Ad

عالم الفيروسات البسيط بتركيبه المُعقّد بألغازه

لا يهمني معرفة كم تبلغ من العمر، ولكني أملك الثقة كي أؤكد لك أنك على الأقل قد عاصرت انتشار أحد أنواع الفيروسات، ولا بُد أنك قد تكبدت عناء سماع أرقام الضحايا المتزايدة والمخاوف والتحذيرات والتهويلات اللامتناهية.

ولا بُد أنك قد رسمت على وجهك ابتسامة سخرية أو تعجّب لحظة سماعك المعلومات الغريبة التي أخبرك إيّاها أحد أصدقائك عن الفيروسات والمؤامرات السرية التي تُحاك باستخدام هذا السلاح البيولوجي!

دع عنك عزيزي القارئ عبء تلك المعلومات الثقيلة والمزيفة غالبًا، وانطلق معنا في جولة إلى عالم الفيروسات البسيط بتركيبه المُعقّد بألغازه.

ما هو الفيروس؟

بلا أي تعقيدات وبكل بساطة، الفيروس هو مادة وراثية محفوظة في مغلف أو محفظة من البروتين.

وبسبب التركيب البسيط للفيروس فأنه غير قادر على التكاثر من تلقاء نفسه بل يعتمد في ذلك على خلية مستضيفة توفر له العضيات والبيئة الملائمة للتضاعف والتكاثر.

تصنيف الفيروسات

على الرغم من بساطة الفيروسات إلا أنها تضم مجموعات متنوعة وأعداد كبيرة. ولتسهيل دراستها تم وضعها في عدة تصنيفات باستخدام عدة معايير، تختلف من حيث:

الشكل

تتشكل كبسولة البروتين حول المادة الوراثية بعدة أشكال، منها : المحفظة Capsomere ، الكروي Spherical ، اللولبي Helical ، وشكل العشرين وجه Icosahedral .

المادة الوراثية

تحتوي بعض الفيروسات على سلسلة واحدة من جزيء RNA وبعضها يحتوي على سلسلتين، كما يمكن أن تحتوي على سلسلة واحدة أو سلسلتين من جزيء DNA.

نوع الخلية المستضيفة

الفيروسات قادرة على العيش داخل جميع أنواع الخلايا سواء كانت وحيدة أو متعددة، وبشكل عام تقسم إلى فيروسات متطفلة على البكتيريا وفيروسات متطفلة على الكائنات متعددة الخلايا.

آلية عمل الفيروسات داخل الخلايا المستضيفة

تبدأ الحرب بين الفيروس والخلية المستضيفة بالتصاق الفيروس على الغشاء الخارجي للخلية ومن ثم محاولة إدخال المادة الوراثية الخاصة بالفيروس إلى داخل الخلية. تظهر الفيروسات هنا اختلافًا في طريقة إدخالها لمادتها الوراثية، فمنها من تتحد مع الغلاف الخارجي للخلية وتندمج معه وبعدها تفرغ محتواها الجيني، ومنها من تحاول إقناع الخلية بأنها كائن مسالم لا ينوي أي شر كإقناعها أنه قابل للاستهلاك وبذلك تلتف الخلية المسكينة حول الفيروس في عملية تدعى البلعمة Endocytosis، أما إذا واجه الفيروس غلافاً قاسيًا فأنه يحقن مادته الوراثية تمامًا كالإبرة إلى داخل الخلية المستهدفة دون الحاجة إلى دخولها.

في حال كانت المادة الوراثية تتكون من جزيء RNA فإنها تتجه نحو الريبوسوم لتبدأ هناك عملية التشفير وتصنيع بروتين الفيروس والذي يبدأ بدوره بمهاجمة جزيئي DNA و RNA الخلية المنافس والتخلص منهما وذلك لإتاحة فرصة أكبر لتضاعف المادة الوراثية للفيروس وإنتاج نسخ أكثر منه، بعد استنزاف مصادر الخلية، تغادر نسخ الفيروس الخلية متجهةً لخلايا أخرى.

مغادرة الخلية لن تكون سلمية بالطبع، فبعض الفيروسات تحلل غشاء الخلية وبذلك تتحلل الخلية بأكملها، بعضها الآخر تستغل هذا الغشاء وتضغط نفسها باتجاهه متنكرةً به وتستخدمه كوسيلة لمهاجمة باقي الخلايا والتي تتعرف على هذا الغشاء باعتباره خلية صديقة وليس فيروس قاتل.

تاريخ الفيروسات وتطورها

قبل أن نتسائل عن تاريخ الفيروسات لا بُد أن نتسائل عن آلية تحديد هذا التاريخ لكائنات ليس لها أي سجل أحفوري في الصخور -بسبب هشاشتها وعدم قابليتها للحفظ-.

ربما تكون الإجابة صادمة لك، لكن المادة الوراثية الخاصة بك وبكثير من الكائنات الحية يعتبر سجل أحفوري غني للفيروسات، كيف ذلك؟

إليك القصة، هناك نوع من الفيروسات معروف باسم الـ Retrovirus، يحتوي هذا النوع على جزيئات RNA كمادة وراثية، ويحتوي كذلك على بروتين مسؤول عن النسخ المعاكس أي تحويل جزيء RNA الى جزيء DNA، وبالتالي يحول المادة الوراثية الخاصة به إلى DNA، والتي بدورها تندمج مع DNA الخلية، وتتم بعدها باقي العمليات وتصنيع البروتين.

اندماج جزيء الـ DNA الذي يحدث في الخلايا الجنسية كالحيوانات المنوية والبويضات يورَّث للأجيال اللاحقة، وبالتالي يتم حفظ المعلومات الوراثية للفيروس في الكائن الحي وتنتقل من جيل إلى جيل، وبمقارنة تسلسل المادة الوراثية بين الأنواع المختلفة للكائنات الحية يمكننا تحديد عمر الفيروس أو على أقل تقدير معرفة الوقت الذي هاجم فيه هذا الفيروس خلايا الكائن الحي.

هذا بالنسبة لآلية تحديد تاريخ الفيروسات، أما بالنسبة لتاريخ الفيروسات وسبب ظهورها فهناك عدة نماذج مقترحة، نذكر منها:

النموذج الأول Virus first model

يقول بأن بساطة الفيروسات ترجّح أنها تطورت في وقت كانت فيه الحياة بسيطة وأولية أي أنها أقدم من أقدم كائن حي.

فرضية الهروب Escape Theory

تقترح أن الفيروسات تطورت من جينوم الخلايا، حيث أن بعض قطع الجينوم قادرة على قص ونسخ بعضها ونقل نفسها من جزء لآخر خلال سلسلة الحمض النووي، يعتقد العلماء أن أحد هذه القطع كان لها القدرة على تغليف نفسها ببروتين والهرب خارج الخلية.

النموذج الثالث

يقترح أن الفيروسات هي بقايا فيروسات أكبر حجمًا وأكثر تعقيدًا وقربًا للحياة الخلوية، وبعدها طورت علاقة تكافلية مع الكائنات الأخرى. مع ازدياد اعتماد الفيروس على الخلية المستضيفة، تخلى عن تعقيده، وبهذا تحولت العلاقة إلى تطفلية.

كيف تنتقل الفيروسات بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية؟

تتضمن عملية قفز الفيروس بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية ثلاث مراحل أساسية، وهي الاتصال مع الخلية الجديدة ومن ثم مهاجمتها والتضاعف داخلها ومن بعدها الإنتقال لفرد آخر من النوع ذاته.

التحدي الاول يكمن في الارتباط على سطح الخلية بمستقبلات خاصة أو آليات معينة، ومن ثَم دخوله إلى الخلية حيث سيجد الفيروس نفسه في حاجة لتوظيف آليات تكيّف جديدة إضافية لاستغلال الآلة التكاثرية الخاصة بالخلية لصالحه. كما أنه بحاجة إلى تثبيط عمل جهاز المناعة ونشر نسخ منه للخلايا المجاورة. بعد إتمام هذه التحديات بنجاح يصبح الفيروس قادرًا على الإنتقال إلى ضحية أخرى.

لحسن الحظ؛ الاختلافات الجينية بين الخلايا المضيفة تجعل من مهمة القفز بينها أمرًا صعبًا إلى حدٍ ما، لكن سرعة عمليات التكاثر الجنونية وما يرافقها من طفرات جينية ذات تأثير تكيفي – على الرغم من نسبتها القليلة – قادرة على جعل الفيروس ضيفًا جديدًا لدى خلية مستضيفة جديدة.

الأدوية والعقاقير المتوافرة

استطاع العلماء تطوير العديد من العلاجات والتي تعمل على تثبيط مراحل مختلفة في رحلة الفيروس نحو مهاجمة الخلية، حيث يعمل دواء Amantadine و Maraviroc المستخدمين في علاج فيروس الهربس Herpes على إعاقة عملية إختراق الفيروس للخلية. أما Acyclovir و Foscarent فيعملان على تثبيط عملية تصنيع تسلسل الحمض النووي والمادة الوراثية.

Zidovudine يعمل على تثبيط عملية النسخ العكسية، أي تحويل جزيء RNA إلى جزيء DNA وبالتالي يستخدم في علاج فيروس HIV المسبب لمرض نقص المناعة المكتسبة أو الأيدز AIDS، وIndinavir يعمل على تثبيط عملية تصنيع البروتين.

الجدير بالذكر أن هذه العلاجات تُعطى في الحالات الحرجة والخطرة جدًا، ويتم فيها مراعاة توافر عوامل الخطورة، ككبار السن والأطفال والحوامل وتواجد الأمراض المزمنة.

ما هو سبب خوفنا الدائم من الفيروسات ؟

مع توافر العديد من الأدوية ربما يتبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ عن سبب خوفنا المستمر من الفيروسات، الإجابة هي أن مفتاح نجاح الفيروسات يكمن في بساطتها.

التركيب البسيط للفيروسات يحد من التراكيب القابلة لتصنيع أدوية وعقاقير لتثبيطها، كما أن سرعة تكاثرها الجنونية وما يرافقها من طفرات تجعل منها مقاومة بصورة سريعة للأدوية المتوافرة.

هل الفيروسات كائنات حية؟

من الطريف حقاً مع كل هذه الجلبة والتساؤلات التي تثيرها الفيروسات تواجد جدل كبير حول تصنيف الفيروس ككائن حي، ففي تعريفنا للفيروس قلنا أنه مادة وراثية وغلاف بروتيني فقط، كما أن الكثير من العلماء يضعون الفيروسات في منطقة رمادية من الأشياء شبه الحية. فالكائنات الحية تتميز بقدرتها على التكاثر والتطور، والمحافظة على بيئة مستقرة داخل خلاياها وصنع طاقتها بنفسها. أما الفيروسات فهي تتكاثر وتتطور لكنها لا تحقق الشرطان الأخيران فكانا السبب لزجّها في تلك المنطقة الرمادية.

سواء اعتبرها الخبراء كائنات حية أو شبه حية فالفيروسات موجودة وتشكل ما يقارب ٨ % من حمضك النووي الخاص والباحثون في كل مكان وبشكل متواصل في بحث دائم مستمر عن الطفرات التي من الممكن أن تتبعها الفيروسات للقفز بين الأنواع المختلفة من الكائنات وأساليب المقاومة التي تطورها ضد الأدوية والعقاقير، ويكمن التحدي الحقيقي في توقع الفيروس الذي سيشكل الكارثة العالمية القادمة.

المصادر:
Novalabs
PBS Eons
NatGeo
Khan Academy
Ted Ed

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أحياء تطور حياة طب صحة

User Avatar

Fatima Sulaiman

صيدلانية تحب الكتب والموسيقي والشاي


عدد مقالات الكاتب : 23
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق