...
Ad

في القرن التاسع عشر، سلط كارل ماركس، الفيلسوف والاقتصادي الألماني، الضوء على قضية حاسمة لا يزال يتردد صداها معنا اليوم: مفهوم الاغتراب (alienation). يرى ماركس أنه في المجتمعات الرأسمالية، يصبح البشر غرباء عن عملهم، وعن أنفسهم وعن الآخرين، مما يؤدي إلى فقدان الإنسانية. لقد أصبحت أزمة الاغتراب هذه أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى، ونحن نتصارع مع عواقب الأتمتة والرتابة والملل في الحياة الحديثة. لقد أثر عمل ماركس على المفكرين والسياسيين من مختلف الأطياف. وقد ألهمت أفكاره حول الاغتراب، على وجه الخصوص، فلاسفة مثل إريك فروم، وجان بول سارتر، وبرتراند راسل، وغيرهم. إذن، ما هو مفهوم الاغتراب لدى كارل ماركس، وكيف يشكل فهمنا للرأسمالية وتأثيرها على المجتمع البشري؟

يعتمد عمل ماركس على فكرة أن الطريقة التي يعمل بها المجتمع تتحدد من خلال بنيته الاقتصادية. في المجتمعات الرأسمالية، تكمن السلطة في امتلاك رأس المال، الذي يمكن استخدامه لشراء وامتلاك وسائل الإنتاج. هذه السيطرة على وسائل الإنتاج تمكن الرأسمالي من استغلال العمال، مما يؤدي إلى تحويلهم إلى حالة من الاغتراب. ويصبح العامل مجرد ترس في الآلة، مجردًا من الاستقلالية والإبداع وتحقيق الذات.

قصة صانع الحذاء

لنتأمل صانع أحذية صغير في متجره، حيث يصنع الأحذية يدوياً. فهذه وسيلة مجدية لكسب العيش ما دام صانع الأحذية قادراً على منافسة الآخرين في أسعار أحذيته. وقد سارت هذه الطريقة على نحو طيب طيلة تاريخ البشرية حتى بداية عصر التصنيع.

فعندما ظهر أول مصنع لصناعة الأحذية، أصبح من الممكن إنتاج مئات الأزواج من الأحذية في نفس الوقت الذي يستغرقه صانع الأحذية لدينا لصنع زوج واحد يدوياً. والآن أصبح بوسع صاحب المصنع أن يبيع الأحذية بسعر أرخص، وأن يبيع المزيد منها، حتى أنه بعد أن يسدد صاحب المصنع ثمن الآلات وأجور عمال المصنع، فإنه يظل قادراً على تحقيق ربح كبير.

ولا يستطيع صانع الأحذية أن ينافس إنتاج المصنع وأسعاره، وسوف يضطر إما إلى فتح مصنع بنفسه، أو إلى إغلاق عمله. ولكن هناك شيء يمنعه من فتح مصنعه الخاص، وهو المال اللازم لبدء المصنع، وشراء المباني والآلات وتوظيف العمال.

وباختصار، يفتقر صانع الأحذية إلى رأس المال. وعلى هذا فإن الرأسمالية، في هذا المنظور، هي عملية تظل فيها وسائل الإنتاج (مصنع الأحذية) بعيدة عن متناول أغلب الناس، لأنهم لا يملكون رأس المال اللازم للمشاركة فيها. وبالتالي فإن القِلة التي تملك رأس المال تستطيع أن تسيطر على بقية المجتمع.

من صاحب محل إلى عامل في مصنع

إن صانع الأحذية الصغير سوف يضطر إلى إغلاق متجره والذهاب للعمل كعامل في المصنع، حيث يكسب أقل كثيراً مما كان يكسبه من قبل، ولا يساهم إلا في ربح الرأسمالي الذي يملك المصنع.

ولأن العمل الذي يقوم به الآن، وهو يقف على خط التجميع في المصنع، لا يتطلب أي مهارات خاصة، فإنه يتنافس مع كثيرين آخرين على الوظيفة المنخفضة الأجر في المصنع. ولا يملك أي نفوذ يمكنه من المطالبة بأجور أعلى أو ظروف عمل أفضل. وبوسع صاحب المصنع دائماً أن يستأجر عشرات آخرين ليحلوا محله إذا تسبب في أي مشكلة.

وفي ظل هذه الظروف، أصبح احتمال حصول العامل على رأس مال كافٍ لفتح مصنع خاص به بعيد المنال تمامًا. فالعامل الذي كان مالكًا سعيدًا حرًا لعمله الخاص المربح، أصبح الآن عبدًا لصاحب المصنع، ولا أمل له في ترك هذا المنصب أبدًا.

الاغتراب لدى كارل ماركس

فهم مفهوم الاغتراب لدى كارل ماركس

تعود جذور مفهوم ماركس للاغتراب إلى أعمال فلاسفة آخرين، مثل هيغل وفيورباخ وجون لوك. وتم تطوير فكرته عن الاغتراب لاحقًا من قبل مفكرين مثل إريك فروم، الذي رأى أنها مشكلة أساسية للحياة الحديثة. حتى الفلاسفة الوجوديون مثل جان بول سارتر وألبير كامو تأثروا بمفهوم ماركس عن الاغتراب.

إذًا، ما هو الاغتراب بالضبط؟ وفقا لماركس، إنها العملية التي يصبح البشر من خلالها منفصلين عن إمكاناتهم الإبداعية ومنتجات عملهم. في النظام الرأسمالي، يتحول العمال إلى مجرد تروس في آلة، ويجردون من استقلاليتهم وإبداعهم. تُؤخذ منهم منتجات عملهم، ولا يبق لهم سوى الراتب.

إن مفهوم الاغتراب لدى كارل ماركس متجذر في فكرته القائلة بأن البشر ليسوا مجرد كائنات اقتصادية، بل أفراد مبدعين ومدركين لذواتهم ولديهم القدرة على تشكيل حياتهم الخاصة. حيث كان يعتقد أن البشر قادرون على إنتاج السلع التي تعكس قيمهم ومهاراتهم وخبراتهم. ومع ذلك، في النظام الرأسمالي، يتم قمع هذه الإمكانات الإبداعية، ويتم تحويل البشر إلى مجرد إنسان آلي.

جوهر الرأسمالية

إننا جميعاً نتفق على أن مجتمع الصيادين وجامعي الثمار في عصور ما قبل التاريخ يختلف اختلافاً جوهرياً عن مجتمع العصور الوسطى الأوروبية أو مجتمع الولايات المتحدة اليوم. ولكن ماركس قد يقول إن هذين المجتمعين لا يختلفان فقط بطريقة عشوائية، بل إن الاختلافات بينهما في الثقافة والقيم والأخلاق، بل وحتى الفلسفة والعلم، يمكن تفسيرها جميعاً بالاختلافات في كيفية إنتاج القيمة الاقتصادية وتوزيعها داخل كل مجتمع.

إن القوة في الرأسمالية تكمن في امتلاك رأس المال، أو المال نفسه. ويمكن استخدام هذه القوة المالية لشراء وامتلاك وسائل إنتاج السلع، وهذا في رأي ماركس هو جذر كل الشرور.

خذ على سبيل المثال قصة صانع الأحذية التي ناقشناها سابقًا. في النظام الرأسمالي، يتم تحديد مصدر رزق صانع الأحذية من خلال قدرته على التنافس مع صانعي الأحذية الآخرين في السوق. الهدف هو إنتاج الأحذية بتكلفة رخيصة وبكفاءة قدر الإمكان، بغض النظر عن نوعية حياة العمال المعنيين. ويؤدي هذا إلى وضع تتركز فيه وسائل الإنتاج في أيدي عدد قليل من الأفراد أو الشركات، مما يترك غالبية الناس دون سيطرة تذكر على حياتهم.

لقد جادل ماركس بأن هذه ليست حالة طبيعية أو حتمية، بل هي نتيجة لهيكل اقتصادي محدد يعطي الأولوية للربح على الناس. كان يعتقد أن مجتمعًا أكثر إنصافًا وعدالة سيكون ممكنًا إذا كانت وسائل الإنتاج مملوكة ومسيطر عليها بشكل جماعي، مما يسمح للناس بالعمل معًا لخلق عالم أفضل للجميع.

تحقيق الإنسان لذاته

يعتقد ماركس أن البشر لديهم دافع طبيعي لتحقيق الذات، وهو ما يتم إحباطه في المجتمعات الرأسمالية. في ظل الرأسمالية، يضطر الناس إلى العمل وأداء مهام متكررة ومملة لا تسمح لهم بالتعبير عن إبداعاتهم وقيمهم ومهاراتهم.

لقد تصور ماركس مجتمعًا يستطيع فيه الناس الإنتاج بحرية وإرادة، دون أن تمليهم الاحتياجات المادية المباشرة أو السعي لتحقيق الربح. في هذا المجتمع يستطيع الأفراد أن يصنعوا منتجاتهم بحرية، ويصبح عملهم تعبيراً عن أنفسهم وقيمهم وإبداعاتهم. هذا هو جوهر تحقيق الذات، حيث يمكن للأفراد العثور على المعنى والهدف في حياتهم.

إن رؤية ماركس ليست مجرد خيال، بل هي بديل واقعي للتأثيرات المنفرة للرأسمالية. ومن خلال تزويد الأفراد بالوسائل اللازمة لعيش حياة متنوعة ومثيرة للاهتمام ومليئة بالتحديات، يمكننا إطلاق العنان للإبداع البشري والابتكار والإمكانات.

الوجوه الأربعة للاغتراب لدى ماركس

  1. فصل العامل عن منتجه: في النظام الرأسمالي، يتحول العامل إلى مجرد ترس في الآلة، ينتج سلعًا ليس له سيطرة عليها ولا اتصال بها. ويؤخذ منهم نتاج عملهم، ولا يتبقى لهم سوى الراتب.
  2. انفصال العامل عن عمله: في ظل الرأسمالية، يتم تحويل العمل إلى سلعة، ويضطر العمال إلى بيع مهاراتهم ووقتهم لمن يدفع أعلى سعر. وهذا يقلل من العمل إلى مجرد سلعة، ويجرده من قيمته وأهميته الجوهرية. لم يعد يُنظر إلى العمال على أنهم بشر يتمتعون بإمكانات إبداعية، بل مجرد أدوات إنتاج.
  3. الانسان ينفصل عن نفسه: مع تحول العمال إلى مجرد آلات، فإنهم يفقدون الاتصال بإمكاناتهم الإبداعية وقيمهم ورغباتهم. إنهم مجبرون على الامتثال لمتطلبات رؤسائهم، وقمع إنسانيتهم ​​وفرديتهم.
  4. الانفصال عن الآخرين: في النظام الرأسمالي، يتنافس العمال ضد بعضهم البعض في منافسة على الموارد والوظائف الشحيحة. وهذا يخلق شعوراً بالعزلة والانفصال، مما يجعل من الصعب على العمال تكوين علاقات ذات معنى مع بعضهم البعض.

وفي الختام، فإن الوجوه الأربعة للاغتراب تتشابك ويغذي بعضها بعضا. وما دامت الرأسمالية مستمرة في الهيمنة على نظامنا الاقتصادي، فإن الاغتراب سيظل مشكلة منتشرة ومنهكة. ولكن، من خلال فهم الأسباب الجذرية للاغتراب، يمكننا أن نبدأ في تخيل نوع مختلف من المجتمعات، حيث يتم تقدير الإبداع البشري، وتحقيق الذات، والمجتمع على الربح والاستغلال.

المصدر

What is Alienation? | daily philosophy

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 550
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.