Ad

يعكس الفن الحقيقي المشاكل الوجودية، ويطرح القضايا ويجسد الأفكار بعد أن يعيد صياغتها بشكل إبداعي. كما أن الجمع بين حقائق الحياة والأنشطة البشرية التي تهدف إلى فهم هذه الحقائق، يجعل فكرة العمل الفني أكثر وضوحًا. فيمكن للسينما أن تعرض مفاهيمًا وتتناول وتعرض أفكارًا تاريخية ودينية، أو فلسفية للمجتمع وتربطها بواقع الحياة. ويعتبر فيلم The Seventh Seal الذي أُنتج عام 1957م وأخرجه إنغمار برغمان. أحد الأعمال السينمائية المعروفة والمؤثرة في تاريخ السينما العالمية. حيث يتميز الفيلم بقصته الملحمية والرمزية، والتي تتناول موضوعات فلسفية ودينية عميقة.
وربط الفيلم بشكل دقيق تصورات عن أحداث تاريخية، وأفكار وتساؤلات فلسفية ودينية، فعلى المستوى الأول يعرض الفيلم صورة من صور أوروبا في العصور الوسطى وهي تجابه مرض الطاعون، وفي المستوى الثاني يعرض النظرة الدينية ، بالإضافة الى خرافات، واعتقادات كانت سائدة. وعلى هذه الخلفية تظهر الشخصية الأبرز في الفيلم للبحث عن إجابات لأسئلة حول الله والموت ومعنى الحياة، ومن خلال لعب الشطرنج مع الموت يجب أن يجد الفارس إجاباته. ويمكننا النظر إلى “The Seventh Seal ” من ناحيتين: الفترة التاريخية التي يغطيها ومشكلة ذلك العصر ألا وهي الطاعون، ومن ناحية ثانية الأفكار الفلسفية والدينية التي يتبناها ويعرضها المخرج.

مغزى العنوان


يعتبر العنوان الفريد للفيلم “The Seventh Seal” من العناوين المثيرة للاهتمام. ويشير إلى الدلالات المتعددة للرموز والمعاني التي توجد فيه. فـ “الختم السابع” يشير إلى الختم الذي يتم كسره في السفر العاشر في العهد القديم. فيقول: “ولمّا فكّ الحمل الختم السابع ساد السماء سكوت نحو نصف ساعة. ورأيت الملائكة السبعة واقفين أمام الله، وقد أُعطوا سبعة أبواق”. يمثل الختم نهاية العالم ويتصل ذلك بفكرة الموت فهو أحد رموز رؤية يحنا الإنجيلي، الذي يسلط الضوء على صراع الفناء، الذي يمثل نهاية كل إنسان. والاقتراب من الموت ومواجهته تدفع الإنسان للتفكير في كيفية عيشه، والبحث عن المعنى الحقيقي لوجوده.
ويوضح يوحنا في سفر الرؤيا أنه قرأ سفرًا مختومًا بسبعة ختوم. أما الختم السابع والأخير، فهو الذي سيسمح لنا باكتشاف سر إعلان الله في هذا الكتاب. وحده الحمل الذي يرمز للمسيح يستطيع أن يكسر هذا الختم. والذي يرمز إلى الويلات التي تثقل كاهل الإنسان (القوة، العنف، الجوع، الطاعون، الموت، إلخ)، ويحمل الفيلم نفس المواضيع (الله والنهاية).

القصة


تدور أحداث الفيلم في القرون الوسطى، حيث يتجول الفارس المحارب أنطونيوس بلوك في إحدى البلدات التي يضربها الطاعون الدموي. فيقابل الفارس الموت ويتحداه في لعبة الشطرنج للحصول على وقت إضافي للعيش. خلال هذه الفترة، يسعى الفارس لإيجاد معنى للحياة ومعرفة ما إذا كان هناك وجود لله. فتقوم القصة بتسليط الضوء على السؤال الأبدي للإنسان عن الحياة ومعناها. والموت والإيمان والشك والرقابة الدينية، والاعتراض على القوانين والتقاليد، والبحث عن الحقيقة.

تحليل الفيلم:


يسلط الفيلم الضوء على قضايا أساسية وجودية تعبق بالإنسان، ويتحدث إليه في لغة رمزية وفلسفية. من خلال التحليل تظهر الثيمات المشتركة في الفكر البرغماني. مثل: الشك، والبحث عن المعرفة، والوجود، والموت، والإيمان، وتأمل المعنى الحقيقي للحياة.
ويتطلب هذا الفيلم فهمًا عميقًا للعديد من النواحي المختلفة الموجودة فيه، مثل الشخصيات، والرموز، والتعابير، والتصوير، والصوت. مما سيساعد على إلقاء الضوء على المفاهيم الفلسفية التي يعتنقها برغمان، ومنحها الفرصة للمشاهدين للتأمل والتفكير في الأفكار التي يعرضها.
إن التفكير الذاتي يكشف عن الموت بأنه إمكانية متوقعة الحدوث في أي لحظة. والموت إذا نُظر إليه موضوعيًا هو أمر كلي وعام، يصيب كل أشكال الحياة. ولو نظرنا إليه من منظور ذاتي فهو متوقع الحدوث، ومرتبط بالوجود الخاص للفرد، ويؤثر في القرارات الفردية. فإذا كان الموت حتمية لا مفر منها فكل اختيار يكون ذا قيمة لا متناهية، وكل لحظة حياتية تشكل فرصة.

شخصية الفارس


ويربط برغمان الحاضر بالماضي من خلال الصورة، فينقل مشاكل الحاضر وتساؤلاته للماضي على صورة القلق الوجودي المرتبط بالشخصية الرئيسية. وينقل من خلالها الأفكار والمفاهيم عبر سلسلة من الصور، تنقل الأحداث وما يرتبط بها من أفكار.
فيمثل الفارس بلوك في فيلم The Seventh Seal شخصية المفكر الذاتي. والذي يكشف من خلال حركاته الذاتية وآلية تفكيره عن وجوده الذي يتحدد بالفردية والصيرورة والزمان والموت. وهو يفهم وجوده الشخصي على أنه مهمة ومسؤولية، ومن خلال تحركاته ترك المجال مفتوحا أمام فعل حاسم. وهو مجابهة الموت بلعبة شطرنج، وبذلك مثل الذات الموجودة التي تواجه مستقبلها. والفعل الحاسم وجوديًا بالنسبة إلى الذات ليس قرارا خارجيًا، بل هو قرار ينبع من داخلها .
وضمن الحبكة التاريخية يبني المؤلف صورة العصور الوسطى، فيعود الفارس أنطونيوس بلوك من الحروب الصليبية مع مرافقه. ويظهر الموت بينما هو نائم فلا يخافه، وكأن ظهوره كان متوقعًا. والشي الوحيد الذي أراده الفارس هو أن يجد إجابته الخاصة، وهذا السؤال مرتبط بإيمانه. لأن اقتناع الفارس بأن إيمانه السابق بوجود الله أصبح موضعا للشك والتساؤل. فيدعو الفارس الموت للعب لعبة الشطرنج، فإن فاز الفارس تأجل موته، وإن فاز الموت خسر الفارس حياته. وتصبح لعبة الشطرنج بداية كشف الحبكة وينتهي الفيلم بها. فيرمز الفارس إلى الشخص الذي يسعى لإيجاد المعنى والحقيقة، في حين يمثل الموت القوة الجبرية التي لا يمكن الهروب منها.

تأثر برجمان بأفكار عصره



يعرض الفيلم جانبا من عصر برجمان وتأثره بالأفكار السائدة في عصره، ففي منتصف القرن العشرين انتشرت أفكار ألبيرت كامو وهيدغر وجان بول سارتر، والتي حظيت بشعبية كبيرة، لأن أعمالهم أثارت تساؤلات حول معنى الحياة وعلاقة الفرد بالوجود من حوله، وإن مشاكل الوجود الإنساني المتعلقة بهذه القضايا احتلت مكانة كبيرة في الوعي العام آنذاك.
تتعلق النقطة المهمة في فلسفة هيدغر بالمفهوم الأساسي للدازاين . و يعني وجود الشخص، والذي يتحدد من خلال تجربة الشخص لفنائه، ليس في وقت ما من المستقبل لكن هنا والآن، بالنسبة لهيدغر الموت حاضر دائما، إنه موجود في أي لحظة باعتباره إمكانية بنيوية غير محققة ولكنها حتمية. باختصار وجود الإنسان حياة حتى الموت، فكرة الموت وفهمه والبحث عن معنى الحياة أفكار يغطيها الفيلم .

تحليل الرموز والصور المستخدمة في الفيلم وتفسيرها


الفيلم مليء بالرموز والتعابير الفلسفية والأدبية. يتحدث عن المعنى العميق للحياة والاستعداد للموت والبحث عن الإيمان والمعرفة. يمثل الشطرنج لعبة العقل التي يتناولها الفيلم بشكل رمزي للصراع بين الإنسان والموت. ويستخدم فيلم The Seventh Seal العديد من الرموز والصور الرمزية التي تدعو إلى التفكير والتفسير.
ومن خلال تحليل هذه الرموز، يمكن فهم المعاني العميقة للفيلم ورسائله. وكما أشرت سابقًا يرمز الفارس إلى الشخص الذي يسعى لإيجاد المعنى والحقيقة، في حين يمثل الموت القوة الجبرية التي لا يمكن الهروب منها.
ويحتوي الفيلم ضمن مشاهده مجموعة من الدلالات والرموز مرتبطة بالمسيحية يمكن قراءتها. ويطرح لودفينغ ليندلوف أن المشهد الذي يجلس فيه أنطونيوس مع ميا حين يلتقط وعاء الحليب. ويقول: سأحمل هذه الذكرى بين يدي بعناية، وطريقة الجلوس في المشهد وعاء الحليب والفتات، الصورة العامة في هذا المشهد توحي أنها مبنية من لوحة العشاء الأخير، فجلوس الفارس مع أصدقائه، كمثل المسيح في لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي.


ويربط أيضا النضال ضد الموت بقصة آلام المسيح في الإنجيل، ومشهد هرب ميا وجوف والطفل في أثناء لعبة الشطرنج بعد أن رآها جوف، وخسارة أنطونيوس أمام الموت متعمدًا ليعيشوا، كدلالة مجازية لموت يسوع الواعي والمضحي بذاته على الصليب.

الموت منفصل عن الله


ويفصل المخرج بين الموت والله، فتبدو مسألة صمت الله عظيمة لأنطونيوس بلوك، لكن مسألة الموت أعظم، فبعد هزيمة أنطونيوس في لعبة الشطرنج، وعده بلقاء قادم، فسأله أنطونيوس أن يكشف أسراره. فأجابه الموت بأنه لا يملك أسرار، وعن المعرفة قال الموت: ” أنا جاهل”. وبذلك الموت لا يجيب على أسئلة الفارس لسبب وحيد انه لا يملك إجابات، الموت يحدث بشكل حتمي فقط. الموت في الختم السابع منفصل عن وجود الله وعدم وجوده.
ويقدم الفيلم صورة الله القاسي الصامت، الذي لا يهتم لمعاناة الإنسان. ففي مشهد الاعتراف يتساءل أنطونيوس، فيقول: “إنه صعب جدًا الشعور بالرب مع أحاسيس الفرد. لماذا يجب أن يختفي وسط وعود مبهمة ومعجزات مخفية؟ كيف نصدق كالمؤمنين بينما لا نصدق أنفسنا؟ ماذا سيفعل لنا؟. لما نريد أن نؤمن لكن لا نستطيع؟ وماذا عن أولئك الذين لا يستطيعون أن يصدقوا أيّ من هذا؟. لماذا لا يمكنني قتل الرب بداخلي؟ لماذا علي أن أستمر في العيش في طريق مذل مؤلم؟”. كانت هذه أبرز تساؤلات الفارس حول الله.
لكن حين يكمل يرى الله صامتا، ويعود للشك. فيقول: أريد نزعه من قلبي، لكنه سيبقى يعذبني بحقيقة أنني لا أستطيع التخلص منه. أريد المعرفة، لا الإيمان ولا الظن، لكن المعرفة، أريد أن يلقيني من يده. أرى وجهه يتكلم معي لكنه صامت. أبكي إليه في الظلام، لكن يبدو الأمر وكأن لا أحد هناك، ربما ليس هناك أحد”.

المواقف الوجودية لأنطونيوس بلوك:


أسرّ بلوك للكاهن الذي هو الموت في مشهد الاعتراف سابق الذكر أن “قلبه فارغ”. فلقد جعلته الحملة الصليبية يفقد الإيمان بالله. ويبدو أن فقدان الإيمان هذا لا ينبع من الخالق بل من هذه المخلوقات. إن الشر البشري هو الذي يجعلنا نشك في إمكانية الخير الإلهي. ومنذ ذلك الحين، يتساءل الموت: لماذا يريد رجل يشعر بالاشمئزاز من إخوته أن يستمر في العيش ببدء لعبة الشطرنج؟


هناك سببان وراء تأخير بلوك لموته: معرفة وجود الله؛ وإمكانية القيام ببعض الأفعال التي تمنح حياته المعنى. وبادئ ذي بدء، ما لا يستطيع بلوك قبوله هو مغادرة العالم دون معرفة ما إذا كان الله موجودًا أم لا. وكون قلبه أصبح فارغًا فهو يريد أن يعرف.
وفي معاناة الموت تأخذ مسألة وجود الله معناها الكامل, فهل يمكن للحياة أن يكون لها معنى إذا كان الله غير موجود؟. يبدو رفض السؤال هو الحل الأسوأ لبلوك والموت, الذي يعرف من خلال التجربة، ألم الموت. وأثناء انتظار إيجاد إجابة شافية، يطرح أنطونيوس بلوك على نفسه فكرة ثانية: “أريد استغلال هذا التأخير في شيء له معنى”. ففي حالة وجود إجابة سلبية على وجود الله، يجب علينا أن نجد المعنى في هذا العالم.

كيف وجد الفارس معنى حياته؟


من خلال الاتصال مع ميا وجوف وكذلك ابنهما ميكائيل، يتخلى بلوك عن ازدرائه للبشرية. ويتغير جو الفيلم مع هذا التسلسل: الصورة أكثر وضوحًا، والكلام أكثر هدوءًا، وموسيقى جوف، أكثر نعومة. وبلوك، وفقًا لميا، لم يعد يبدو جديًا للغاية. يمكن للفارس بعد ذلك استئناف لعبة الشطرنج، مبتسمًا وحتى يمكنه الضحك على الحيلة التي لعبها على الموت.
كما أن مشاركتهم الملذات البسيطة تذكر بلوك بأن الحياة يمكن أن تكون لذيذة. مثلما كانت قبل مغادرته إلى الأرض المقدسة مع حبيبته, فيصبح للحياة معنى هنا، أي لها نكهة. لكن في التضحية تأخذ الحياة معناها، وتُفهم هذه المرة على أنها ما يبرر الوجود. فيقوم بلوك بصرف انتباه الموت من خلال التظاهر بالغش, ثم الموافقة على خسارة اللعبة. مما يسمح لعائلة الممثلين بالفرار والهروب من الموت.
خلال هذه الساعات الأخيرة من الحياة، لن يصل بلوك إلى المعرفة التي يبحث عنها، فالموت نفسه لا يعرف شيئا عن الله. وكانت الكلمات الأخيرة لبلوك “يا الله، أنت الموجود في مكان ما، والذي يجب أن يكون في مكان ما، ارحمنا”. تظهر أن المعرفة الميتافيزيقية عن الله مجرد وهم، ولكن الله “يجب” أن يكون موجودًا. يبدو أن برغمان، الذي ينتقد الدين وتجاوزاته، يعترف بصحة مسلمة وجود الله بينما يرفض إمكانية الإثبات.

لعبة الشطرنج في الفيلم


إن فكرة لعب الشطرنج مع الموت هي موضوع مستعار من العصور الوسطى. فقد استوحاها برغمان من لوحة جدارية رسمها ألبرتوس بيكتور في القرن الخامس عشر، حيث يظهر فيها الموت وهو يلعب الشطرنج. ويمكن تفسير لعبة الشطرنج على أنها رمزية لموقف بلوك: قوتان تواجهان بعضهما البعض، ويبدو ذلك واضحًا حت في معارضة الألوان. وفي المشهد الأول، يجد الموت نفسه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باللون الأسود. ليس فقط من خلال اعتماد بيادق سوداء، ولكن أيضًا من خلال طائر أسود، وهو نوع من العبور الرمزي للموت. ولكن اللعبة تمثل إجابة لسؤال كيفية التعامل مع الموت.

في النهاية، يُعتبر فيلم The Seventh Seal تحفة فنية فلسفية تستحق المشاهدة والتأمل في معانيها العميقة. يمكن أن يوفر الفيلم تجربة مثيرة للتفكير ويترك المشاهد متسائلًا عن العالم والحياة والموت.
المراجع:


-Lindelöf, Ludvig, Gyden tiger och människora pratar.

https://medievalhollywood.ace.fordham.edu/items/show/85

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


سينما ومسرح

User Avatar

أنوار سلمان

حاصلة على درجة الماجستير في التاريخ، مهتمة بالقراءة والبحث العلمي.


عدد مقالات الكاتب : 4
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق