عندما نذكر العبيد يأتي في مخيلتنا رهطٌ من الأفارقة مكبلين بالأصفاد، يركبون سفن الاتجار بهم بإذلالٍ وانكسار. فقد صورتهم لنا بعض الكتابات كأنهم خلقوا عبيدًا، ولم تكن لهم رغبة في التحرر. بل ينسب فضل التحرر عادة لمن أجبروهم منذ بادئ الأمر على تلك الحياة. ورغم ذلك، فتاريخ العبيد خاصةً عبيد الولايات المتحدة مليء بحالات التمرد والثورات. ورغم تلقيهم للتعنيف الجسدي والنفسي جراء ذلك التمرد، إلا أن حملاتهم المتتالية في الحصول على حريتهم لم تتوقف يومًا. ونجد في تمرد سفينة كريول خير مثالٍ على ذلك.
يتم تصنيف تمرد سفينة كريول على أنه واحد من أشهر حالات التمرد الناجحة، والتي ثابر فيها 135 عبد لاقتناص حريتهم. انطلقت سفينة الكريول في رحلة من رحلاتها المعتادة لتجارة العبيد عام 1841، بدأت مسيرتها من ميناء ريتشموند محملة بـ 103 عبد. وعند مرورها بمدينة هامبتون رودز حمّلت 32 عبد آخرين. إضافة لذلك كان هناك بعض تجار العبيد مع عبيدهم الثمانية، وتبغ مرسل لأجل التجارة وتبادل السلع. إضافة إلى زوجة القبطان وابنته. كان خط سير السفينة يبدأ بريتشموند ليصل إلى نيو أورليانز لإيصال حمولة العبيد كالمعتاد. ولكن شيئًا ما غير مسار تلك الرحلة ومصير من عليها، لم يكن مخطط له. [1]
محتويات المقال :
كيف بدأ التمرد على سفينة كريول؟
في السابع من نوفمبر عام 1841 وبعد حوالي أسبوع من انطلاق الرحلة التجارية تمرد 19 عبدًا على متن سفينة كريول الأمريكية. لم يكن العبيد على سفينة كريول مكبلين كباقي السفن، بل تم الاكتفاء بوضعهم في زنازين داخل المركب واحدة للرجال وأخرى للنساء. حيث دارت مشاورات بين 19 عبدًا حول إمكانية تحررهم، إما الآن أو يبقوا عبيدًا للأبد. ترأس تلك المجموعة عبد يدعى ماديسون واشنطن، حيث كان يرأس مطبخ العبيد. وكان لذلك أفضلية له في استكشاف السفينة بحرية، والوصول كذلك للأسلحة. [2]
بدأت الاشتباكات بين العبيد التسعة عشر وطاقم السفينة بعد أن اكتشف زيفانيا جيفورد الرقيب الأول على متن السفينة واشنطن في قسم النساء. فطالبه بالكشف عن هويته لتعجبه من وجود رجلٍ في سجن النساء الممنوع عليهم. ليجره إلى السطح ويبدأ الاشتباك بينهما فيصاب الرقيب بجروح بليغة ويفر هربًا لتحذير طاقم السفينة. وهنا نادى واشنطن العبيد في الأسفل قائلًا: “هيّا يا رجال، لقد بدأنا الطريق ويجب علينا المضي قدمًا”. [2]
ليصعد 3 عبيد آخرين بقيادة بِين بلاكسميث إلى جون هيويل أحد أشهر تجّار العبيد ويجهزوا عليه. وأصابوا بعدها القبطان وعدد من طاقمه. وجراء ذلك الاشتباك أصيب أحد العبيد بجروح بليغة ليموت بعد ذلك. [1]
ماديسون واشنطن
كان أبرز هؤلاء العبيد هو ماديسون واشنطن، وهو عبد ولد في العبودية وتذوق الحرية للمرة الأولى قبل عامين من حادثة تمرد كريول عندما هرب إلى كندا. التقى واشنطن في طريق هربه بالمناضل الأمريكي روبرت بورفيس، فاستضافه خلال رحلة هربه ليتشاركا الحلم ذاته بالتحرير. افتتن واشنطن بآرائه حول إلغاء العبودية وقانون الإعدام، وألهمته قصص التمرد الناجحة التي حكاها بورفيس كتمرد أميستاد. [2]
كان لقاء واشنطن و بورفيس نقطة تحول أخرى في حياة العبد المحرر، والذي لم يلبث في ذلك الوضع كثيرًا. حيث عاد بحثًا عن زوجته، محاولًا تحريرها كما تحرر هو، ليقع في شباك الحكومة الأمريكية ليصبح بعد ذلك شعلة تمرد كريول. [2]
سيطرة العبيد على السفينة
بعد أن تصاعد التوتر على متن كريول أجبر العبيد مشرف الطاقم ويليام ميرت بالسلاح على الإبحار بهم بعيدًا عن سواحل أمريكا. واحتجزوا القبطان وأفراد عائلته في مقدمة السفينة مع اثنين من العبيد كحراسة لهم. اقترحوا حينها أن يبحر بهم ميرت إلى ليبيريا الواقعة في غرب أفريقيا. ولكن بسبب نقص المؤونة أخبرهم المشرف باستحالة تلك الخطة.[1]
وبعد أن احتدمت النقاشات اقترح بلاكسميث أن يبحروا إلى وجهة ليس للسلطة الأمريكية إمرة عليها. فكانت وجهتهم إلى سواحل الجزر الغربية الهندية الكامنة تحت وصاية الانتداب البريطاني. ولم يكن ذلك الاقتراح فقط لكون جزر الباهاما مستعمرة بريطانية، بل لعلمهم بأن عبيد هيرموسا قد حصلوا على حريتهم في العام السابق بموجب قرار بريطاني. فتنامى الأمل على سفينة كريول، وأبحر العبيد بحثًا عن حريتهم.[1]
ما مصير العبيد على متن السفينة؟
رست السفينة في جزيرة ناسو عاصمة الباهاما، ليطأ ربان ناسو وطاقمه من السكان السود المحليين سفينة كريول ويعلن نهاية ذلك التمرد. و قبل أن يزف إليهم خبر حريتهم بموجب القانون البريطاني لعام 1833، والذي ينص على منع تجارة العبيد على الأراضي البريطانية.استطاع المشرف ابلاغ القنصل الأمريكي بما حدث من تمرد عبيد الكريول عن طريق حرس السواحل، وما أسفرت عنه من إصابة قبطانها وقتل أحد التجار.[1]
ليرسل الحاكم البريطاني فرانسيس كوكبيرن 25 جندي إلى السفينة ليمنعوا التسعة عشر عبدًا المحركين لذلك التمرد، والمتسببين كذلك في تلك الحادثة من النزول حتى يتم التحقيق معهم. ولكن ليس بواسطة السلطة المحلية، بل بإرسال تقرير للحكومة الرئيسية في لندن لتنظر ماذا تفعل بالجناة. ورفض كذلك كوكبيرن طلب القنصل الأمريكي بالتحفظ على السفينة حتى تأتي قوة عسكرية أمريكية وتتعامل معهم كونها سفينة أمريكية مختطفه. بل وتحرر بعد ذلك من تبقى من العبيد غير المشاركين في الحادث، وسمح لهم بالخروج وممارسة حياتهم الطبيعية مرة أخرى.[2]
قرر بعض المحررين أن يكملوا حياتهم في جزر الباهاما، وقرر البعض الآخر السفر إلى جزيرة جمايكا. ولكن ليس كل اختيار يعني حرية. فهنالك خمسة من العبيد أختاروا أن يعودوا مرة أخرى إلى العبودية، وكانت حريتهم في عبوديتهم. وفي إبريل من العام التالي تم الإفراج عن 17 عبد من المحتجزين الباقين على قيد الحياة من بينهم شعلة التمرد واشنطن، ليحصل مرة أخرى على حريته ولكن تلك المرة للأبد. وتحول بذلك واشنطن كأيقونة للحرية في تاريخ العبيد، وأصبح تمرد كريول أحد أبرز وأنجح حركات العبيد التحررية والتي أثمرت عن حرية 128 عبد اقتنصوا حريتهم بأيديهم.[1]
الخلافات الأمريكية البريطانية حول سفينة كريول
احتدمت الخلافات الأمريكية البريطانية بسبب القانون البريطاني لتحرير العبيد، ليس لاعتراض أمريكا على قناعة البريطانيين بتحرير العبيد. بل لتطبيق قانون تحرير العبيد على السفن الأمريكية التي تحمل ما اعتبرته أمريكا ملكية لها من عبيد، واعتبروا ذلك تعدٍ واضح على ممتلكاتهم الخاصة. وتفاقمت النزاعات القضائية في المحاكم الدولية حول قانون تحرير العبيد، ومدى صلاحيته في القانون الدولي عبر الحدود والقارات.[2]
فبعد وصول أخبار سفينة كريول إلى وزير الخارجية الأمريكي دانييل ويبستر، استشاط غضبًا واعتبر ما حدث من الحكومة البريطانية انتهاك لقانون أمريكا بالتعدي على ممتلكاتها. ولكن لم يسفر ذلك إلا عن استهجان بريطانيا لذلك ودحضها لذلك القانون الأميريكي بقانونها المعني بإلغاء العبودية. وأنها لا تملك الحق باحتجاز أي إنسان دون تهمة جنائية. [2]
لم يكن تمرد كريول حدثًا عابرًا، بل تسبب في احتدام الخلافات بين الحكومتين. حيث سافر وفد بريطاني بقيادة اللورد أشبورتون إلى أمريكا لحل الأزمة الحدودية بين الأراضي والمستعمرات البريطانية الكندية، وأراضي أمريكا الشمالية. ولكن لم تسفر المفاوضات عن شيء فاضطر أشبرتون بالتعهد بعدم المساس بالسفن التجارية الأمريكية. [2]
وقامت اللجنة المسؤولة عن تسوية القضية بمنح أصحاب العبيد المحررين تعويضًا بقيمة 110,330 دولار. وتم ترسيم الحدود لتحصل أميريكا على نصف الأراضي المزعومة من كندا بموجب شروط معاهدة ويبستر- أشبرتون. وأخيرًا تعهدت الحكومات المشاركة في المعاهدة بمنع تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي، لتنتهي بذلك التجارة العالمية للعبيد وتستمر التجارة المحلية في أميركا حتى منتصف القرن التاسع عشر. [2]
المصادر:
1- BlackPast.org
2- History.com
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :