Ad

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

إن الفلسفة تتخطى دومًا التخوم الذي يتم رسمه لها، ولا أمل بمستقبل أي تحديد، فهي تجد فريستها في الغاب المجهول. يساعدنا الشمول الفلسفي في إيجاد أي طريق للوصول وإلى أي أين نقصده. الفلسفة الرواقية هي من الفلسفات التي من شأنها أن تفند الإدعاءات التي ترى في الفلسفة كهوة وقطيعة مع الواقع المعاش. فالفلسفة الرواقية تقدم وصفة لحياة سعيدة إن صح التعبير.

في العصر الهلنستي شديد الخصوصية تبرز الرواقية على نحو مختلف في الفضاء الفلسفي العام المحتكر أفلاطونيًا وأرسطيًا. تجر الرواقية الفلسفة إلى شؤون حياة الفرد العامة حيث هواجس الإنسان الأصيلة المتمثلة بعيش حياة مستقرة لا أكثر. نحاول في هذا المقال أن نتناول المباحث الأهم في الفلسفة الرواقية.

لمحة عن العصر الهلنستي:

بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 320 ق.م. تبدأ مرحلة جديدة في بلاد الإغريق وأسقاع مختلفة من العالم، الحقبة الهلنستية. الطرق التي فتحها الفلاسفة الإغريق تصبح مؤهلة لخطوات أقدام جديدة وغير إغريقية. هذه الحقبة التي أمست فيها الثقافة اليونانية ملكًا مشتركًا بين جميع بلدان البحر الأبيض؛ بعد وفاة الإسكندر وحتى الفتح الروماني انتشرت الثقافة اليونانية رويدًا رويدًا، أمتدادًا من مصر وسوريا ووصولا إلى روما وأسبانيا. كانت أداة هذه الثقافة هي القونية وهي لهجة دارجة من اللغة اليونانية.(1)

في هذه الحقبة، ظلت أثينا مركزًا للفلسفة؛ لكن ليس بين هؤلاء الفلاسفة أثيني واحد، ولا حتى إغريقي واحد. فجميع الرواقيين المعروفيين بهذا الإسم في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا من الأغراب والدخلاء قد قدموا من الأمصار الواقعة عند تخوم الحضارة اليونانية.(2)

معنى الرواقية:

الرواقية (ٍStoicism) مدرسة فلسفية من الحقبة الهلنستية أسسها زينون القبرصي حوالي 300 ق.م(3). لغةً، اشتقت من كلمة الشرفة أو الرواق (stoa poikilê) في أثينا وكانت  مزينة بلوحات جدارية حيث كان اعضاء المدرسة الرواقية يجتمعون ويقدمون محاضراتهم.(4)

الرواقيون:

 زينون هو مؤسس المدرسة وهو من قبرص، وخلف زينون في رئاسة المدرسة كليانتس، وخلفه كرسبوس. وبعد وفاة هذا الأخير خلفاه كل من زينون الطارطوسي وديوجينس السلوقي.(5) أما بالنسبة للرواقية الرومانية فمن أبرز أعلامها سينيكا و شيشرون وبانيتسوس وبوسيدونيوس.(5)

مصادر معرفتنا عن الرواقية:

ثمة مشكلة كبيرة نواجهها بهذا الخصوص، فليس بحوزتنا عمل واحد كامل من اعمال رؤساء المدرسة الرواقية الثلاثة: زينون، كلينتاس وكريسبوس(4). يقال بأن كريسبوس وحده قد ألف 165 كتابًا، ولم يبقى من كل تلك الأعمال سوى شذرات. الأعمال الكاملة التي لدينا الآن من التراث الرواقي تعود إلى الفترة الرومانية، سينيكيا، أبيكتيتوس والإمبراطور ماركوس وهي أعمال أخلاقية صرفة(4).

الفلسفة والحياة:

رغم التأثير الأفلاطوني الواضح على بلاد الإغريق عصرئذ، إلا أن الرواقية قد شقت طريقًا جديدًا في الفلسفة. لا تعتبر الرواقية الفلسفة تسلية ممتعة أو حتى هيئة معرفية خالصة، إنما كطريقة عيش أو ممارسة حياتية مفيدة وذات معنى(4). لذلك، نجد بأنها تعارض كل من الأفلاطونية والأرسطية.

العلاقة التي تؤسسها الرواقية مع المعرفة تنطلق من كون أن المعرفة والسلوك في إرتباط وثيق، فمعرفتنا الصادقة بالعالم تؤدي إلى سلوكيات مناسبة. كما ذهبوا إلى أن مبحثي الفلسفة، المنطق والفيزياء مرتبطان وتركيزهما الأساسي هو الأخلاق(6).

وإذا ما تأملنا حياة الرواقيين نجد بأنهم كانوا أكثر إنشغالًا بالفضيلة لا بالمعرفة المحض كما هي الحال في التراث الفلسفي. وعلى ذلك يقول سينيكا: “الفلسفة ليست أي شيء، إنما هي العلة الطبيعية للحياة، أو المعرفة الحلوة بالحياة، أو هي فن تنظيم الحياة الطبيعية. لن تخطأ إذا قلت أن الفلسفة هي قانون الحياة”(7)

نظرية المعرفة:

إن الرواقية تختار الجبهة المضادة للجبهة الأفلاطونية، فهي تستبعد أن يكون الواقع محض ظلال كما ذهب أفلاطون. فالبنسة للرواقية معرفة الواقع ممكنة وذلك من خلال التجربة المباشرة معه وذلك من خلال الإدراك الحسي.

خلال التاريخ الفلسفي، كانت الحقيقة تمثلًا هاجسًا كبيرًا، فمن الفلاسفة من قال بإستحالة الوصول إليها ومنهم من توكل على العقل. إلا أن الرواقية لا تحسب حسابًا كبيرًا للحقيقة طالما أنها مستقرة في الإدراك الحسي ولا تتطلب صفة لا تتوافر لدى الفرد العادي(8). غير أن هذا لا يعني بأن نظرية المعرفة لدى الرواقيين واضحة جدًا، فهم أولًا يرفضون الإستقلال الذاتي للمواضيع الفلسفية، وثانيًا يرفضون إمكانية تحقيق المعرفة في حقل معين دون غيره، ويزعمون بأن الشخص الخير هو الذي يفهم الطبيعيات وجيد في المنطق أيضًا.

المعرفة تنطلق من الشيء الحسي الذي يترك صورة في النفس، وهذه الصورة قد تكون مموهة أحيانًا. ففي تلك الحالة التمثيل المحيط هو المعيار الذي بإمكانه إدراك الصورة الصادقة وللوصول إلى إدراك أعمق فالعلم هو السبيل. كما تزعم بأن الشيء الحقيقي تبعث فينا شعورًا قويًا وواضحًا وإعتقادًا بأنها حقيقة. ما يجعل من هذه النظرية ألا تبدو متماسكة جدًا هو أنها تارة تبدو حسية وتارة تجريبية وتارة أخرى حدسية.(6)

الأخلاق:

الإعتبارات الرواقية للأخلاق تتسم بطابع مركزية الأخلاق في الفلسفة، لكونها تمثل الجهاز التنظيمي في فن العيش. لو شئنا أن نطرح في المدرسة الرواقية السؤال عن كيفية عيش حياة سعيدة، سيكون جواب زينون (الجريان الحسن للحياة) أو (العيش في وفاق) وسيجيب كريبسيبوس (العيش وفقًا ما تشاء الطبيعة)(4). النظرة الرواقية هذه آتية من الرؤية التي تفيد بأن الكون معقول والسلوك الجيد هو بدوره معقول.

يدعي الرواقيون أن ما هو خير مفيد لمالكه في كل الظروف، ولتفادي التناقض تصنف الرواقية بعض الأشياء بين الجيد والسيء. أما الفضائل الكبرى التي من شأنها أن تتضمن حياة خيرة فهي: الحكمة، العدالة، الشجاعة والإعتدال.(4)

قاعدة العيش وفقًا للطبيعة:

التصور الرواقي هذه يختلف عن التصور الكلبي القديم، ذلك لأن تصور الكلبية للطبيعة كان تصورًا بدائيًا وغريزيًا. في حين أن الرواقية تجد في الكون ضربة من العقل، أي هو معقول لكونه محكومًا بالقانون الإلهي، وهذا القانون لا يمكن أن يكون غير صحيحًا. فالخضوع للنظام الطبيعي هو الخضوع للعقل الإلهي. يمكن القول بأن أخلاق الرواقية تتسم بطابع الحتمية، ذلك طالما أن الإنسان جزء من النظام الطبيعي فلا يمكن له أن يخطأ، فذهب زينون إلى أن أكل لحم الإنسان، وزنا المحارم والمثلية الجنسية ليس خطأ في ذاتها(9). لكن ما هو ليس بخطأ لا يعني أنه من الفضائل، فالأمور الطبيعية هذه لا هي من الخيور ولا الشرور. فالإنسان يختلف عن سائر الموجودات لكونه يمتلك عقلًا، وهذا العقل هو الذي يؤدي إلى الفضيلة، وهذا يعني إن مفهوم الفضيلة إنسانوي بحت.

الخلاصة:

تقدم لنا الفلسفة معونة كبيرة عندما يتعلق الأمر بكيفية طرح أسئلتنا، كما تساعدنا في الحصول وابتكار الأجوبة. غير أن ذلك قد لا يحدث في الفضاء العمومي وبالنسبة لمن هم لا يهتمون بالشأن الفلسفي. بيد أن الفلسفة الرواقية تأخذ منعطفًا جديدًا، فهي تختزل الفلسفة في علاقتها مع الحياة المعاشة بصورة مباشرة. ذلك لا يعني أن الرواقية تهمل المباحث الأخرى أو تتاكسل في الحديث الفلسفي التقليدي، إنما تأتي بطرح تكون الحياة هي النقطة المركزية في كل المباحث.  

إقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

المصادر:

  1. امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص34
  2. نفس المصدر، ص37
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص169.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/stoicism/#Eth
  5. https://www.britannica.com/topic/Stoicism/Ancient-Stoicism
  6. https://iep.utm.edu/stoicism/#H3
  7. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص528
  8. اميل بريهييه، ص54.
  9. فردريك كوبلستون، ص 530

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلسفة منطق فكر

User Avatar

Jaffer Joqy

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة


عدد مقالات الكاتب : 32
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق