مدخل إلى الأنثروبولوجيا: النظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا

النظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا من النظريات التي برزت في خمسينات القرن العشرين، وتعد من المدارس الهامة في مجال الأنثروبولوجيا. بُنيت هذه النظرية على آراء المفكر كلود ليفي شتراوس، التي تقول بأن للمجتمعات بنى أصغر حجمًا تشكل مجتمعة المجتمع بكليته وعناصره.

نشأة النظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا

نشأت النظرية البنيوية على يد كلود ليفي شتراوس في خمسينيات القرن العشرين، متأثرًا بالعديد من المفكرين والفلاسفة منهم هيغل. وأخذ العديد من الأفكار من علم اللغة البنيوي، ومنها أفكار فرديناند دي سوسور الذي جادل بأن علماء اللغة بحاجة إلى تجاوز أفعال الكلام الفردية والتوصل إلى فهم أوسع للغة. طبق ليفي شتراوس هذه النظرية في بحثه عن البنى العقلية الكامنة وراء أفعال السلوك البشري. فكما المتحدثين بلغة يتحدثونها بالرغم من جهلهم بالقوعد، فإن البشر يعيشون حياتهم دون إدراك طريقة عمل البنى الاجتماعية في حياتهم اليومية. [1]
ركزت البنيوية على كيفية تحديد السلوك البشري من خلال البنى الثقافية والاجتماعية والنفسية. أي أن الأشياء لا يمكن فهمها بمعزل عن غيرها، بل يجب رؤيتها في سياق الهيكل الأكبر أو البنية الكاملة للمجتمع. ولا توجد هذه الهياكل الكبرى في المجتمع من تلقاء نفسها إنما تتكون من خلال إدراكنا للعالم. [5]

افتراضات النظرية البنيوية

تأثرت النظرية البنيوية بمدارس الظواهر والجشتالت في علم النفس. اقترح ليفي شتراوس أن التركيز للدراسات الأنثروبولوجية يجب أن يكون على الأنماط الأساسية للفكر البشري التي تنتج الثقافات التي تنظم بدورها وجهات النظر العالمية. واعتقد أن هذه العمليات لا تحدد الثقافة وإنما تعمل بداخل هذه الثقافة. وأكد المنهج البنيوي أن عناصر الثقافة يجب أن تفهم من حيث علاقتها بالنظام بأكمله. أي أن الكل أكبر من الأجزاء، وعناصر الثقافة ليست تفسيرية في حد ذاتها، لكنها تشكل جزءًا من نظام ذو معنى. [2]

مفهوم البنية في المجتمع

المفهوم الأساسي للبنية هو أن جميع أنشطة البشر في المجتمع مبنية وليست طبيعية أو تلقائية. تميل البنيوية إلى التصنيف العلمي، وتقترح في ذلك علاقة متبادلة بين الوحدات أو ظواهر السطح وبين القواعد أو الطرق التي عن طريقها يتم تجميع الوحدات. يعتقد أنصار هذه النظرية أن البنى الأساسية التي تنظم القواعد والوحدات في أنساق ذات معنى يتم إنشاؤها عن طريق العقل البشري وليست عن طريق الإدراك الحسي. وتحاول البنيوية تقليل تعقيد التجارب البشرية وإرجاعها إلى بنى أساسية معينة تعمم على كافة المجتمعات. [3]
يكمن تعريف البنية على أنها أي نظام مفاهيمي له ثلاث خصائص وهي:
1- الكمال، أي أن النظام يعمل ككل.
2- التحويل، النظام ليس ثابتًا.
3- التنظيم الذاتي، أي أن الهيكل الأساسي يكون ثابت.

نظام القرابة

تتمحور نظرية ليفي شتراوس عن موضوع القرابة أن مجموعات القرابة القبلية عادة ما توجد في أزواج، أو في مجموعات ثنائية تعارض بعضها بعضًا، ولكنها بحاجة لبعضها في نفس الوقت، كما أضاف أن الطرق التي صنف بها الناس في البداية الحيوانات والأشجار كانت مبنية على سلسلة من التناقضات. [4]
وصف الحكايات الشعبية لأمريكا الجنوبية القبلية بأنها مترابطة من خلال سلسلة من التحولات، حيث يكون هنام تحول معاكس في الحكايات إلى نقيضها في حكايات أخرى. ويرى أن هذه الأضداد هي رمز للثقافة الإنسانية والتي عن طريق الفكر والعمل تتحول إلى أدوات مادية للقبيلة. [2] [4]
تعكس الهياكل الاجتماعية المعرفية التعامل مع الأنماط في التفاعل الاجتماعي وتكون مظهر لها، وتسعى البنيوية إلى تحديد روابط بين بنى الفكر والبنى الاجتماعية. طرح موس الهدية كمثال وجادل بأن الهدايا ليست مجانية، بل تلزم المتلقي بأن يردها بالمثل. وأشار إلى أن الهدايا ليست أشياء مادية فقط، وإنما لديها خصائص ثقافية وروحية. ومن هذا انطلق شتراوس بأن التبادل هو الأساس العالمي لأنظمة القرابة، التي تعتمد بنيتها على نوع قواعد زواج معينة، وسمي النموذج الخاص بليفي شتراوس لأنظمة القرابة باسم نظرية التحالف. [4]

نظام الزواج

وضح ليفي شتراوس في نموذجه أنظمة الزواج بين أبناء العم، وتبادل الأخت، وقواعد الزواج الخارجي. أشار إلى أنه مع الوقت تشكل قواعد الزواج بنى اجتماعية، أي أن كل نظام زواج يخلق علاقة مدين ودائن يجب موازنتها من خلال التزويج على الفور أو في الجيل التالي. وناقش فكرة تبادل النساء بين القبائل بأن محركها الأساسي كان أن فكرة سفاح القربى محرمة شمن الأسرة أو القبيلة بالتالي لجأت القبائل لتبادل النساء. واكتشف أن مجموعة كبيرة من الثقافات غير المرتبطة ببعضها لها قانون يقتضي بتزويج أبناء العم أي أطفال الأشقاء من الجنس الآخر. وقام وفقًا لذلك بتجميع أنظمة القرابة في مخطط يحتوي على ثلاثة هياكل قرابة أساسية تم إنشاؤها من نوعين من التبادل. أطلق على تراكيب القرابة أولية، شبه معقدة، ومعقدة. [4]

العلماء المؤسسون للنظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا

من رواد البنيوية كلود ليفي شتراوس الذي أسسها، والعلماء الذين شاركوا في تطويرها تيرينس هوكز وروبرت سكولز. وفي ستينات القرن الماضي نذكر من العلماء تشارلز موريس ونعوم تشومسكي.

كلود ليفي شتروس

عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ومؤسس هذه النظرية والعالم الرئيسي الذي ساهم فيها، طبق النظرة البنيوية على الظوهر الثقافية مثل الأساطير وعلاقات القرابة، كما طبق مبادئ اللغة في بحثه عن البنى العقلية الأساسية للعقل البشري. قام بتقسيم الأساطير إلى إلى وحدات صغيرة ذات معنى أطلق عليها اسم mythemes. وبرأيه، يمكن فهم كل ثقافة من حيث التعارضات الثنائية الموجودة فيها وهي فكرة استمدها من فلسفة هيجل. وأظهر أن التناقضات ستتصارع فيما بينها، وسوف يتم حلها في قواعد الزواج والأساطير والطقوس الخاصة بالمجتمع. [2]

فرديناند دي ساسور

عالم لغويات سويسري، أثر عمله في علم اللغويات وعلم الأحياء بشكل كبير على ليفي شتراوس، ويعتبر أنه من الأباء المؤسسين لعلم اللغويات في القرن العشرين. [3]

مارسيل موس

عالم الاجتماع الفرنسي، قام بتدريس ليفي شتراوس وأثر في تفكيره حول طبيعة المعاملة بالمثل والعلاقات البنيوية في الثقافة. [3]

ميشيل فوكو

فيلسوف اجتماعي فرنسي، ارتبطت أعماله بالفكر البنيوي وما بعد البنيوي، كتب إلى حد كبير عن قضايا السلطة والهيمنة في أعماله، تأثر بالفكر البنيوي لكنه لم يعد نفسه عالمًا بنيويًا تمامًا ورفض هذه التصنيفات. [3]

الانتقادات التي وجهت للنظرية

مع ظهور الفكر التفسيري لما بعد الحداثة تراجعت النظريات البنيوية والوظيفية. وذلك بسبب عدم اتساقها الداخلي ومجموعة من القيود أضعفت هذه النظرية. ومن المآخذ على هذه النظرية تركيزها المفرط على العلاقات القبلية وعلاقات القرابة. وأشار نقاد هذه النظرية إلى أن هناك نقاط ضعف في أساليب ليفي شتراوس.وذلك بسبب بحثه عن بنى مثالية الذي دفع به إلى إهمال واقع وتعقيدات الممارسات الفعلية، فليست جميع القبائل معتمدة على نظام مبادل الزواجات. كما أن التماسك الاجتماعي لا يتم بشكل رئيسي في تبادل النساء كزوجات. إن ليفي شتراوس طور مفهومًا للبنى الفكرية ولكنه ببساطة افترض وجودها افتراضًا. [2]

مدخل إلى الأنثروبولوجيا، ما هو علم الإنسان؟

الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان علم برزت أهميته خلال القرن الماضي بشدة، وهو فرع من العلوم الاجتماعية التي تبلورت من قرون ولكنها لم تصبح علمًا ممنهجًا إلا في القرن الماضي

تعريف الأنثروبولوجيا

الأنثروبولوجيا هي الدراسة المنهجية لحياة البشر، وتعني حرفيًا “علم الإنسانية”. فهي مشتق من كلمتين من الإغريقية وهما  anthrops أنثروبوس وتعني الانسان، و logos وتعني الدراسة العلمية. وبهذا تكونان كلمة انثروبولوجيا أو علم الإنسان.

وتدرس الأنثروبولوجيا البشرية بهدف الوصول لفهم لأصولنا التطورية، وتميز البشر كنوع، والتنوع الكبير في أشكال الوجود الاجتماعي للبشر حول العالم، وتطور الأنواع البشرية عبر التاريخ. أي ينصب تركيزها على فهم التنوع البشري وفهم تطورنا كنوع على الأرض.

نشأة الأنثروبولوجيا وتطورها

مرحلة ما قبل المنهجية العلمية

يرجع بعض المؤرخين أصول دراسة علم الانسان إلى الإغريق، حيث قام المؤرخ هيرودوتس بكتابة أفكار أصبحت لاحقًا جوهرية في علم الإنسان. فقام بوصف عادات وشعوب مختلفة عن الإغريق، ولكنه صنف اليونان كبلد مهيمن وبقية الحضارات أدنى مستوى منها، وهو ما عمل به العديد من الأنثروبولوجيين الأوروبيين لاحقًا بوضعهم أوروبا بالدرجة الأولى.

كما قام العلامة ابن خلدون بإضافات عديدة من ضمن أفكاره في علم الاجتماع ونشوء الدول وانهيارها، ما أسهم في تبلور علم الانسان لاحقًا. خلال العصور الوسطى تساءل بعض المفكرين عن أصول الانسان ولكن تم التعامل مع هذه الشؤون كأفكار دينية بحتة.

الأنثروبولوجيا خلال عصر التنوير

في بداية القرن الخامس عشر السابق لحقبة التنوير بدأت الاستكشافات العالمية وبدأ الأوروبيون باكتشاف حضارات غريبة عنهم مع اكتشاف قارة أميركا، وكتب الرحالة الذين وصلوا لهذه البلدان ملاحظات بسيطة ولكنها غير دقيقة ومشتتة وغير واضحة، ولكنها مهدت الطريق لنشوء علم لدراسة الانسان.
وفي عصر التنوير شهدت الأنثروبولوجيا تقدمًا ملحوظًا، حيث بنى المفكرون حينها أفكارهم على المنهج العلمي والمنطقي والعقلاني لا على التفكير الديني أو الغيبي. فكتب جان جاك روسو على سبيل المثال عن الصفات الأخلاقية لبعض الجماعات “البدائية”  وعن عدم المساواة بين البشر، ولكن ما زالت هذه الكتابات نظرية بحتة وتفتقر إلى الاحتكاك المباشر والتجربة.

الإمبريالية تمهد لنشوء علم الانسان الحديث

مع تزايد الاحتكاك مع الثقافات غير الأوروبية، وصعود الإمبريالية (السيطرة السياسية والاقتصادية على البلدان الأجنبية) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدأ الأوروبيون بملاحظة سلوك الشعوب الأخرى واختلافهم ثقافيًا ولكن هذه المرة مع احتكاك مباشر مع الشعوب، فحصلوا على فيض هائل من المعلومات عن هذه الشعوب بسبب استعمارهم لها، الأمر الذي ساعد بتشكيل انثروبولوجيا مهنية.

وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الانثروبولوجيا علمًا معروفًا لدراسة البشر والإنسانية وبدأت بتشكيل تفرعات عنها.

الفروع الأساسية للأنثروبولوجيا

الأركيولوجيا “علم الآثار”

تعد من الفروع الأساسية لعلم الإنسان، وتدرس الأركيولوجيا البشرية من خلال تحليل الآثار الباقية عن الحضارات القديمة، بالإضافة لتحليل العظام والبقايا البشرية لمعرفة تطور البشر.

يبدأ النطاق الزمني للدراسات الأركيولوجية بدراسة أسلاف البشر منذ ملايين السنين ويمتد حتى التاريخ المعاصر.

الأنثروبولوجيا البيولوجية

وتسعى لفهم كيفية تكيف البشر مع ظروفهم المحيطة والبيئات المختلفة. الذي قد يسبب لهم المرض أو الموت المبكر وما الذي يساعدهم على التكيف. بالإضافة لفهم كيف تطور البشر من أسلاف أخرى، فيدرس العلماء البشر بالإضافة للرئيسيات الأخرى مثل القرود، والحفريات والمستحاثات. ويركزون على فهم عمل علم الأحياء والثقافة معًا لتشكيل الحياة الإنسانية التي نعرفها الآن.

الأنثروبولوجيا الثقافية

يستكشف علماء الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية كيف يعيش الناس ويفهمون العالم المحيط بهم. ويحاولون فهم ما يعتقده الناس أنه مهم والقواعد التي يضعونها والعادات والتقاليد حول العالم وتطورها وتغيرها عبر الزمن. مثل عادات الدفن وطقوس الزواج والاحتفالات الدينية والمناسبات الثقافية والعادات المختلفة للمجتمعات البشرية.

الأنثروبولوجيا اللغوية

يدرس علماء الأنثروبولوجيا اللغوية الطرق التي يتواصل بها الناس حول العالم. ويهتمون بكيفية ارتباط اللغة برؤية البشر لعالمهم، ودراسة اللغة وتطورها بمرور الزمن. وكيف يستخدم البشر اللغة في حياتهم للتواصل والتعبير وإنشاء العلاقات، فاللغة هي المفتاح الرئيسي للتواصل الاجتماعي وأول درب لفهم المجتمعات البشرية.

المدارس الرئيسية في علم الانسان

الأنثروبولوجيا الوظيفية

يعتقد الوظيفيون أن المؤسسات الاجتماعية كالمدرسة والأقران والأسرة، تعمل جميعها بشكل متكامل لتوفير بيئة مستقرة ليعيش الناس فيها. يدرس الوظيفيون كيفية عمل هذه المؤسسات الاجتماعية عن طريق طرح أسئلة مثل: ما هو الغرض من هذه المؤسسة؟ كيف يتم تشغيلها؟ كيف يتم اتخاذ القرارات فيها؟

قد تبدو الثقافات مختلفة لمن يراقبها، ولكن برأي الوظيفيين المجتمعات البشرية مجتمعات طبيعية لأنها تتكون من مؤسسات اجتماعية مختلفة تعمل لتأمين احتياجات الناس.

الأنثروبولوجيا البنيوية

ترى البنيوية، وقد طورها العالم الفرنسي ليفي شتراوس، أن المجتمعات هي عبارة عن أنساق اجتماعية تشكل أنماطًا ثقافية. أي أنماط متكررة في عادات الدينية والثقافية والفن.

الأنثروبولوجيا المادية الثقافية

ترى المادية الثقافية التي طورها مارفن هاريس في ستينات القرن الماضي، أن البنية التحتية للمجتمع مثل التكنولوجيا والإنتاج الاقتصادي والمؤسسات الاجتماعية تؤثر في بنية المجتمع (أي العلاقات والتنظيم الاجتماعي)، وبينتها الفوقية أي الأفكار والمعتقدات والقيم.

في النهاية تنبع أهمية دراسة الانثروبولوجيا لفهم التنوع البشري وختلاف العادات والتقاليد، كلما عرفنا أكثر كلما أدركنا أن البشر برغم اختلافهم الشديد عن بعضهم يتشابهون بأمور عديدة، وهذا ما علينا تذكره عند استهجان العادات الغريبة أو الجديدة علينا، أن التشابه بين البشر باختلاف أعراقهم أكبر من اختلافاتهم.


Exit mobile version