Ad

إذا نظرت إلى أحياء مدينتك سترى الخرسانة في كل مكان من حولك، فهي مادّة البناء الأساسية لمعظم المنشآت الآن. لكنها لم تكن كذلك في بداية الأمر، فقد بدت ثوريةً للغاية قبل الميلاد في معبد «البانثيون-Pantheon» عندما بناه الرومان. منذ ذلك الحين وإلى اليوم يستمرّ تطوّر الخرسانة لتواكب التغيُّرات المستمرّة في صناعة البناء. ويطوّر العلماء اليوم مواد بناء غريبةً وغير متوقّعة من قبل، مثل الأسمنت الصالح للأكل، والخرسانة الشفافة. وتحدِّث الخرسانة الشفافة ثورةً في صناعة الإنشاءات، وعلى الرغم من أنها مادة جديدة نسبيًا إلا أنها تكتسب شعبيةً واسعةً. ويرجّح أن تستخدم في المزيد من التطبيقات مع استمرار تطوّرها.

ما هي الخرسانة الشفافة

تعد «الخرسانة الشفافة- Translucent concrete» نوعًا من أنواع الخرسانة التي تسمح بمرور الضوء من خلالها مع الحفاظ على الخصوصية، وذلك بفعل الألياف البصرية المدمجة بها. تعرف أيضًا باسم الخرسانة شبه الشفافة، أو الخرسانة الناقلة للضوء.[1]

تُدعى الألياف البصرية أيضًا باسم «الألياف الضوئية-Fiber optic» وهي عبارة عن ألياف رقيقة ومرنة. تصنع من الزجاج أو البلاستيك لنقل البيانات عبر مساحات طويلة، وتنقل الإشارات الضوئية وتحوّلها إلى إشارات كهربائية في نهاية الاستقبال. لا يتعدّى سمكها سمك الشعرة، وتُجمّع عادةً العديد من الألياف في حزم مع بعضها. وتستخدم على نطاق واسع في الاتصالات السلكية واللاسلكية، والإنترنت، والمعدات الطبية، وأجهزة الاستشعار. مثلًا تستخدم مستشعرات الألياف البصرية لمراقبة السلامة الإنشائية للجسور والبنى التحتية الأخرى.[2]

خرسانة شفافة Translucent concreteفي الظلام.

ترتَّب الألياف البصرية في جميع أنحاء الخرسانة مما يسمح للضوء بالانتقال عبرها من طرف إلى آخر. فيظهر نمط معيّن من الضوء على سطح الجدار اعتمادًا على بنية الألياف المتواجدة فيه.[1]

متى بدأت فكرة الخرسانة الشفافة لأوّل مرة؟

يعود تاريخ الخرسانة الشفافة إلى أوائل القرن ال20، لكنها اكتسبت اهتمامًا كبيرًا في السنوات الأخيرة كمادة بناء مستدامة. ذكر مفهوم الخرسانة شبه الشفافة لأوّل مرّة في براءة اختراع قدّمها الألماني Paul Liese في مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع عام 1922. وتعلّقت براءة الاختراع بألواح أو كتل شفافة للجدران والأسقف الخرسانية. طوّر لاحقًا «جيمس هيل- James N.Hill » طريقةً لإنشاء لوح شفاف عام 1965.ثم استمرّت صناعتها بالتطوّر، حتى وصلت إلى نتيجة اليوم.[3]

صناعة الخرسانة الشفافة

تتشابه عملية صنع الخرسانة الشفافة مع الخرسانة العادية، مع فارق انتشار الألياف البصرية في جميع أنحاء الخليط. وتصنع عادةً من الأسمنت، والرمل، والماء، والركام، والملدّنات، والألياف البصرية الناقلة للضوء. يزداد انتقال الضوء بازدياد حجم الألياف POF «بولي ميثل ميثاكريليت-Poly methyl methacrylate» وقطرها. وتنتج الشركات الخرسانة الشفافة بإضافة (1-5)% من الألياف البصرية، ويستخدم ركام ناعم فيها بدلًا من ركام خشن. [1][4]

عندما يصطدم الضوء الطبيعي أو الاصطناعي بالألياف ينتقل من خلال الخرسانة، مما يجعلها مشعةً. وتوضع الألياف بعناية باليد إما طبقةً بطبقة، أو بشكل فردي ومبعثرة وذلك بالاعتماد على مظهر المنتج النهائي.[5]

فوائد عديدة في صناعة البناء

تجلب الخرسانة الشفافة عدّة فوائد على صناعة البناء والتشييد، ومنها:

  • الجمالية، يمكن استخدامها كميزة معمارية لخلق منظر جمالي مريح وفريد للمبنى. وقد تستعمل في الديكور الداخلي لأجزاء محدّدة من الفراغات.
  • الرصد الإنشائي، يمكن دمج الألياف الضوئية في الخرسانة للكشف عن الإجهاد الإنشائي، ويؤدّي ذلك إلى الكشف المبكّر عن المشاكل المحتملة.[6]
  • انخفاض الوزن، الخرسانة الشفافة أخفّ من الخرسانة العادية، والذي يؤثّر بدوره على الوزن الذاتي للهيكل، مثلًا تنخفض قيمة الحمولة الميتة. ويقصد بالحمولة الميتة في الإنشاء: الأحمال التي تكون ثابتةً نسبيًا مع مرور الوقت، بما في ذلك وزن الهيكل الإنشائي، والجدران، والأبواب.
  • تحسين مقاومة الانضغاط الأولية بنسبة تتراوح بين 10-15% بعد 28 يومًا، في حال استخدام مزيج الألياف البصرية بنسبة 3%. بينما تنخفض مقاومة الانضغاط تدريجيًا مع زيادة الألياف البصرية في المزيج.[4] ويقصد بمقاومة الانضغاط قدرة المادة على مقاومة القوى الضاغطة محوريًا.

تأثيرات على البيئة

تمتلك الخرسانة الشفافة العديد من التأثيرات البيئية التي تجعل منها مادّة بناء مستدامة. إذ تقلّل استهلاك الطاقة لأنها تسمح بمرور الضوء الطبيعي من خلالها، نتيجةً لذلك تقلّ الحاجة إلى استعمال الإنارة الاصطناعية خلال أوقات النهار. وتُصنع من ملاط يتطلّب كمّية مياه أقلّ، ويُنتج نفايات أقل أيضًا. بسبب ذلك ينخفض انبعاث الكربون، وتتحسّن نوعية الهواء بسبب الملوثات الأقل نسبيًا. مما يخلق بيئةً صحيةً أكثر داخل المبنى.[7]

تحديات ومساوئ

تعتبر الخرسانة الشفافة تقنيةً جديدةً نسبيًا، ولا يزال هنالك الكثير من البحوث والتجارب التي يجب القيام بها لفهم كامل خصائصها وتطبيقاتها. وتواجه العديد من الصعوبات والعوائق ومنها:

  • العثور على المواد الصحيحة. يجرّب الباحثون العديد من المواد التي تسمح للضوء بالمرور من الخرسانة، وتحافظ على السلامة الهيكلية لها في نفس الوقت. ويعمل الباحثون اليوم على تطوير الخليط باستخدام مواد نانوية وزجاج بليكسي Plexiglass.
  • الحفاظ على الخصائص الميكانيكية، إذ يمكن أن تتغيّر بإضافة الألياف. على سبيل المثال؛ تمتلك الخرسانة الشفافة مقاومة انضغاط أقل من الخرسانة التقليدية، والتي قد تحد من استخداماتها في تطبيقات معينة.[8]
  • امتصاص الرطوبة، يمكن للخرسانة الشفافة امتصاص الرطوبة، وقد يؤدي ذلك إلى تغيير اللون وغيرها من المشكلات مع مرور الوقت.
  • التكلفة، تتطلب الخرسانة الشفافة تكلفة أعلى لصنعها، بسبب سعر الألياف البصرية المرتفع، وعملية التصنيع الإضافية.
  • التوافر المحدود، لأنها غير متاحة على نطاق واسع، مما يجعل من الصعب الحصول عليها لبعض المشاريع.[6]
  • قيود على التصميم. على سبيل المثال؛ قد تكون كمية الضوء التي تمرّ محدودةً، ويختلف مظهر الخرسانة اعتمادًا على زاوية ورود الضوء. لذلك يجب على المعماريين أخذ هذه العوامل بالحسبان أثناء تصميم المشروع.[8]

مسجد العزيز في أبو ظبي

يحتوي مسجد العزيز في أبو ظبي على عناصر بارزة من الكتابة العربية، تمثّل تهجئة 99 اسمًا للّه من القرآن. وتضيء الكتابة على الواجهة البالغ مساحتها 515 متر مربع في الظلام بفعل الخرسانة الشفافة. حيث تمكّنت الشركة الألمانية LUCEM من تحديد موقع الألياف الضوئية وفقًا للرسومات التي قدّمها المعماريون والخطّاط العربي.

مسجد العزيز في أبو ظبي.

وصبغوا الخرسانة بذات لون الألواح الحجرية المستعملة في أماكن أخرى من واجهة المسجد، حتى تصبح الواجهة متناسقةً. كما صبغوا الألواح الشفافة بالرمل، من أجل منحهم الملمس الصحيح. على الرغم من أن الواجهة تبدو وكأنها مضاءة من داخل المبنى، لكن يتحقق التأثير بالحقيقة بفضل نظام المصابيح المثبّتة داخل تجويف الجدار.[9]

جزء من الكتابة على واجهة مسجد العزيز في أبو ظبي.

مصرف العاصمة في الأردن

سعى مصممو «مصرف العاصمة- capital bank» إلى تغيير النهج التقليدي للمصارف، وإنشاء تجربة تجارية فيه. فاستعاضوا عن طاولات الخدمة وأماكن الانتظار التقليدية بمكاتب فردية، وأماكن استقبال مخصّصة لتلبية احتياجات العملاء. ودمجوا الطبيعة في التصميم عن طريق وضع المكاتب حول فراغ داخلي متأثر بالحدائق اليابانية. أما بالنسبة للمظهر الخارجي، فعادةً ما تتطلب المصارف وجود خصوصية للعملاء، لذلك توضع الفتحات الزجاجية في الحد الأدنى. واختار المهندسون الحجر للإكساء، لكي يتناسب مظهر المصرف مع العمارة المحلية في المنطقة. بينما استخدمت الخرسانة الشفافة لإكساء واجهة الدرج بارتفاع 14م من أجل استكمال فكرة الطبيعة التي تتدفّق عبر الأضواء والظلال. واستخدمت كذلك خرسانة عادية لتغطية الأجزاء غير الشفافة من الواجهة، والتي صنعت بذات الخليط السابق للحفاظ على السطح النهائي متماثلًا ومتناسبًا أيضًا مع لون الحجر المستعمل في باقي أنحاء المبنى.[10]

Capital bank في عمان الأردن.

استخدامات متنوعة في التصميم الداخلي والديكور

تدخل اليوم الخرسانة الشفافة في التصميم الداخلي بكثرة. على سبيل المثال كنيسة St. Andreas في ألمانيا. وفي ردهة Hansa carrée في هامبورغ، ألمانيا. وتنار بألوان مختلفة من للخلف، فيخلق ذلك مظهرًا فريدًا ومميزًا.[11]

كنيسة St. Andreas في ألمانيا.
ردهة Hansa carrée في هامبورغ، ألمانيا.
ردهة Hansa carrée في هامبورغ، ألمانيا.

وصنعت كذلك نجمة متعددة الألوان على الأرض كمشروع فني مشترك في مدينة آوغسبورغ الألمانية.[11]

نجمة من الخرسانة الشفافة في مدينة آوغسبورغ الألمانية.
نجمة من الخرسانة الشفافة في مدينة آوغسبورغ الألمانية.

يبدأ كل ابتكار بفكرة، ونطوّر اليوم ما بدأ به أسلافنا منذ أكثر من ألفي عام. فإلى أين ستقودنا أفكارنا لاحقًا في المستقبل البعيد؟

المصادر

  1. iJRASET
  2. National Library of medicine
  3. Semantic scholar
  4. Research Gate
  5. LUCEM
  6. Research Gate
  7. Research Gate
  8. Semantic scholar
  9. Archdaily
  10. Archdaily
  11. LUCEM

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


هندسة عمارة

User Avatar

Julie Youssef

مهندسة معمارية، أحب الرسم والقراءة


عدد مقالات الكاتب : 54
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق