعاثه، وهي التي يطلق عليها أحيانًا رئتا الأرض. لامتصاصها كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.
إن الأمازون، حسب المسار الذي نحن فيه سائرون، ستتحول إلى ما يشابه حشائش السافانا، لا غابة كما هي الآن. وهذا مدمر للبرازيل وللعالم بأكمله. ذلك أنها واحدة من مصادر الأكسجين الرئيسة في العالم.

وعلى جميع الأصعدة، نحن نهوي بجنون نحو كارثة شاملة تحت قيادة متعصبين معتلين اجتماعيًا. كما لو أن الشياطين قررت أن تتولى أمر الجنس البشري ودفعهم إلى التدمير الذاتي. تحاول الكثير من دول العالم، بل معظمها منع حدوث ذلك، ولكن الولايات المتحدة والبرازيل تتسابقان بتفانٍ نحو الهاوية.

وهذا يأخذنا إلى الانتخابات القادمة، لعل ما سبق ذكره هو السبب في أنها أخطر وأهم انتخابات في التاريخ. لماذا نعد ترامب، وقد يبدو هذا أمراً مبالغا فيه -لكنه صحيح- أخطر شخصية في تاريخ البشرية؟
الحزب الجمهوري اليوم هو أخطر منظمة في تاريخ البشرية. يمكنك مقارنة ترامب، على سبيل المثال، بهتلر.
خذ مثلًا إعلان وانسي في عام 1942، حيث دعا إلى قتل جميع اليهود، وعشرات الملايين من السلاف، أما ما نواجهه الآن هو تدمير المجتمع الأنساني بأكمله. لم يسبق لنا مواجهة شيء من هذا القبيل قطّ.

فيما يخص الحزب الجمهوري، نحن نعرف كيف آل به الأمر إلى هذا. بالعودة إلى عقد من الزمان أو نحو ذلك، كان جون ماكين، عام 2008، مرشحاً للرئاسة. كان برنامجه ضعيفًا للغاية، لكنه احتوى بعض السياسات بصدد الاحتباس الحراري العالمي. وبدأ الكونجرس الجمهوري يأخذ في الحسبان ظاهرة الاحتباس الحراري، عبر سياسات للحد من تفاقمها. لكن الإخوة (كوخ)، وهم أصحاب شركة الطاقة، كان لهما رأي آخر، إذ عملوا لسنوات لمنع هذا، أطلق ديفيد كوخ، أحد الإخوة الذي توفى مؤخراً، حملة ضخمة للتأكد من أن الحزب الجمهوري سينكر الأمر. قد رشى الأخوان أعضاء مجلس الشيوخ، وأرهبوا الآخرين بالتهديد بشن حملات مضادة ضدهم، وشنوا حملة ضغط ضخمة، وبالفعل تخلى الحزب عن كل جهوده للتعامل مع تغير المناخ. إنها الآن حفلة يسودها النكران الكامل.

-الصحافية إيمي غودمان: بينما تتحدث عن هذا الأسلوب الإنكاري وتجاهل العلم، فيما يخص أولًا أزمة المناخ وصولا إلى الوباء، إذ يهدد كلاهما الحياة على الأرض، يعقد الرئيس ترامب الآن مؤتمرًا صحفيًا يوميًا لفيروس كورونا دون حضور العلماء، لديك مثلا كل من أنتوني فاوتشي، كبير علماء الأمراض المعدية، بالإضافة إلى د.(بيركس)، لن يكونا جزءًا من هذا المؤتمر الصحفي. هل تعتقد أن على الصحفيين الحاضرين للاجتماع الامتناع عن الحضور ما لم يتواجد هناك العلماء، وما لم يرتد الرئيس ترامب الكمامة؟

-تشومسكي:
نعم، أعتقد ذلك، كما أعتقد أنه ينبغي عليهم أن يفعلوا أكثر من ذلك بكثير، وأن يشيروا باستمرار إلى ما قلته قبل قليل: وذلك أننا نتعامل مع أخطر شخصية في تاريخ البشرية، مدعومة بأخطر منظمة في تاريخ البشرية، وأن نفصح عن الحقائق. ليس فقط فيما يخص هذا الوباء، بل والتهديد الأكثر خطورة بكثير لكارثة بيئية، والتهديد المتزايد والجدي للحرب النووية.

في رأيي، يجدر بكل صحيفة أن تضع على صفحتها الأولى صورة من الساعة المؤقتة لانتهاء العالم. لعلك تعلم عن هذا الموضوع، في يناير من كل عام، تجمع مؤسسة (bulletin it the atomic scientists) -وهي المجلة العلمية الرئيسية التي تتناول قضايا أمن العالم- العلماء والمحللين السياسيين في محاولة لإعطاء تقدير لحالة الأمن العالمي. وهذا بدأ بعد وقت قصير من القنبلة الذرية، وينفذ هذا سنويٗا على التوالي منذ 75 عاما. إذ ينُقل مؤشر الساعة -بشكل متذبذب – إلی نقطة أقرب أو أبعد قرب منتصف الليل، اعتمادًا على مدى خطورة الوضع العالمي. وساعة منتصف الليل تعني أن أمرنا قد انتهى.

في كل عام مر على ترامب في منصبه، اقترب مؤشر الدقيقة من منتصف الليل!
قبل عامين، وصل إلى أقرب مما كان عليه في أي وقت مضى. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، تخلى المحللون عن الدقائق؛ إذ انتقلوا إلى الثواني. مائة ثانية حتى منتصف الليل ومنذ كانون الثاني/يناير، جعل ترامب كل واحدة من القضايا التي أثاروها هؤلاء الخبراء أسوأ. وهذه القضايا ثلاث رئيسية: الأولى بالطبع هي خطر الحرب النووية، والثانية خطر حدوث كارثة بيئية، والثالثة هي تدهور الديمقراطية. والتي تدرج إلى جانب الأخرتين لمجرد فكرة أن وجود ديمقراطية حية يمكن الجمهور المطلع، من المشاركة بهدف أن يكون لدينا أي أمل في الهروب من الأزمتين الوجوديتين الأخرتين.

ومنذ كانون الثاني/يناير، نجح ترامب في جعل الأزمات الثلاث أسوأ. مسألة الأسلحة النووية على سبيل المثال، أصبحت أسوأ بكثير بفضل تصرفات ترامب. وبطبيعة الحال، فإن الأزمة البيئية تزداد سوءًا، ذلك أن ترامب يتجه الآن نحو زيادة الاعتماد على استخدام الوقود الأحفوري الأخطر، ويضيق على محاولات التقليل من ذلك عبر ممثليه عند وكالة حماية البيئة وآخرين، كما يضيق على الجهود الساعية إلى التخفيف من حدة الأزمة من خلال الوسائل التنظيمية.
أما الديمقراطية، شأنها واضح جدًا. قد أفرغت السلطة التنفيذية أساسًا من الأصوات المستقلة. ولم يبق سوى المتملقين مع شعارات مثل “نحن أرسلنا الله لإنقاذ اسرائيل”.

أما المفتشين الذين فرضهم الكونغرس، لرصد المخالفات من الهيئات التنفيذية، فقد تم انتقائهم كذلك. والواقع أن ترامب بذل كل ما في وسعه لإذلال السناتور الجمهوري البارز تشارلز غراسلي، الذي أمضى معظم حياته المهنية في فرض هؤلاء المراقبين. أما محامي المنطقة الجنوبية من نيويورك الذي حاول النظر داخل مستنقع ترامب قد انتهى به الأمر إلى الطرد.
كان الكونغرس، المدار حاليا بواسطة ماكونيل، يُدعى أعظم هيئة للشورى في العالم. والآن هو بمثابة نكتة. لا يقوم بأيّ شورى ولا يفعل شيئًا أساسًا سوى محاولة تدبير أكبر عدد ممكن من تعيينات القضاة الشباب اليمينيين المتطرفين حتى يتمكنوا من حزم السلطة القضائية لجيل كامل. بالإضافة إلى إيجاد طرق لضخ الأموال في جيوب الأغنياء، كما حدث عند الفضيحة الضريبية. هذا هو مجلس الشيوخ، أعظم هيئة شورى. أما مقترحات مجلس النواب بشأن التشريع فيقابلها ماكونيل بالطرد، ولا يلقي بالًا، وكأن هذا ليس دور مجلس الشيوخ.

بالعودة إلى موضوعنا، لهذا السبب أرى أنه يجب وضع ساعة انتهاء العالم على واجهة كل صحيفة. علينا أن نعي ما الذي تفعله الولايات المتحدة بنفسها والعالم. يجب أن يكون هذا محط انتباه الجميع، وثمة العديد من الأشياء الأخرى الواجب القيام بها. مثل احتجاجات كبيرة، في كل مكان، اعتراضا على استخدام القوة العسكرية لاحتلال المدن الأمريكية وسحق المنشقين السلميين. وهذا أمر لا يمكن تحمله في أي ديمقراطية فعالة. لا يمكننا الجلوس ومشاهدة ذلك يحدث، ترك ذلك يعني المضي خطوة خطوة نحو كارثة حقيقية.

المصدر موقع الديموقراطية

اقرأ أيضًا: مترجم، عالم ما بعد فيروس كورونا للكاتب يوفال نوح حراري

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


صحة بيئة فلسفة سياسة

User Avatar

Mohammed Abughazala

طالب طب.. يسعى إلى تحصيل المعرفة وإعمال العقل بها، ثم نشرها ما استطاع.


عدد مقالات الكاتب : 13
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق