الفصام يجمع آلهة ميشيغان الثلاث

هذه المقالة هي الجزء 20 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

بينما يود كل إنسان أن يصير آلهًا رغم استحالة ذلك، يواجه البعض صعوبة في الاعتراف بتلك الاستحالة

القوة-برتراند راسل

شهد مستشفي« يبسلانتي-Ypsilanti» الواقع في ولاية ميشيغان الأمريكية عام 1959م حدثًا مميزًا، حيث قام عالم نفس طموح بدراسة جديدة جمع فيها ثلاثة رجال يعانون من الفصام العقلي من النوع «فصام الشخصية الارتيابي/البارانويدي-Paranoid Schizophrenia» 
لماذا دخل هؤلاء الرجال إلى المستشفى؟ لأن كل واحد منهم ادعى أنه المسيح!

تجربة روكيش

ميلتون روكيش، عالم النفس الذي قام بهذه التجربة، وضع الرجال الثلاث في غرفة واحدة. وعقد اجتماعات دورية بينهم بحضوره ومساعديه وسجل ملاحظاته. طمح روكيش أن يُشفى الرجال الثلاث من أوهامهم عندما تحدث المواجهة بينهم، لكن للأسف لم يحدث ذلك. عاش الرجال الثلاث في غرفة واحدة لمدة عامين كاملين ولم يتخل أي منهم عن وهمه أنه الآله. رغم ذلك شهد روكيش بعض التطورات في حالتهم حيث ازداد التواصل فيما بينهم واعترف كل منهم بمرض رفيقيه (مع تمسكه بوهمه أنه الآله الوحيد)
نشر روكيش نتائج دراسته في كتابه «مسحاء يبسلانتي الثلاث-Three Christs’ of Ypsilanti» وهو عبارة عن دراسة سردية للمدة التي خضع فيها الرجال الثلاث للملاحظة. ومن الجدير بالذكر أن كتاب روكيش تم تحويله إلى فيلم عام 2017م يجسد معاناة الرجال الثلاث مع الفصام.

تعريف الفصام العقلي

والآن بعد أن تعرفنا على قصة الرجال الثلاث، دعونا نتعمق في تفاصيل مرضهم، الفصام وأعراضه والعلاج المقترح له.
يمكن تقسيم مصطلح «الفصام-Schizophrenia» إلى جزئين: الأول schizo ومعناها يقسم/يشطر و phren المقابل اليوناني لكلمة العقل. بجمع الجزئين معًا نحصل على انشطار العقل.
وهنا قد نتسرع في حكمنا على طبيعة المرض بافتراض أن مريض الفصام يمتلك شخصيات متعددة، وهذا ليس صحيحًا. الفصام هو مرض نفسي خطير ومزمن يؤثر على عمليات التفكير والإدراك والمشاعر والسلوك مما يؤدي في النهاية إلى زيادة الضغط على المريض فينفصل عن الواقع. وعملية الانفصال عن الواقع هي بالتحديد ما يميز مريض الفصام، فهو لا يطور شخصيات متعددة داخل شخصيته كما يشيع، وإنما قد يستبدل هويته بهوية جديدة على سبيل المثال (كوسيلة للهروب من الواقع)

أعراض الفصام

عادة تظهر أعراض الفصام في الفترة بين: نهاية سنوات المراهقة حتى بدايات الثلاثينات. وبينما يتساوى الذكور والإناث في معدل الإصابة بالفصام، نجد الأعراض تظهر عند الذكور أبكر من الإناث بفارق 3-5 سنوات تقريبًا.
وتنقسم هذه الأعراض إلى نوعين:

الأعراض الإيجابية

وُصفت هذه الأعراض بالإيجابية لأنها تمثل نشاطًا عقليًا ما، على عكس الأعراض السلبية التي سنفسرها فيما بعد والتي تخلو من أي نشاط.

  • الأوهام
    الوهم هو فكرة ليست حقيقية، معتقد زائف يتمسك به مريض الفصام ويرفض تغييره مهما عُرضت عليه معلومات تدحضه.

“يحتاج المريض المنفصل عن نفسه إلى شي يرتكز عليه كالشعور بالهوية، يبعث هذا الشعور المعنى في نفسه والقوة -رغم كل الضعف الذي يخترقه- في كيانه. وهنا يبدأ الخيال، ببطء وتدريجيًا، في العمل فينسج له صورة مثالية عنه، بينما يسبغ المريض على نفسه قوى وقدرات الآلهة”

المرض النفسي ونمو الإنسان-كارين هورني

عانى مرضى الدراسة السالف ذكرها بشكل أساسي من الأوهام. كذلك يعاني كل مرضى الفصام، فتواجد هذا الخلل لفترة معينة من الزمن شرط أساسي لتشخيص أحدهم بهذا المرض. والأوهام لها عدة أنواع منها:

  1. السيطرة: يعتقد المريض أنه واقع تحت سيطرة وتلاعب قوة خارجية.
  2. العظمة: يعتقد المريض أنه يمتلك قوى وقدرات خارقة.
  3. الغيرة: يعتقد المريض بخيانة شريكه/شريكته له.
  4. الاضطهاد: يعتقد المريض بوجود مؤامرة تُحاك ضده.
  5. الإحالة: يعتقد المريض أن ما يحدث حوله إشارات موجهة له، مثل صوت الراديو أو التلفاز.
  • الهلاوس
    الهلاوس هي معلومات حسية خاطئة، يمكن أن تأتي عن طريق أي من الحواس الخمس ومنها:
  1. سمعية: كأن يسمع المريض أصواتًا ليست موجودة.
  2. بصرية: كأن يرى المريض أشخاصًا أو ألوانًا أو أشكالًا ليست موجودة.
  3. شمية: يشم الريض روائح ليس لها مصدر مادي موجود بالفعل.
  4. حسية: يختبر المريض أحاسيس أو لمسات ليست حقيقية.
  5. تذوقية: يختبر المريض مذاقًا ما دون أن يأكل أي شيء بالفعل.
  • اضطراب الفكر والحديث
    يواجه مرضى الفصام العقلي صعوبة في ترتيب أفكارهم والتعبير عنها، فيتوقفون في منتصف الجملة ثم يتحدثون في موضوع جديد. أو يتحدثون في دوائر فلا يستطيعون التعبير عن وجهة نظر واضحة وإنما عدد من التفاصيل غير المهمة. كذلك يتبعون نمط تفكير غير منطقي فلا يستطيعون الإجابة بشكل مباشر عن الأسئلة.
    تتأثر قدرة الحديث عندهم أيضًا، فيختاروا الكلمات التي تتناغم مع بعضها دون النظر إلى معناها، أو يتحدثون بشكل عشوائي تمامًا فلا يوجد رابط بين كل كلمة وأخرى.
  • اضطراب الحركة
    يضطرب السلوك الحركي عند المصابين بهذا المرض، وأخطر حالات اضطراب الحركة هي التصلب، حيث يدخل في حالة من الجمود الحركي ويقل تفاعله مع البيئة المحيطة بشكل كبير.

الأعراض السلبية

وصفت هذه الأعراض بالسلبية، لأنها تتضمن سلب أو خسارة المريض لنشاط استطاع فعله سابقًا. وهنا يخسر المريض عمليات التفكير والشعور الطبيعية. فيظهر عليه ما يلي

  1. غياب الدافع وعدم القدرة على التخطيط والشروع بأي نشاط.
  2. شعور عام بعدم الاكتراث وقلة الاستمتاع بأنشطة الحياة اليومية.
  3. قلة الحديث.

أسباب حدوث الفصام

لم يتوصل العلماء حتى وقتنا الحالي إلى سبب محدد لحدوث هذا المرض، لكنهم تقصّوا دور الجينات والبيئة في تطوره وظهوره وتوصلوا إلى الآتي:

  • تخبرنا الدراسات الجينية أن عددًا من الجينات والطفرات الجينية المختلفة تساهم في ظهور المرض، لكن لا يوجد جين محدد يفعل ذلك. ولذلك عندما أجرى العلماء اختبارات التوائم المتماثلة، بحيث يحمل أحد الأخوين المرض ويختبر العلماء احتمالية إصابة الآخر، وجدوا أن احتمالية الإصابة هي 50%. لذا تعكس هذه الدراسات الدور الذي تلعبه الجينات في ظهور هذا المرض لكنها لا تنكر دور العوامل الأخرى.
  • تعتبر البيئة من العوامل المؤثرة في ظهور الفصام، فعند جمع القابلية الجينية للإصابة بالمرض مع بعض العوامل البيئية المحفزة مثل: التعرض المستمر للضغط، والبيئة الفقيرة، والتعرض للفيروسات وأمراض سوء التغذية، ترتفع احتمالية الإصابة بشكل كبير.
  • لا تقتصر عوامل الخطر على الجينات والبيئة فقط، هناك عوال تختص بتركيب المخ وطريقة عمله. مثل: اختلاف حجم مكونات محددة من المخ، واختلاف الطريقة التي تتصل بها أجزاء المخ ببعضها، ونقص كمية أحد النواقل العصبية وهو الدوبامين.

العلاج

شأنه كشأن سائر الأمراض النفسية، يحتاج مصابو الفصام إلى الالتزام بالأدوية والمداومة على العلاج النفسي للتحكم في الأعراض.
يصف الأطباء عادة أدوية مضادة للذهان (التي تعمل على تخفيف الأعراض الإيجابية فقط). ويتضمن العلاج النفسي: العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج الجماعي، والتدريب على المهارات الاجتماعية، كذلك تشجيع دور العائلة.

خاتمة

“يضطر المرء أن يصبح آلهًا، عندما يشعر بأنه لم يعد إنسانًا”

مسحاء يبسلانتي الثلاث-ميلتون روكيش

هنا سأنهي حديث اليوم، بأخطر أوجه الفصام وهو سلب الهوية والانفصال التام عن الواقع، فلا يشعر المرء بنفسه مجددًا. وفي النهاية يتحول الأمر إلى حلقة مفرغة، حيث يدفعه وهمه إلى الابتعاد عن الناس فيزيد انغماسه في وهمه وهكذا.

اقرأ أيضًا: متلازمة كابجراس أو “المُنتحِل”: الوهم الذي يحوّل الأقرباء إلى غرباء

المصادر

أكتشاف نوع جديد من مرض انفصام الشخصية

أكتشاف نوع جديد من انفصام الشخصية.

اكتشاف نوع جديد من انفصام الشخصية، كشفت دراسة جديدة أن جميع المصابين بالفصام لا يظهرون نفس بنية الدماغ غير الطبيعية.

عند مسح أدمغة أكثر من 300 من مرضى الفصام، يعتقد الباحثون الآن أنهم حددوا نوعين فرعيين من التشريح العصبي، لهذا الاضطراب العصبي الغامض؛ واحد منهم لم يتم اكتشافه من قبل.

المادة الرمادية و علاقتها بانفصام الشخصية :

اكتشاف نوع جديد من انفصام الشخصية، اليوم، البيولوجيا العصبية للفصام ليست مفهومة بشكل جيد، ولكن تاريخيا، تم ربطها بانخفاض حجم المادة الرمادية، وهو نوع أنسجة المخ التي تحتوي على الجسم الرئيسي للخلايا العصبية.

هذا نمط نموذجي للمرض يستمر في الظهور في الأبحاث، لكن بينما أظهر غالبية المرضى في هذه الدراسة الجديدة أيضًا هذه النواقص، كان لدى جزء كبير مستويات مادة رمادية صحية بشكل مدهش.

يوضح كريستوس دافاتسيكوس، اختصاصي الأشعة في جامعة بنسلفانيا: “أظهرت العديد من الدراسات الأخرى، أن المصابين بمرض انفصام الشخصية لديهم كميات أقل بكثير من المادة الرمادية مقارنة بعناصر التحكم الصحية”.

“ومع ذلك، لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لثلث المرضى على الأقل، فقد كانت أدمغتهم طبيعية تمامًا تقريبًا”.

الشيء الوحيد الذي برز هو :

الزيادة في حجم العقد القاعدية، وهو الجزء من الدماغ المسؤول في المقام الأول عن التحكم في الحركات.

على الرغم من أن الفصام هو اضطراب في العقل يتداخل مع المعالجة المستمرة للواقع، إلا أنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى مشاكل جسدية مثل الحركات البطيئة والتشنجات اللاإرادية.لكن أنماط الدماغ هذه لا تتوافق تمامًا مع الإجماع الحالي على مرض انفصام الشخصية.

في الواقع، فإن فكرة “عدم التجانس التشريحي العصبي” – حيث قد يظهر بعض الأشخاص عجز في المخ في حين أن البعض الآخر لا – قد تم النظر فيها مؤخرًا فقط.

وخلص الباحثون إلى أن :

هذه النتائج تتحدى المفهوم التقليدي المتمثل في أن فقدان حجم الدماغ هو سمة عامة للفصام”.

باستخدام التعلم الآلي، قام الفريق بتحليل فحوصات الدماغ لـ 307 من مرضى الفصام و 364 من عناصر التحكم الصحية، وصنفهم إلى أنواع فرعية تشريحية عصبية.

وفي الاجماع، لم يُظهر ما يقرب من 40 في المائة من المشاركين المصابين بالفصام النمط المعتاد للمادة الرمادية المخفضة.

في بعض الحالات، أظهروا في الواقع المزيد من حجم المخ في منتصف الدماغ، في جزء يسمى (المخطط).

لا يمكن العثور على تفسير واضح للنتائج – وليس الدواء أو العمر أو أي عوامل بشرية أخرى.

يقول دافاتزيكوس: “هذا هو الجزء الذي نشعر فيه بالحيرة الآن”.

نحن لا نعرف. ما نعرفه هو أن الدراسات التي تضع كل مرضى الفصام في مجموعة واحدة ، عند البحث عن ارتباطات مع الاستجابة للعلاج أو التدابير السريرية ، قد لا تستخدم النهج الأفضل”.

 

(اكتشاف نوع جديد من انفصام الشخصية من خلال الفحوصات على الدماغ) ملخص لنوعين من الفصام ، SCZ 1 و SCZ 2. (Chand et al.، Brain، 2020)

(اكتشاف نوع جديد من انفصام الشخصية)

تصنيف و وصف المرض :

المرضى الذين صُنفوا في أي نوع فرعي من الدماغ عانوا من مستويات متشابهة من الأعراض وتم علاجهم بنفس الجرعة تقريبًا. ربط بحث سابق بين أحجام القشرية المنخفضة والعقاقير المضادة للنسيان، لكن الباحثين لم يكتشفوا مثل هذه الاختلافات بين النوعين الفرعيين.

ويلاحظ الفريق أن اختلافات الدماغ بين الأنواع الفرعية لا تزال تتأثر بعواقب تناول الدواء، على سبيل المثال، مقاومة أعلى للعلاج في النوع الفرعي 1 مقارنة بالنوع الفرعي 2، الذي يبدو أن أحجامه القشرية لا تقل.

لكن الجوانب الأخرى – مثل عدم وجود اختلاف في شدة الأعراض – لا تدعم هذا التفسير.

 

وقد ألمحت دراسات حديثة أخرى أيضًا إلى عرض أكثر تنوعًا لمرض انفصام الشخصية في الدماغ؛ بالنظر إلى كيف يمكن أن تكون أعراض الفصام المتغيرة، وعدد قليل من الناس يستجيبون للعلاج، فإن هذه الفكرة القائلة بأن حجمًا واحدًا لا يناسب الجميع لا يخلو من الصحة او الثقة.

ولكن ثبت أن من الصعب للغاية ربط هذه الأعراض بأنماط او حالات في المخ، خاصة وأن النماذج الحيوانية ليست مفيدة في تشخيص الأمراض إلى حد كبير من خلال الإبلاغ الذاتي.

وقال  دافاتزيكوس “إن الرسالة الرئيسية هي أن الأسس البيولوجية للفصام – وفي الواقع العديد من الاضطرابات العصبية والنفسية الأخرى – غير متجانسة للغاية”

نظام مقترح جديد لتصنيف و تشخيص مرض الانفصام في الشخصية :

يصنف أحدث تصنيف لمرض انفصام الشخصية في DSM-V الحالة على أنها طيف يستند إلى الأعراض وحدها، بعد أن ابتعد عن الأنواع الفرعية السلوكية، مثل جنون العظمة والكاتون.

لكن يعتقد أن ملاحظات التنوع العصبي في مثل هذه الاضطرابات، يمكن أن تأخذ في النهاية فئات التشخيص إلى أبعد من ذلك بكثير.

“في المستقبل، لن نقول،” هذا المريض مصاب بانفصام الشخصية ، “سنقول ،” هذا المريض لديه هذا النوع الفرعي “أو” هذا النمط غير الطبيعي “، بدلاً من مظلة واسعة واحدة التي تصنف الجميع “.

سيتعين علينا انتظار المزيد من الأبحاث في علم التشريح العصبي لمختلف الاضطرابات، لمعرفة ما إذا كان هذا التصنيف ممكنًا أم لا في انفصام الشخصية.

 

المصدر :   Brain.

Exit mobile version