Ad
هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لا يخفى على أحد دور الموسيقى كأداة للترفيه والمتعة وكناتج ثقافي وجمالي، لكنها أيضًا جزءٌ لا يتجزأ من حياة المجتمع الذي تنشأ فيه وتتوجه إليه. تساهم الموسيقى في تشكيل سلوكنا الاجتماعي والأخلاقي وفي التأثير عليه وتغييره، كما تؤثر على نظرتنا للهوية والدين والسياسة. الموسيقى قادرة أيضًا على توحيد الحشود وتحريكها وإثارة الحماس فيها. من هنا، يظهر دور الموسيقى الاجتماعي والسياسي. فكيف يمكن وصف علاقة الموسيقى بالسياسة؟ وكيف يتم استخدام الموسيقى في خدمة البروباغندا؟

كيف رأى الفلاسفة علاقة الموسيقى بالسياسة؟

لطالما شكّلت الموسيقى مادة دسمة للنقاش الفلسفي، وقد كتب الفلاسفة منذ القِدم عن السلطة والقوة التي تمتلكها الموسيقى، ممّا يمهّد لدورها في السياسة.

لعلّ أفلاطون من أوائل الفلاسفة الذين نسبوا للموسيقى قوة التأثير، فقد آمن أفلاطون أن الموسيقى تمتلك “تأثيرًا على الروح”، وصنّف الموسيقى بين “الموسيقى الجيّدة” و”الموسيقى السيئة”. (1) كما اعتبر أنه يجب إتقان الموسيقى في سبيل خدمة الشجاعة والفضيلة. وكانت الموسيقى حاضرة في تصورّه للمدينة الفاضلة. كما لأفلاطون كذلك لأرسطو، تُعتبر الموسيقى أداة مهمة في تعليم الأطفال وتثقيفهم أيضًا. (2)

في عصر التنوير، كتب الفيلسوف جان جاك روسو عن دور الموسيقى في السياسة، فقد ربط بين الموسيقى واللغة، والمشاعر التي تكمن في المجتمع وتحدّد العلاقات فيه. كذلك ركز روسو على الجانب العاطفي في العلاقات الاجتماعية، وقدرة الموسيقى على الإقناع بأيديولوجيات سياسية، بدون استخدام القوة. (3) ويذكر روسو الأغنية السويسرية التقليدية “ranz des vaches”، التي منعت السلطات السويسرية بثها أو غناءها أمام الجنود السويسريين في القتال، لأنها تدفعهم غالبًا إلى البكاء والرغبة بالعودة إلى وطنهم. (2)

وقد يكون الفيلسوف الألماني “ثيودور أدورنو” أحد أكثر الفلاسفة الذين درسوا تأثير الموسيقى على السياسة وتأثرها بها. فقد كان ناقدًا شديدًا للرأسمالية، واعتبر أن الموسيقى أصبحت بخدمة الإنتاج. ورأى أدورنو أن إنتاج موسيقى شعبية بمعايير شبه موحّدة بهدف زيادة نسب الاستماع إليها وبيعها، يسفّه مع الوقت قيمة الموسيقى وقدرة المستمعين على تقدير واستساغة قيمتها الفنية. إن الموسيقى الجيدة بالنسبة لأدورنو هي القادرة على إثارة الحس النقدي عند المستمع، بحيث تحثه على عيش حياة تحمل قدرًا أكبر من الحرية والاستقلالية. (4)

الموسيقى في خدمة الأنظمة السياسية:

تُدرك الأنظمة والأحزاب السياسية أهمية الموسيقى وتأثيرها على الشعوب، وهي غالبًا تستخدمها في سبيل بث الأيديولوجيات التي تؤمن بها.

في عصر النهضة في أوروبا وتحديدًا في إيطاليا، نشأ تيار موسيقي أوبيرالي يهدف إلى وصف وشرح الأدوار والعمليات السياسية، والتعبير عن استدامة وشرعية المجتمع المنظم. وبعد النجاح الكبير لهذا التيار الموسيقي في السياسة، استخدمته الكنيسة، واستبدلت به تعدد الأصوات في الموسيقى (polyphony) الذي كان معتمدًا سابقًا.

في أمثلة أكثر حداثة، أسّس الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية الفرق الموسيقية لتحريض العسكر وتشجيعهم معنويًا في القتال. كذلك استخدم النازيون أغاني ألمانية شعبية في خدمة بروباغندا الحزب النازي. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تولّى مجلس الاستراتيجية النفسية التابع لوكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة الأميركية مسؤوليات عدة، كانت إحداها الإشراف على بث ونشر الأغاني القومية. (5)

بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، استغلت العديد من الأنظمة السياسة في دول أفريقية، مثل جمهورية زائير وكينياـ الموسيقى لجمع تأييد الشعوب حولها. في جمهورية كونغو الديمقراطية، تشكل موسيقى ال”ليبانجا – Libanga” جزءًا مهمًا من الموسيقى التقليدية والإرث الفني السياسي، وهي موسيقى قائمة على تمجيد القادة السياسيين والحشد حولهم.

يمكن أيضًا ذكر العديد من الأغاني العربية في هذا السياق، لعلّ أشهرها هي أغاني المطربة أم كلثوم للملك فؤاد والملك فاروق والرئيس جمال عبد الناصر.

حتى الآن، تستخدم الموسيقى في الكثير من الدول لمرافقة الحملات الانتخابية، وهي تهدف للتأثير عاطفيًا على الناخبين، وإثارة صور وروابط معينة بحسب اختيار الموسيقى.

الموسيقى في الأناشيد الوطنية

قد تكون الأناشيد الوطنية من أبرز أوجه استخدام الموسيقى في السياسة. فهي لا تجسّد نظامًا سياسيًا فقط، بل هوية وطنية وثقافية كاملة.

على الرغم من بساطة أنغامها وكلماتها عادةً، تحتل الأناشيد الوطنية مرتبة هامة، تمامًا كالأعلام الوطنية، وهي تحظى باحترام عال. وذلك لأن النشيد الوطني لا يقتصر على كونه موسيقى وكلمات فقط، بل هو هوية جامعة قادرة على خلق شعور بالانتماء والقوة، يرافق الشعوب في كل مناسباتها الهامة.

تناولنا في هذا المقال جانبًا واحدًا من دور الموسيقى في السياسة. فرغم استخدامها من قبل الأنظمة السياسية لنشر البروباغندا الخاصة بها، تستخدم الموسيقى أيضًا في الكثير من الأحيان كأداة مقاومة في وجه الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. وتعرضت في الكثير من الأحيان للقمع والمنع من النشر. ويدل كل ما سبق على العلاقة الوطيدة التي تجمع الموسيقى بالسياسة، وتأثيرها الضخم على المجتمع بكافة عناصره.

المصادر
1- francemusique.fr
2- cairn.info
3- Jstor.org
4- Coursera
5- Wiley Online Library

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


سياسة تاريخ فنون موسيقى

User Avatar

Riham Hamadeh


عدد مقالات الكاتب : 49
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق