Ad
هذه المقالة هي الجزء 14 من 14 في سلسلة تاريخ مغامرة العرب في بلاد الأندلس

طوال القرون الماضية ظل اتهام المسلمين بسرقة الحضارة الغربية، وبالسرقة عمومًا. حتى أنهم لقبوا قديمًا من قبل الأوروبيين بـ “Saracenes”، وهي كلمة لم تعد مستخدمة في عصرنا الحالي، رجح البعض اشتقاق تلك الكلمة من السارقين. وظل المسلمون ينادون بذلك اللقب بدلًا من أن ينادوا فقط بالمسلمين “Muslims”. ولكن ماذا لو كان العكس صحيحًا، وكانت الحضارة الغربية هي من سرقت بالفعل من الحضارة الإسلامية. فهل تأثر الغرب بعمارة الحضارة الإسلامية؟

ربما قد سمعت عن العصور المظلمة التي عانت منها الدول الأوروبية. ولكن هل سمعت بأن العصور الأوروبية المظلمة هي ذاتها العصور الذهبية الإسلامية. خاصة في كلٍّ من إسبانيا وصقلية، كما ذكر المهندس المعماري الإنجليزي كرستوفر رن. قد كان العالم الإسلامي رائدًا في كافة المجالات، مثل الأدب، والطب، والهندسة، والعمارة، ومجالات أخرى لا عد لها ولا حصر. وكانت العمارة في الشرق في غاية التميز والإبداع، وكانت كذلك دقيقة في التفاصيل، ثابتة في التشييد. ولذلك أثبتت العمارة في الشرق جدارتها حتى يومنا الحالي في العديد من البنايات الشهيرة حول العالم.

كيف انتقلت الحضارة الإسلامية إلى الغرب؟

وصول الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

تميزت العمارة العربية والإسلامية بدقة الأشكال الهندسية المكوّنة لمبانيها، وكذلك تعقيد تركيبها وتشكيلها لأسطح كنائسها ومسجادها. وأثرت العمارة العربية قديمًا في القوط ومن ثم الأوروبيين والأمريكيين، ولكن كيف انتقلت العمارة من الشرق إلى الغرب؟ لا شك أن الأمويين كانوا بوابة الغرب على الشرق بداية من إسبانيا، حيث نقل المعماريين والعلماء، وكذلك الأدباء ثقافتهم إلى الأندلس. إذ كانت الأندلس تحت الحكم الإسلامي لمدة 800 عام. لم تكن تلك القرون بالبسيطة، ولم تمر مرور الكرام، بل أثرت وتأثرت، مما أدى إلى تناغم بين الشرق والغرب في العديد من المجالات. وكان أحد أبرز مظاهر التأثر والتي لازالت قائمة حتى يومنا هذا هي العمارة.

نقل المعماريون العرب الأشكال المختلفة للأقواس، كالقوس المدبب المستخدم في مسجد قبة الصخرة، والذي تأسس في عهد عبدالملك بن مروان في الدولة الأموية. ولم يكن القوس المدبب وحده ما تم نسخه، بل العديد من الأقواس وأشكال القباب وتركيبات الأسقف. وكان التأثير الأكبر في عهد دولة عبدالرحمن الداخل، والتي حظت فيها الأندلس بلقب العصر الذهبي. إذ انتقلت أساليب العمارة من إسبانيا إلى جنوب فرنسا، كما في بعض الكنائس الكاثوليكية والأضرحة. ويذكر كذلك في التاريخ أن الملوك الإسبان ذاتهم، كانوا يستعملون البنائيين المسلمين والمعماريين لتشييد قصورهم، مما أبقى على المدجنين حتى بعد أن انتهى الحكم الإسلامي لإسبانيا. وكان لاستعانتهم بالبنائيين المسلمين دليلًا واضحًا على تأثر الغرب بالحضارة والعمارة الإسلامية. وكذلك ثقتهم في جودة صنيعهم.

دور مدينة طليطلة في نشر الحضارة الإسلامية

وكانت طليطلة هي أول مدينة إسبانية يقوم القشتاليين باستعادتها عام 1085م، وأصبحت تستقطب العلماء والفلاسفة من كل مكان. حيث اشتهرت طليطلة في تلك الفترة بترجمة العديد من المخطوطات الإغريقية التي ترجمها وحافظ عليها المسلمون في عصرهم الذهبي إلى العربية ترجمةً إلى الإسبانية واللاتينية. فكانت طليطلة سبيل لاستعادة العلم، وتطوير أوروبا بعد ما عانته من عصور مظلمة. كما تُرجمت المخطوطات والابتكارات الإسلامية والتي توصل إليها العلماء المسلمين في مجالات مختلفة.

دور الحروب الصليبية في انتقال الحضارة الإسلامية

كان كذلك للحروب الصليبية دورٌ في نقل أساليب العمارة والبناء إلى أوروبا بعد عودة الحملات الصليبية، وما كان مثيرًا للسخرية. هو تسميتهم للمسلمين في تلك الفترة بـ “Saracenes”، وهي وصف ساخر مشتق من الكلمة العربية سارقين. ولم تكن الحروب فقط هي من نشرت أساليب العمارة الإسلامية والعربية في أوروبا، ولكن كان للتجارة أثرٌ في تبادل الثقافات. فكانت الموانئ بين مصر وبلاد الشام والعراق وإيطاليا شاهدة على نقل الحضارة العربية والإسلامية إلى بلاد الغرب.

كيف وصلت العمارة الإسلامية إلى أمريكا الشمالية؟

وبعد أن انتقلت الأساليب المعمارية إلى دول أوروبا، وخاصةً إلى إسبانيا، انتقلت إلى أمريكا الشمالية عن طريق الإسبان المهاجرين إلى المكسيك في نهاية القرن 15. وبعد ذلك في القرن 18 و19 إلى كاليفورنيا وأريزونا، ولكن تلك المرة عن طريق البعثات الكاثوليكية التي أرسلت من إسبانيا. وحتى يومنا الحالي فإن أسس العمارة الإسلامية التي سميت بشكلٍ خاطئ ومضلل باسم الأساليب القوطية، مؤثرة في العمارة الغربية. ليس فقط في المنشآت الدينية والأضرحة، بل كذلك في الجامعات العالمية المرموقة. ومن الجدير بالذكر أن العديد من المعماريين في الغرب لا زالوا يعترفون بفضل العمارة الإسلامية القديمة على العمارة في الماضي والحاضر.

ما هي أشهر المعالم التي تأثرت بأساليب العمارة الإسلامية؟

تميزت العمارة القوطية الحديثة ببعض السمات التي كانت نشأتها الشرق في الأساس، وكان من أبرز تلك السمات هي القوس المدبب. والذي ظهر لأول مرة في مسجد قبة الصخرة قبل أن يتم نقل ذلك الأسلوب إلى أوروبا. وهناك القوس الثلاثي، والذي تبنته القوطية كدلالة على الثالوث المقدس في كنائسها وأضرحتها. وعلى النقيض كانت كنيسة آيا صوفيا في تركيا ذات أقواس مستديرة، وتحولت بعد ذلك لمسجد في العهد العثماني. مما يؤكد على أن الأقواس المدببة ذات أصل عربي إسلامي.

ولا ينكر مهندسو أوروبا في يومنا الحالي أن الأقواس المدببة الظاهرة في الكنائس والأضرحة والعديد من الأبنية الأوروبية اليوم، ذات أصل إسلامي. كما تميزت كذلك بارتفاع أبنيتها وقبابها، وأعمدتها الشاهقة صغيرة القطر، على خلاف الأساليب القوطية القديمة، فهل يحق للعالم نسب تلك الأساليب للقوط. مع العلم أنها ظهرت في منشآتهم في القرن 10 الميلادي، أي بعد أن استخدمها العالم الإسلامي أولًا؟

القوس الدائري - القوس المدبب
القوس الدائري – القوس المدبب
مسجد قبة الصخرة
القوس المدبب – قبة الصخرة

كتب كرستوفر رن في محاولته لإثبات أصل العمارة الإسلامية خلفًا لوالده رن، حيث كان رأيه أن تلك التسمية الخاطئة تظلم العمارة الإسلامية، والتي يرى أنها أتت نتيجة لابتكار المسلمين مثلًا للأشكال الدائرية للأعمدة والأسقف، مخالفة لشكل الصليب المسيحي، والأساليب اليونانية التي اعتبرها المسلمون وثنية. كما اهتموا بالتزيين عن طريق الخطوط والأشكال الهندسية، لا الرسومات والمنحوتات التي كانت تميز الكنائس مثلًا. فكان من وجهة نظره أن قيام المسلمين بالمبادرة بإنشاء المساجد في كل مدينة يحكمونها قد ساهم في وضع بصمتهم المعمارية المميزة والمخالفة. وقد استعملها القوط بعدهم في أعمدتهم المتماثلة وأسقفهم الدائرية.

الأسقف والقباب

استلهمت أوروبا طرق بناء الأسقف والقباب من مصر وسوريا، حيث كانت المواد المستخدمة للأسقف كالرخام مثلًا شحيحة بسبب الحرب. فاستخدموا مواد أقل في الوزن لتساعد في تصميم الأسقف المرتفعة. وبعد أن انتهت الحروب الصليبية، أخذوا معهم ذلك الأسلوب الذي وجدوه فعالًا في بناء أسقف للكنائس بإتقانٍ وكفاءة عالية. وكان رأي رن في الأقواس المدببة، أنها أكثر ثبات عن تلك المدورة، وأنها تحتاج لأحجار أقل لتثبيت البناية، كما أنها تستطيع تحمل طبقة أخرى من الحجارة. فكان من أشهر الأماكن المبنية على الطراز الإسلامي هي تلك في فيينا وسانت ستيفن، وكاتدرائية ستراسبورغ بارتفاع عمودي. والتي بنيت بسرعة وارتفاع أشهق من تلك التي بنيت على الطراز الروماني الأفقي، والثقيل في تركيبه وبناءه.

كاتدرائية ستراسبورغ
القوس المدبب – كاتدرائية ستراسبورغ

مسجد قبة الصخرة و العمارة الغربية

ويعتبر مسجد قبة الصخرة رمز للهيمنة الإسلامية في القدس، حيث كان تصميم المسجد مختلفًا عن باقي تصاميم المنشآت الدينية. فكان القوس المدبب والقوس الثلاثي من أهم السمات الملحوظة في هندسة المسجد، والتي أثرت بشكلٍ كبير في العمارة حول العالم. ومن ثم أنشئت العديد من الكنائس والأضرحة على تلك الشاكلة، بل وبالعكس قامت الحضارة المسيحية بالتطوير والابتكار باستخدام تلك الأسس المستقاة من الحضارة الإسلامية. وأبدع المعماريون في استخدام أساليب وأنماط الهندسة التي تعلموها في الشرق الأوسط، وشيّدوا كاتدرائيات في غاية الجمال. ومن الأمثلة على ذلك كاتدرائية نوتردام في باريس.

القوس الثلاثي