Ad
هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

تُعتبر إشكالية الوعي من أعقد الإشكاليات العلمية. رغم أننا كبشر نختبر الوعي ونعرفه بطبيعتنا، إلا أن تفسيراتنا الفلسفية والعلمية في مجال الوعي ما زالت مبتدئة. ففي حين اعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الوعي حقيقة بديهية وصافية ندركها بالعقل، إلا أن مفهوم الوعي ما زال غامضًا وما زلنا بعيدين عن فهم تفسير مفهوم الوعي وأسبابه العلمية. فما هو تعريف الوعي؟ وكيف تناول الفلاسفة هذا المفهوم المعقّد ؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع الوعي والفلسفة؟

مفهوم الوعي وتعاريفه المختلفة

نستخدم كلمة “وعي” ومشتقاتها في حياتنا اليومية لنعبّر عن مفاهيم مختلفة (فنقول مثلًا فقد فلان وعيه أو لم أكن واعيًا،…). لذلك يسمّي الفلاسفة الوعي بـ«المفهوم الشعبي – Folk concept»، أي أنه متجذّر في اهتماماتنا اليومية ونابع منها.

ولكن الملفت أيضًا هو أن استخدام كلمة الوعي لا يرد في سياق واحد، أي أنها تحمل معانٍ مختلفة.

المعنى الأول للوعي هو «الإحساس –Sentience  »، أي الإدراك الحسّي والقدرة على التفاعل مع المحيط.  ويُستخدم مفهوم الوعي أيضًا بمعنى «اليقظة – Wakefulness»، فنعتبر أن الكائن واعي بمجرّد أنه غير نائم أو مخدّر، ويكون الوعي بهذا المعنى حالة من حالات الحياة العقلية التي نحظى بها.

أما المعنى الثالث للوعي هو ما يسمّيه الفيلسوف الأميركي «نيد بلوك – Ned Block» بـ«الوعي الوصولي –Access consciousness » وهو ببساطة الأفكار التي تدور في رأسنا في لحظة معينة، وتتفاعل مع بعضها وتؤثر بشكل مباشر على سلوكنا. وقد اعتقد الكثيرون قبل القرن العشرين أن كل أفكارنا متاحة لوعينا، غير أن المدرسة التحليلية في علم النفس التي تأسّست على يد فرويد بيّنت أن الأفكار والسلوكيات الواعية ليست إلا جزءًا صغيرًا من حياتنا العقلية والنفسية، وهي تخبئ الكثير من الأفكار والعواطف اللاواعية والتي تؤثر بشكل لاواعٍ على تصرفاتنا.

وأخيرًا، المعنى الرابع للوعي هو ما يسمّى بـ«الوعي الهائل أو الخبرة الذاتية – Phenomenal consciousness (Qualia)»، وهي حالة الوعي الشاملة التي لا تقتصر على كل المعارف والمعلومات والإدراكات الحسية والذكريات والرغبات والمخططات الموجودة في العقل، بل تشمل أيضًا التجربة الذاتية والمشاعر الشخصية التي يعيشها كلٌّ منا في معظم أوقاتنا. فمن الممكن أن تميز آلة معينة بين أطعمة ذات مذاقات مختلفة أو أي إدراكات حسية مختلفة. ورغم أن هذه الآلة تملك قدرات معرفية لكنها لا تعيش ما تعيشه أنت، ككائن واعٍ، من تجربة شخصية عند تذوق كل من الأطعمة، وبالتالي لا تملك الوعي.  

كيف تناول الفلاسفة مفهوم الوعي عبر التاريخ؟

يُقال أن تساؤلاتنا كبشر حول الوعي والعقل بدأت منذ زمن بعيد. فكان لحضارات العصر الحجري الحديث و ما بعدها ممارسات عقائدية وروحية تبين حدًا أدنى من التفكير والتساؤل حول مفهوم الوعي.

غير أن آخرين يعتبرون أن مفهوم الوعي كما نعرفه حاليًا يُعد حديث نسبيًا، أي أنه لم يبدأ قبل العصر الهوميري (أي تقريبًا في العام 750 قبل الميلاد). حتى أن اللغة الإغريقية القديمة لم تكن تحتوي على كلمة مرادفة للوعي، رغم اهتمام الإغريق بالكثير من الإشكاليات العقلية.

قفزة الوعي في منتصف القرن السابع عشر

ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر، بدأ الحديث عن الوعي بشكل كبير، وتم اعتباره موضوعًا مركزيًا في أي حديث عن العقل، حتى أن ديكارت عرّف “الفكرة” نفسها على أنها الوعي بحدوثها. وفي نهاية القرن السابع عشر، لاقاه الفيلسوف البريطاني «جون لوك – John Locke» في أفكار مشابهة عن الوعي، بحيث اعتبر أنه أساسي ليس فقط للفكرة، بل أيضًا للهوية الذاتية.

ثم أتى عالم المنطق والرياضيات والفلسفة الألماني «ليبنيز – Leibniz» ليقدم نظرية عقلية، اعتبر فيها أن الوعي مُجزأ إلى درجات لا متناهية، حتى أنه طرح احتمالية أن تكون بعض الأفكار لا واعية. كما كان من أوائل الذين ميّزوا بين «الإدراك – Perception » و«الإدراك بالترابط – Apperception» وبين الوعي والوعي الذاتي.

وبقيت «المدرسة الترابطية –Associanism  »التي بدأت مع لوك  مسيطرة على كل النظريات المتعلقة بالفكر والوعي لمدة قرنين، وهي تؤمن أن كل العمليات العقلية مترابطة ، وأن كل معرفة تبدأ عن طريق الحواس. وقد تبع هذه المدرسة الفيلسوف الاسكتلندي «ديفيد هيوم – David Hume» في القرن الثامن عشر وبعده الفيلسوف الاسكتلندي «جيمز ميل- James Mill» في القرن التاسع عشر، فاكتشفا مبادئ ترابط الأفكار وتفاعلها.

في المقابل، انتقد الفيلسوف الفرنسي ايمانويل كانت المدرسة الترابطية، بحيث اعتبر أن الوعي الهائل لا يمكن أن ينتج فقط عن ترابط الأفكار، بل هو يستلزم بنية عقلية غنية ومنظمة.

في كل هذه الفترة، كانت العلاقة بين الوعي والدماغ البشري غامضة جدًا بالنسبة للباحثين.

بدأت تتكشف هذه العلاقة في القرن العشرين مع بداية المدرسة السلوكية في علم النفس، ومن بعدها بشكل أكبر مع صعود علم النفس المعرفي الذي وضع أسسًا علمية لكيفية عمل الدماغ ومعالجة المعلومات والعمليات العقلية.

ولكننا حتى الآن، لم نتوصّل بعد إلى إيجاد الإجابات حول الكثير من الأسئلة حول الوعي. مثل ما الذي يجعلنا بالتحديد كائنات واعية، وإمكانيات وجود الوعي عند كائنات أخرى غير بشرية. والأهم أن العلاقة بين الفلسفة والعلوم المعرفية ما زالت تحمل حلقات ناقصة، لذلك تحدّث الفلاسفة عن وجود «مشكلة الوعي الصعبة – The hard problem of consciousness».

مشكلة الوعي الصعبة

مشكلة الوعي الصعبة تكمن في تفسير وجود الوعي الذاتي (الخبرة الذاتية أو الكواليا). وهنا السؤال الأساسي: ما الذي يجعل منا، ككائنات جسدية ومادية، كائنات واعية؟

إذا أردنا تشريح هذه المشكلة يمكن النظر إلى الوعي الذاتي من زاويتين مختلفتين.

من الزاوية الأولى، نحن نعرف أننا نملك الوعي، بكل بساطة لأننا نختبره. من خلال هذه النظرة الذاتية، يمكن وصف تجاربنا الشخصية المختلفة مع كل المشاعر الواعية التي تصحبها.

في المقابل، إذا نظرنا إلى الوعي الذاتي من منظور خارجي، يصعب تحديد الوعي وتعريفه. فلننظر مثلًا إلى الدماغ كعضو مادي، نعرف أنه عضوًا فائق التعقيد مع أكثر من مئة مليار خلية عصبية متصلة ومتشابكة. كما نعرف أنه قادر على تخزين المعلومات والتمييز بين المحفزات الحسية والتخطيط والسيطرة على سلوكياتنا. لكننا لا نملك أدنى فكرة كيف يمكن لهذا النشاط الدماغي أن يصنع الوعي الذاتي.

هل يستطيع العلم حل معضلة الوعي؟

يعتبر عدد من الفلاسفة أمثال «فرانك جاكسون – Frank Jackson» و«ديفيد تشالمرز – David Chalmers»  أن العلم لن يستطيع حل مشكلة الوعي الصعبة، ولن يستطيع اختصار الوعي بتفسيرات العلوم المعرفية والنشاط العقلي. ويعطي فرانك جاكسون هذا المثال كدليل على ذلك. تخيّل أن “ماري” هي عالمة أعصاب عبقرية، لكنها وُلدت في غرفة خالية من الألوان، وكل ما من حولها بالأبيض والأسود. استطاعت ماري من داخل غرفتها تعلم كل المعلومات عن نشاط الدماغ، بما فيها قدرة الدماغ على تمييز الألوان. تخيّل أن ماري خرجت في يوم من الأيام إلى العالم الملوّن. في هذا اليوم، رغم معرفة ماري السابقة عن كل المعلومات المتعلقة بالألوان ومعالجتها، فهي اكتسبت خبرة جديدة لمجرد رؤيتها للألوان. وبالتالي، فإن فهم النشاط الذهني غير كافي لتفسير الوعي.

ختامًا، تبقى إشكالية الوعي عصية حتى الآن على التفسير العلمي والفلسفي. لكن استطاع العلم قبل ذلك أن يشرح الضوء بخصائص فيزيائية رغم اعتقاده عصيًا على هذا الشرح. فهل سيتوصّل العلم إلى تفسير الوعي خصوصًا مع صعود العلوم العصبية في عصرنا؟

المصادر
Coursera
Stanford Encyclopedia of Philosophy

إقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة علم نفس

User Avatar

Riham Hamadeh


عدد مقالات الكاتب : 49
الملف الشخصي للكاتب :

شارك في الإعداد :
تدقيق لغوي : abdalla taha

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق