ظلت ليزرات الأشعة السينية مدة طويلة مادة خصبة للخيال العلمي. ولم يبدأ أول جهاز منها بالعمل لغرض علمي إلا قبل اثني عشرة سنة، وذلك في جامعة ستانفورد باعتبارها مرفقا تابعا لمكتب العلوم في وزارة الطاقة الأمريكية. ويستمد هذا الجهاز، المعروف باسم منبع الضوء المترابط للمسرع الخطي (LCLS) طاقته من أطول مسرع جسيمات خطي في العالم، في مختبر المسرع الوطني SLAC. وقدي جري بواسطته تكوين حالات غريبة للمادة لم تحصل في أي مكان أخر من الكون، وذلك بتعريض الذرات والجزيئات والجوامد لنبضات أشعة سينية ذات شدة عالية. فماهو هذا الجهاز؟ وما هي خصائصه؟
محتويات المقال :
ألية عمل الأشعة السينية
إذا وضعنا ذرة أو جزيئا أو حبيبة غبار في وجه أقوى ليزر للأشعة السينية في العالم، فإنه لن يكون أمامها أي فرصة للنجاة. إذ تصل درجة حرارة تلك المادة المضاءة بالليزر إلى أعلى من مليون “كلفن” كما في حالة الشمس. وذلك في غضون أقل من جزء واحد من تريليون جزء من الثانية. وعلى سبيل المثال، تفقد ذرات النيون الخاضعة لمثل هذه الظروف الاستثنائية جميع إلكتروناتها العشرة سريعا وبمجرد خسارتها لغلافها الإلكتروني الواقي تنفجر مبتعدة عن الذرات المجاورة. ويمثل مسار حطامها مشهدا فاتنا جدا للفيزيائيين.
إن ما يجعل هذه العملية مدهشة هو أن ضوء الليزر يطرد إلكترونات الذرة من الداخل إلى الخارج. لكن الإلكترونات, التي تحيط بنواة الذرة على شكل طبقات مدارية شبيهة بطبقات البصل، لا تتفاعل جميعا بتجانس مع حزمة الأشعة السينية. لأن الطبقات الخارجية شفافة تقريبا لهذه الأشعة. ولذا فإن الطبقة الداخلية هي التي تقع تحت وطأة الإشعاع، تماما كما تسخْن القهوة في الفنجان الموضوع في فرن موجات ميكروية قبل الفنجان بمدة طويلة_ كما يتضح فى الشكل المقابل. فإن الأشعة السينية تقوم بطرد إلكترونات المدار الداخلي K _. وينطلق الإلكترونان الموجودان في تلك الطبقة إلى الخارج مخلفين وراءهما حيزا فارغا فتغدو الذرة جوفاء. وخلال بضع فيمتوثوان، تمتص إلكترونات أخرى إلى الداخل لتحل محل الإلكترونات المفقودة. وتتكرر دورة تكوين التجويف الداخلي وملء الفراغ حتى لا يتبقى أي إلكترون حول الذرة. وتحدث هذه العملية في الجزيئات وفي المادة الصلبة أيضا.[1]
لكن تلك الحالة الغريبة لا تدوم إلا بضع فيمتوثوان. وفي الجوامد، تتفكك المادة إلى حالة متأينة, أي إلى بلازما كثيفة وساخنة لا توجد عادة إلا في ظروف استثنائية من مثل تفاعلات الاندماج النووي أو في مراكز الكواكب الضخمة. وعلى كوكب الأرض لا مثيل للحالة المتطرفة الخاطفة التي تنشأ عند تفاعل الذرة مع حزمة ليزر الاشعة السينية.
إحياء المسرع الخطي LCLS وفتح أفاق جديدة
في الواقع استمد أول ليزر أشعة سينية طاقته من اختبار لقنبلة نووية تحت الأرض. فقد صنع ذلك الليزر من أجل مشروع سري اسمه إكسكاليبر Excalibur. ونفذه مختبر <لورنس ليفرمور> القومي. وكان ذلك الجهاز واحد من مكونات مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق <رونالد ريكان> والمسماة بحرب النجوم في ثمانينات القرن الماضي. حيث كان الغرض منها أن تعمل على إسقاط الصواريخ والأقمار الصناعية.[2]
إن الليزر المعروف بمنبع الضوء المترابط في المسرّع الخطي(LCLS) الموجود في مركز مسرّع ستانفورد الخطي (SLAC). يوقظ ذكريات منظومات “حرب النجوم” المضادة للصواريخ تلك.[3] فقد قامت جامعة ستانفورد ببنائه كأطول مسرع إلكترونات في العالم. ويبلغ طول ذلك المسرع ثلاثة كيلومترات، ويبدو من الفضاء كإبرة موجهة إلي قلب الحرم الجامعي. إن ذلك المسرع الخطي مدين في نشأته للعديد من الإكتشافات وجوائز نوبل التى أبقت الولايات المتحدة فى طليعة فيزياء الجسيمات الأولية طوال عقود من الزمن. ومنذ إعادة إناطة مهام جديدة في الشهر 2009/10. غدت بالنسبة إلى فيزياء الذرة والبلازما والكيمياء وفيزياء المادة الكثيفة وعلم الأحياء، ما يمثله المصادم الهادروني الكبير (LHC). ويمكن لنبضات الأشعة السينية لمنبع الضوء المترابط LCLS أن تكون بالغة القصر ( بضع فيمتوثوان) إلي حد أنها تجعل الذرات تبدو جامدة. وهذا ما يمكن الفيزيائيين من رؤية التفاعلات الكيميائية أثناء حدوثها. وتلك النبضات شديدة السطوع أيضا، ولذا تسمح بتصوير البروتينات والجزيئات الحيوية الأخرى التي كانت دراستها شديدة الصعوبة.
ظلال الذرات وتصوير المسافات الضئيلة
يدمج ليزر الأشعة السينية أداتين من الأدوات الرئيسية التي يستعملها فيزيائيون اليوم التجريبيون. وهما منابع ضوء السنكروترونات Synchrotrons والليزرات الفائقة السرعة Ultrafast Lasers. أما السنكروترونات، فهي مسرعات مضمارية الشكل تدور الإلكترونات ضمنها وتصدر أشعة سينية تلج أجهزة قياس موضوعة حول محيط الآلة على هيئة دولاب ذي قضبان منبثقة من مركزه. وتستعمل أشعة السنكروترون السينية لدراسة أعماق الذرات والجزيئات والنُظم النانوية. فضوء الأشعة السينية مثالي لهذا الغرض، لأن أطوال موجاته من مقاس الذرة. [4] ولذا تولد الذرات ظلالا ضمن حزمة الاشعة السينية. وإضافة إلى ذلك، يمكن تعديل الأشعة السينية بحيث ترى أنواعا معينة من الذرات. كذرات الحديد فقط مثلا، وتبين مكان تموضعها ضمن الجسم الصلب أو ضمن جزيء كبير كجزيئات الهيمو جلويين (الحديد هو المسؤول عن اللون الآحمر للدم).
لكن ما تعجز عنه الأشعة السينية هو اقتفاء أثر الحركة الذرية ضمن الجزيء أو الجسم الصلب. فكل ما نراه حينئذ هو غشاوة باهتة. لأن النبضات ليست قصيرة ولا ساطعة بقدر كاف. ولا يمكن للسنكروترون تصوير الجزيئات إلا إذا كانت مصطفة على هيئة بلورات، حيث تقوم قوى موضعية بإبقاء الملايين منها في صفوف منتظمة.
وفيما يخص الليزرات، فإن ضوءها أشد سطوعا بكثير من الضوء العادي لأنه ضوء مترابط. إن الحقل الكهرومغناطيسي في الليزر ليس متموجا كسطح البحر الهائج، بل يهتز بنعومة وانتظام متحكم فيهما. ويعني الترابط ان الليزرات تستطيع تركيز طاقة هائلة ضمن بقعة صغيرة. وأنه يمكن إشعالها وإطفاؤها في برهة قصيرة من رتبة الفيمتوثانية.
التباين بين الأشعة السينية والليزرات العادية
وتعمل الليزرات العادية عند أطوال موجات الضوء المرئي والضوء القريب منه. وتلك أطوال أكبر بألف مرة من أطوال الموجات الضرورية لتمييز الذرات إفراديا. وعلى غرار رادار الطقس الذي يستطيع رؤية عاصفة مطرية دون تمييز قطرات المطر، فإن الليزرات العادية تستطيع رؤية مجموعة متحركة من الذرات دون تمييزها إفراديا. فمن أجل تكوين ظل حاد للجسم المرصود يجب أن يكون طول موجة الضوء صغيرا ومن رتبة مقاس ذلك الجسم على الأقل. ولذا نحتاج إلى ليزر أشعة سينية. وباختصار يتغلب ليزر الأشعة السينية على الصعوبات والسلبيات التي تمثلها الأدوات الشائعة لتصوير المادة عند المقاسات الشديدة الضآلة. لكن صنع جهاز من هذا النوع ليس بالمهمة السهلة.
بدت فكرة بناء ليزر أشعة سينية غريبة في وقت من الأوقات. باعتبار أن صنع أي ليزر أمر بالغ الصعوبة بحد ذأته. فالليزرات العادية تنجح في عملها لأن الذرات تشبه البطاريات الصغيرة. فهي تمتص مقادير قليلة من الطاقة وتخزنها ثم تصدرها على شكل فوتونات، أى جسيمات ضوء. وهي تحرر طاقتها تلفائيا عادة, إلا أن <أينشتاين> كان قد اكتشف فى بداية القرن العشرين طريقة لقدح تحريرها من خلال عملية تسمى الاإصدار المحرض Simulated emission. وإذا جعلتَ الذرة تمتص مقدارا معينا من الطاقة, ثم قذفتها بفوتون يمتلك مقدارا مماثلا من الطاقة، أصدرت الذرة الطاقة الممتصة ، مولدة نسخة من الفوتون. وينطلق الفوتونان (الأصلي والمستنسخ) ليحفزا تحرير طاقة من زوج من الذرات الأخري، ويتكرر ذلك مراكما جيشا مستنسخا في تفاعل متسلسل أسي. والنتيجة هى حزم ليزرية.
لكن حتي عندما تكون الظروف ملائمة، فإن الذرات لاتستنسخ فوتونات دائما. فاحتمال إصدار ذرة معينة لفوتون عند قذفها بفوتون آخر، قليل. وثمة فرصة أكبر لها لتحرير طاقتها قبل حدوث ذلك. وتتغلب الليزرات العادية على هذه المحدودية بضخ طاقة تملأ الذرات، مع استعمال مرايا ترسل الضوء المستنسخ جيئة وذهابا ليتلتقط فوتونات جديدة.
أما في ليزر الأشعة السينية، فيغدو تحقيق كل خطوة من هذه العملية أشد صعوية بكثير. ففوتون الأشعة السينية يمكن أن يمتلك طاقة أكبر بألف مرة مما يمتلكه الفوتون المرئي. لذا على كل ذرة أن تمتص طاقة أكبر بالف مرة. ولا تحتفظ الذرات بطاقاتها مدة طويلة. إضافة إلى أنه من الصعب الحصول على مرايا عاكسة للأشعة السينية. وعلى الرغم من أن هذه العوائق ليست جوهرية، فإن ثمة حاجة إلى طاقة هائلة لتكوين الظروف الليزرية.
أجزاء المسرع الخطي وآلية عمله
يعد منبع الضوء المترابط LCLS أقرب شئ تصنعه البشرية لمدفع سفينة فضاء ليزري ويستمد هذا الجهاز طاقته من مسرع جسيمات خطي. وهو نسخة مضخمة من المدفع الإلكتروني المستعمل في جهاز التليفزيون القديم الذي يطلق إلكترونات بسرعات قريبة من سرعة الضوء والمموج هو أساس هذا الاإختراع. إذ يجعل اللكترونات تسلك مسارا منعرجا. وكلما غيرت الإلكترونات اتجاهها في، أصدرت إشعاعا يتألف في هذه الحالة من أشعة سينية. ونظرا لأن الإلكترونات تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الأشعة السينية التي تصدرها، فإن هذه العملية تغذي نفسها وتنتج حزمة استثنائية بشدتها ونقائها.[5]
مكونات الجهاز:
- ليزر التشغيل: يولد ليزر التشغيل نبضات ضوء فوق بنفسجي تقتلع نبضات من الإلكترونات من المهبط.
- المسرع: تسرع الحقول الكهربية الإلكترونات لتصبح طاقاتها 12 بليون إلكترون فولت. ويستعمل في منبع الضوء المترابط LCLS هذا كيلو متر واحد من الطول الإجمالي للمسرع SLAC. أي ثلثه فقط.
- ضاغط الحزمة 1: تدخل النبضات الإلكترونية ممرا منحنيا ذا شكل “S” مخفف يقوم بتسوية نسق الإلكترونات ذات الطاقات المتباينة.
- ضاغط الحزمة2: بعد جولة من التسارع. تدخل النبضات ضاغطا آخر أطول من الضاغط الأول. لأن طاقة الإلكترونات الآن أكبر.
- ردهة النقل: تقوم المغانط هنا بتكبير أو تصغير النبضات.
- ردهة المموج: تسبب مجموعة مغانط ذات قطبييات متناوبة حركة متعرجة للإلكترونات، محرضة إياها علي توليد حزمة أشعة سينية ليزرية.
- استخلاص الجزمة: يسحب مغنطيس قوي الإلكترونات ويدع الأشعة السينية تكمل طريقها.
- محطة منبع الضوء التجريبية: تقوم الأشعة السينية بعملها. حيث تضرب المادة وتقوم بمهمة التصوير.
المصادر:
1- Interaction of X-ray with Atoms
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :