Ad
هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

من الموسيقى والغناء والرقص إلى الرسم والأدب والنحت، كان تاريخ البشر حافلًا بالإبداعات الفنية. ولم تقتصر الفنون على كونها رفاهية ثقافية تفيد المتعة، بل شكلت جزءًا من العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية. كان الفن موضع بحث للفلاسفة لفترة طويلة، إلا أن العلوم البيولوجية والنفسية ساهمت منذ الثمانينات في البحث عن الأسباب العلمية التي جعلت البشر يميلون إلى الفن ويبدعونه. بدورهم، درس الباحثون في علم النفس التطوري الأصول التاريخية للفن والعلاقة بين الفن والتطور، والبحث عن إجابة السؤال التالي، هل للفن أصول تطوّرية؟

التجارب الفنية الأولى للبشر

عندما نتحدث عن الفن، فنحن نعني أي نشاط إبداعي مميز يهدف بشكل أساسي إلى المتعة والتعبير عن الذات. وتشمل الفنون كل أنواع الإبداعات البصرية (الرسم والنحت والتصميم وغيرها)، وكل النشاطات الإيقاعية (الرقص والغناء وعزف الموسيقى) والخيال (تأليف الروايات والأدب والكتابة الإبداعية).

من أجل فهم معمّق لأصول هذه الفنون، لابد من الاطلاع على تاريخ نشأتها ابتداءً من العصر الحجري. بحسب علوم الآثار والحفريات، بدأ البشر منذ زمن طويل بنشاطات الحفر والتزيين والرسم والصبغ، وقد وُجدت أعمال تزيين بالخرز والنقش على قشر بيوض النعام في جنوب أفريقيا تعود إلى حوالي 75 ألف عام. كذلك وُجدت أغراض مزينة بالصدف في فلسطين (تعود إلى ما قبل 100 ألف عام) وفي الجزائر (قبل 35 ألف عام) وفي المغرب (قبل 75 ألف عام).

أما عن تاريخ الموسيقى فيُقال أن الموسيقى سبقت حتى القدرة على الكلام، ويعود صنع المزامير (أقدم الآلات الموسيقية) إلى ما يقارب 40 ألف عام.

ما هي العلاقة بين الفن والتطور؟ هل للفن أصول تطوّرية؟

يعمد علم النفس التطوري إلى تفسير السلوكيات البشرية من خلال البحث عن أصولها التطورية، وذلك من خلال ثلاث احتماليات أساسية:

  • السلوك عبارة عن تكيّف (Adaptation) أو مجموعة تكييفات حصلت تحت ضغط الانتقاء الطبيعي، أي أنه ساهم في زيادة النجاح الانجابي وفرص النجاة من المخاطر عند إنسان العصر الحجري، وقد ورثناه من أسلافنا عن طريق الجينات.
  • لا يملك السلوك صفة تكيّفية بنفسه، لكنه نتيجة لصفات تكييفية أخرى (By-product).
  • السلوك هو نتيجة عشوائية لطفرات أو تغيرات جينية (Random effect).

تعدّدت النظريات في علم النفس التطوري واختلفت بين نظريات تعتبر الفن ذا وظيفة تكييفية للبشر، وبين أخرى تعتبره نتيجة غير مباشرة لتطور قدرات عقلية واجتماعية تكيفية أخرى.

الوظائف التكيّفية للفن

عرض الباحثون في مجال علم النفس التطوري والعلوم المعرفية عدد من النظريات التي ترى في الفنون تكيّفات تطورية جرت على أساس الانتقاء الطبيعي.

  • الفن كاستعراض جنسي:

استوحى عالم النفس التطوري «جيوفري ميلر – Geoffrey Miller» من نظرية «الانتقاء الجنسي – Sexual selection» التي تفسّر سلوكيات الحيوانات في اختيار الشريك الجنسي، ليفسر ميل الانسان للفنون وتقديرها واعتبارها مميزة وذات قيمة جمالية.

تمامًا كاستعراضات ذكور الطيور من خلال الغناء والرقص وعرض الريش الملوّن بهدف إغواء الإناث. اعتبر ميلر أن الفن ربما قد لعب دورًا مشابهًا لاستعراضات الطيور عند البشر. فالفنون غالبًا ما تحتاج قدرات عالية من الذكاء والإبداع والصحة الجيدة والطاقة والحركات اليدوية الدقيقة والقدرات الإدراكية (البصرية / السمعية) المتفوقة وغيرها. ومن المحتمل أن استعراض الذكور من البشر لهذه الفنون كان وسيلة لإغراء النساء وجذب انتباههن.

  • تحسين القدرات العقلية والاجتماعية:

تساهم الفنون بتنمية العديد من القدرات العقلية، لذلك اعتبر عدد من العلماء في مجال علم النفس التطوري والعلوم العصبية أنها تملك وظيفة تكيّفية بنفسها، لأنها تزيد من قدرة الدماغ على حل المشاكل وأخذ خيارات أفضل.

فالخيال -مثل الخيال المستخدم في رواية القصص- يبعث على التحليل وتخيل مواقف اجتماعية ومحادثات وسمات الشخصيات المختلفة ورسم استراتيجيات عقلية. في هذه الحالة يمرّن الخيال القدرات العقلية للفرد دون التعرض لخطر حقيقي.

بحسب الباحث في الأدب والتطور «جوزيف كارول – Joseph Caroll»، فإن الأدب والفنون بشكل عام تلبّي الحاجة البشرية الفريدة لإنتاج ترتيب معرفي مشبع عاطفيًا وجماليًا. كما يعتبر أن الفن يساعد العقل البشري على التنظيم.

الفن كنتاج ثانوي للتطور

بينما نظر البعض للفن كوظيفة تكيّفية، اعتبر آخرون الفن نتيجة ثانوية للتطور، لكنه لا يملك صفة تكيّفية (By-product).

فبحسب عالم النفس المعرفي «ستيفن بينكر – Steven Pinker»، الفن هو نتيجة لعدد من التكيّّفات التي اكتسبناها عبر التطور. من جهة، القدرات العقلية سمحت لنا كبشر بإبداع الفنون والاستمتاع بها. من جهة أخرى، نمت عند البشر رغبة في الحصول على مركز اجتماعي، ولعلّ ممارسة الفن كانت وسيلة لتلبية هذه الرغبة.

يشمل بينكر في نظريته غالبية الفنون من الموسيقى إلى الرسم والرقص والنحت وغيرها. لكن يستثني بينكر الخيال (تأليف الروايات والقصص) من هذا. فقد اعتبره في الوقت عينه تكيّفي (لأنه يساعد البشر على تخيل المشاكل وحلها وينمي قدراته في التحليل والتفاعل الاجتماعي). كما اعتبره نتاج ثانوي للسمات التطورية الأخرى.

ما زالت العلاقة بين الفن والتطور غير واضحة الملامح وهي تطرح إشكاليات عدة. فالفن يشمل نشاطات مختلفة ومتعددة، كما يتخذ الفن طابعًا اجتماعيًا كبيرًا، أي أنه ينتقل من جيل إلى آخر من خلال التنشئة الاجتماعية. يشكّل هذا الأمر تحديًا لدراسته بشكل بيولوجي صرف. لكن الأكيد أن الفن على اختلاف أوجهه جمع البشر جميعًا، وتعدى دوره كمتعة ليصير حاجة اجتماعية وثقافية وعاطفية. فهل للحياة طعم دون فن؟ ما رأيك؟

المصادر:

ResearchGate
The arts after Darwin, Ellen Dissanayake
ResearchGate

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


تطور فنون علم نفس

User Avatar

Riham Hamadeh


عدد مقالات الكاتب : 49
الملف الشخصي للكاتب :

شارك في الإعداد :
تدقيق لغوي : abdalla taha

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق