Ad

قصة الموسيقى

بَنَت الموسيقى علاقة آمنة مع كينونة الإنسان القلقة. فمن جهة هي الصديق الأقدم، إذ أن علاقتنا معها تعود إلى أكثر من أربعين ألف عام. وهي من جهة أخرى الصديق الأقرب نظرًا لما تقوم به الموسيقى في وحدتنا. فهي تفتح عزلتنا على العالم بأرضه وسمائه، شره وخيره. وهي أيضًا الصديق الذي يحمل رسالتنا إلى الحضارات التي قد توجد في الفضاء المظلم. فمركبة فوياجر التي تبحر في الفضاء منذ خمسة عقود من الزمن تحمل رسالة ضميرنا في أسطوانة ذهبية. سوف أبين بإيجاز تاريخ الموسيقى منذ بداياتها الغامضة إلى مراحل تطورها.

ما الموسيقى وكيف بدأت؟

للوهلة الأولى، نستعد للإجابة على هذا السؤال بثقة كاملة، وكأن موضوعة الموسيقى بسيطة كصفاء الموسيقى نفسه. لكن، سؤال الماهيات دائما ما يحدث صعوبة من نوع خاص؛ ذلك لأنه يلقي بنا بين طرق كثيرة ومتداخلة. فهل سؤال (ما الموسيقى) سؤال تشريحي؟ تاريخي؟ فني؟ أو حتى فلسفي؟

يبدو أنه من المستحيل أن نحدد الموسيقى تحديدًا دقيقًا، ذلك لأن النقاش حول أصل الموسيقى يفتح حدودها على نشاطات بشرية وغير بشرية مختلفة. قد تُعتبر الأصوات التي تصدرها الحيوانات ولا سيما الطيور موسيقى، حتى الأصوات الناتجة عن ظواهر طبيعية كالمطر قد تكون لها اعتبارات موسيقية.

يصر العلماء على أنسنة تاريخ الموسيقى، ذلك لأن الموسيقى تختلف عن الأصوات التي تصدرها الحيوانات كإشارات للتواصل. بيد أن سؤالنا لا يزال يحتاج إلى التحديد، فالكلام مثلًا، قد يكون ضربة موسيقية. والأدوات التي استخدمها المزارعون لتخويف الحيوانات قد تعتبر أدوات موسيقية.(1)

تشير الدراسات العلمية على أن الموسيقى سبقت الكلام بفترة طويلة جدًا. ذلك لأن أسلافنا البدائيين، قبل أن يتمكنوا من نطق الحروف الساكنة كان بإمكانهم أن يصدروا شيئا يشبه اللحن أو النغمة الموسيقية.

كما تركز بعض الدراسات على الأصل الحركي للموسيقى، التصفيق، الحركات الإيقاعية والأصوات التي كانت تُصدر من أحجار الصوان التي كان الإنسان يستخدمها منذ عصور قديمة جدًا. غير أن الفرضية الأكثر ترجيحًا تؤكد على أن الغناء جاء أولًا، وربما أول الغناء كان غناء الأم وهي تنوم طفلها.(1)

لماذا كانت الموسيقى؟

تشير الدراسات الأنثروبولوجية على أن غاية ممارسة الإنسان للفعل الموسيقي كانت الرقص أو الترفيه أو الاتصال أو الطقوس:

الرقص:

تخبرنا الأنثروبولوجيا أنه عندما كان تنخرط مجموعة بشرية في عمل ما كانوا يعملون بشكل إيقاعي – يظهر ذلك في عمل الحصاد – وتمتماتهم كانت تتحول إلى نوع من الغناء. كما نجد أن الرقص من النشاطات القديمة جدًا وأي رقص كان يصحبه شيئا من الموسيقى.(1)

الترفيه:

سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، لعبت الموسيقى دورًا بارزًا، لا سيما في العمل الجماعي. كما أن علاقة الأم بالطفل كانت ولا زالت فيها الكثير من الموسيقى والغناء، المسافر في سفراته الطويلة كان يجد في الموسيقى أنيسًا ورفيقًا لدربه الطويل.(1)

الاتصال:

في أفريقيا وأجزاء واسعة من العالم لعبت الموسيقى دور التلغراف والتواصل، بين الفرد وذاته، داخل الجماعة وحتى بين الإنسان والطبيعة.

الطقوس:

الحضور الموسيقي في الطقوس الدينية والإجتماعية التي تمارس حتى يومنا هذا، لها جذور قديمة قدم العلاقات الإنسانية. أن الطقوس التي مارستها الشعوب والمجموعات البدائية كان للموسيقى حضور بارز فيها. نظرًا لأن الطقوس ولا سيما الدينية كانت تعبر عن علاقات روحية مقدسة، بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والسماء، إذ يمكن القول بأن الموسيقى كانت حضورًا إلهيًا في الطقس البشري.(1)

الموسيقى والدين:

إن لفظة الموسيقى مشتقة من موزس (Muses) ويذكر هزيود تسعة من الموزيات اللاتي كن آلهات، كان والدهن زيوس وكانت أمهن ميموري (Memory). كما أن أبولو أيضًا يعد من آلهة الموسيقى، وفي الأساطير المصرية بيس(2).

حسب أسطورة خلق الإنسان في الديانة الإيزيدية، حلت الروح في جسد آدم المصنوع من الطين وسط عزف الملائكة على آلتي الدف والشباب (شاز وقدوم)، ولا زالت الإيزيدية تقدس الآلات الموسيقية وتمارس طقوسها مع العزف الموسيقي.

في الأديان الأخرى أيضًا، ثمة الكثير من الاهتمام بالموسيقى. فالفرق الصوفية في الإسلام اهتمت بالموسيقى، كما شاعت بين الكثير من الفرق الغنوسية. وفي الكنيسة المسيحية أيضًا نجد الترانيم الدينية والموسيقى حاضرة في الطقوس الكنسية.

اقرأ أيضًا: كيف يكون النشوء مع والدين من نفس الجنس عامل للإصابة بالاكتئاب ؟

الآلات الموسيقية الأقدم:

اكتشف العلماء مزامير (Geisenklösterle Flutes) مصنوعة من عظام الحيوانات و عاج الماموت في كهف في جنوب ألمانيا، وعمر هذه المزامير 43000 سنة(3). يرى الباحثون أن العزف يعد من السلوكيات التي ميزت الإنسان العاقل عن نياندرتال، ذلك لأن العزف ساعدهم على تكوين شبكات إجتماعية أكبر ربما تكون قد ساعدتهم على توسيع أراضيهم على حساب إنسان نياندرتال(3).

أبواق توت عنخ آمون (Tutankhamun’s Trumpets):

تم اكتشاف هذه الأبواق في مقبرة توت عنخ آمون في عام 1922 ويزيد عمرها عن 3000 عام. وهي تعد من أقدم الأبواق المكتشفة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الأبواق ما زالت صالحة للعزف.(4)

مزامير جيهاو:

تم اكتشاف هذه المزامير في موقع جيهاو الأثري في الصين، ويقدر عمرها بين 7000 و 9000 سنة.(4)

ليثيوفون:

وهي عبارة عن آلة مصنوعة من الحجر، واكتشفها علماء الآثار في فيتنام وعمرها يقدر بين 4000 و10000 عام.(4)

آلة الثيران (Bullroarer):

وهي من الآلات الموسيقية الطقسية التي استُخدمت في الكثير من الثقافات للتواصل عبر مسافات طويل، وعمرها 30000 سنة.(4)

مزامير بالوليثك ( Paleolithic flutes):

يقدر عمرها بين 35000 إلى 40000 سنة.

فلوت Divje Babe:

هذا المزمار تم اكتشافه في سلوفينيا وعمره أكثر من 40000 سنة.

فلوت Geisenklösterle :

تم اكتشاف ثلاثة مزامير في كهف Geisenklösterle وتعتبر من الآلات الموسيقية الأقدم التي اكتشفت حتى الآن وعمرها 43000 سنة.(4)

موسيقى على مدى العصور:

الفترة المبكرة:

تبدأ هذه الفترة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر. ترتبط هذه الفترة بالموسيقى الكنسية. كان هذا الشكل الموسيقي بسيطًا نسبيًا بخط موسيقي واحد ومن ثم خطين وثلاثة. ومن رواد هذه المرحلة دي فيرتي وماشوت ولانديني.(5)

عصر النهضة:

تعتبر هذه الفترة التي بدأت من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر عصرًا ذهبيًا على جميع الأصعدة الفنية. وتطورت الموسيقى بشكل ملحوظ فيه. برز النص الموسيقي الكوريالي في هذا العصر وبات فيه الكثير من التنوع والتباين، على سبيل المثال، تعزيز قسم معين من خلال جزء صوتي يتناقص مؤقتًا ومن ثم يعود من جديد في لحظة خاصة من التركيز. وبعد ذلك ابتعد الموسيقيون عن نظام التناغم التقليدي نحو نظام النغم المركزي أي المفتاح. يعتبر دولاند، تاليس، فيكتوريا وألونسو لويو من الأسماء البارزة لعصر النهضة.

العصر الباروكي:

من القرن السابع عشر إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حدث انفجار موسيقى على جميع المستويات. يعد هذا العصر بداية ظهور الأوركسترا والأوبرا والكونشيرتو والسوناتا. ومن أسماء البازة في هذه الفترة: مونتيفيردي، كوريلي وأليساندرو ساكلارتي.

العصر الكلاسيكي:

يعد هذا العصر عصر السوناتا المتقدمة والسيمفونيات التي ما زلنا نستمع إليها بشغف وحب كبير، فهذا هو عصر باخ وموزارت وهايدن. بدأ هذا العصر من النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر.

العصر الرومانسي:

بدأت آلة البيانو تبرز بشكل قوي في المقطوعات الموسيقية. تتميز هذه الفترة بالعلاقة القوية بين الفن والمشاعر الإنسانية الجياشة، والموسيقى من الفنون التي توغلت في حالة الإنسان النفسية وعبرت عنها. ويعد بيتهوفن وشوبان وفاكنر من النجوم الساطعة في سماء الموسيقي لهذا العصر.

الخلاصة:

يقول نيتشه إنه لولا الموسيقى لكانت الحياة خطأ. ويقول سيوران إن موسيقى باخ هي الحجة الوحيدة التي تبرهن على أن خلق الكون لا يمكن اعتباره فشلًا تامًا. هذا الشيء العجيب الذي أبدعه الإنسان قبل آلاف السنوات يعد طفرة في التاريخ، إذا ما تحدثنا بلغة إنسانية صرفة يمكن القول بأن الموسيقى من أكثر الإبداعات البشرية التي تستحق الوقت عندها بإحترام. أن الموسيقى ربما بدأت عند الأم وهي تحاول أن تهدئ طفلها، أو ربما عندما حاول الإنسان أن يقلد الطبيعة. كما أن العلاقات الإجتماعية في المجموعات البشرية البدائية لعبت دورًا تأسيسيًا في ظهور الموسيقى والعكس صحيح.

مع مرور الزمن تحولت الموسيقى إلى نوع من الدين والتقديس تارة، ورسالة حربية تارة وشكل من أشكال التواصل العاطفي تارة أخرى. لكن، يمكن القول بأن الموسيقى صارت قيمة فنية خالصة مستقلة عن الغايات الأخرى منذ عصر النهضة. وفي العصر الكلاسيكي والرومانسي وصلت إلى قمة الجمال، وقد يكون هذا ما دفع شوبنهاور ليعتبر الموسيقى نوعًا من الحرية والخلاص من إرادة الحياة العمياء.

إقرأ أيضًا: ما هو الرابط بين الرياضيات والموسيقى؟

المصادر:

  1. Frontiersin
  2. Encyclopedia
  3. BBC
  4. Oldest
  5. Naxos
اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Jaffer Juqi - جعفر جوقي
Author: Jaffer Juqi - جعفر جوقي

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


آثار تاريخ فنون موسيقى

User Avatar

Jaffer Joqy

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة


عدد مقالات الكاتب : 32
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *