Ad
هذه المقالة هي الجزء 18 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

يصعب تغيير الإنسان الملتزم بقناعة راسخة، فإذا عارضته سيشيح بوجهه عنك، وإذا واجهته بالحقائق والأرقام سيسألك عن مصادرك، وإذا احتكمت إلى المنطق فلن يفهم وجهة نظرك

هكذا كتب ليون فيستنجر في كتابه «عندما تفشل النبوءة-When Prophecy Fails» الذي يناقش فيه واحدة من أغرب التجارب التي شهدها. وما يرتبط بها من أحد أهم مفاهيم علم النفس الاجتماعي: «التنافر المعرفي-Cognitive Dissonance»

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

تعريف التنافر المعرفي

التنافر المعرفي هو أحد مفاهيم علم النفس الاجتماعي. ويشير إلى حالة التوتر أو قلة الراحة أو انعدام الانسجام التي تنتاب الشخص حينما تتعارض معتقداته أو مواقفه مع سلوكه. ينتج عن هذا التصادم (بين ما يؤمن به الشخص وما يسلكه بالفعل) شعور بالتناقض أو التصارع، يجعله يغير سلوكه أو يحوّر معتقداته للعودة إلى الراحة والانسجام.

درس فيستنجر هذا التأثير، كما درس الآليات المختلفة التي يسلكها البشر للتغلب على الصراع والوصول إلى حالة الانسجام الداخلي. توصل فيستنجر إلى نتائجه من خلال مجموعة من الدراسات، منها تجربته الكلاسيكية عن التنافر المعرفي. وهاك مقطع منها:

تجربة فيستنجر وكارلسميث عن التنافر المعرفي 1954

خطوات التجربة

جعل فيستنجر المشاركين يقومون بعدد من الأنشطة المملة. ثم طلب منهم مساعده أن يخبروا المشارك التالي كذبًا أن التجربة ممتعة مقابل قدر من المال، المجموعة الأولى مقابل 20 دولارًا والمجموعة الثانية مقابل دولار واحد فقط. سألهم فيستنجر في نهاية التجربة عن انطباعهم عنها، هل كانت التجربة ممتعة؟ هل تشارك بها مرة ثانية؟

يأتي الرد البديهي في أذهاننا جميعًا أن من حصلوا على 20 دولارًا سيجيبون بنعم، على عكس من حصلوا على دولار واحد. لكن ما حدث هو العكس تمامًا! تصدمنا الشابة التي حصلت على دولار واحد وقضت كل هذا الوقت في نشاط ممل بجوابها: “نعم لقد استمتعت وإذا اتيحت الفرصة سأود المشاركة مرة ثانية”

النتائج

فسر فيستنجر النتائج كما يلي: اختبرت المجموعة التي حصلت على قدر أكبر من المال تنافرًا أقل. بمعنى أن الدافع للكذب كان واضحًا وهو الحصول على المال، لذا لم يختبر هؤلاء تنافرًا بين ما يعتقدونه (أن النشاط ممل) وما يفعلونه (الكذب والقول أن النشاط ممتع) لأن الدافع موجود.
أما المجموعة التي حصلت على مبلغ تافه اختبرت تنافرًا أشد. لأنهم لم يستطيعوا إقناع أنفسهم أنهم فعلوها من أجل المال، كما لم يستطيعوا مواجهة حقيقة الموقف (إهدار وقتهم في نشاط ممل والكذب بشأنه) لذا يلجأ العقل إلى الخداع! فيخبر المرء نفسه أن النشاط كان ممتعًا وليس بهذا السوء وربما يفعله مرة ثانية.
ألا يبدو هذا السلوك مألوفًا إليك؟

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

عندما تفشل النبوءة

لم تقتصر دراسات فيستنجر على التجربة السابقة فقط، بل نشر في كتابه عندما تفشل النبوءة أحد الأمثلة الحية المدهشة لمفهوم التنافر المعرفي.

عندما تفشل النبوءة
عندما تفشل النبوءة

صاحب فيستنجر عدد من الأفراد المنتمين لطائفة دينية تؤمن بالتواصل مع الكائنات الفضائية. ادّعت زعيمة هذه الطائفة أنها تلقت رسائل سماوية تنبأها بموعد نهاية العالم، لذا قامت هي وعدد من التابعين المخلصين ببيع بيوتهم وجميع ممتلكاتهم استعدادًا لتلك النهاية. وحينما جاء اليوم الموعود ولم يحدث شيء، خرجت لتخبرهم أنهم فعلوا الصواب وأنهم أنقذوا العالم بإيمانهم وإخلاصهم. وبدلًا من أن يندم هؤلاء على فعلهم المتهور ويواجهوا الحقيقة، ازداد حماسهم وانتمائهم!

هذا المثل واقعي للغاية وصادم للغاية عند النظر إليه. لقد هجر هؤلاء الأشخاص عائلاتهم وباعوا جميع ممتلكاتهم سعيًا وراء معتقد. ولك أن تتخيل مقدار التنافر الذي أصاب أحدهم في هذا الموقف، إنها هزة عنيفة وضربة قوية في صميم إيمان راسخ بذل الكثير في سبيله. فيجد نفسه في موقف ممزقًا بين ما يعتقد أنه الحقيقة والحقيقة الفعلية، فيتزعزع انسجامه وتتبدد راحته ويبدأ العقل الخداع!

من الجدير بالذكر أن جميعنا نختبر التنافر المعرفي بنسبة أو بأخرى. لكن ما نحن بصدده الآن هو مثال عنيف لما يمكن أن يؤدي إليه هذا التنافر. فقد تجاهل هؤلاء الأشخاص حقيقة ساطعة حتى لا تتصارع مع معتقدهم المسبق. وهذه الآلية بالتحديد واحدة من آليات ثلاثة شرحها فيستنجر لكيفية تجاوز التنافر المعرفي.

كيف نتجاوز التنافر المعرفي؟

لقد ذكرنا في تعريف التنافر المعرفي أنه حالة من التصارع بين المعتقد والسلوك ينتج عنه التوتر وتبدد الانسجام. لذا لكي يتخلص الشخص من هذا الإزعاج ويستعيد توازنه يلجأ إلى تحوير أحد هذين المتغيرين (إما المعتقد أو السلوك) عن طريق آليات ثلاثة. ولفهم الأمر بشكل أوضح سنطبق كل واحدة من الآليات على شخص مدخن يعلم ضرر التدخين ولا يقلع عنه.

  • تغيير المعتقد أو السلوك المسبب للتنافر كليًا، لكي تستعيد العلاقة بين المتغيرين اتزانها.

في حالتنا هذه يكون تغيير السلوك (الإقلاع عن التدخين) هو الحل لتجاوز التنافر المعرفي. لكن يمكننا توقع أن هذه الآلية بالتحديد صعبة التحقيق، لأنها تتضمن تغييرمعتقد راسخ أو سلوك اعتاد الشخص فعله.

  • تحصيل معلومات جديدة تدحض المعتقد المسبب للتنافر.

يعلم المدخن أن التدخين يسبب سرطان الرئة ويهدد الحياة، لكنه مع ذلك مستمر بسلوك التدخين. ولكي يتغلب على هذا التنافر يبحث على معلومات مثل: لم تؤكد الأبحاث بعد علاقة التدخين بسرطان الرئة.

  • تقليل أهمية المعتقد المسبب للتنافر.

قد يقنع المدخن نفسه أن التدخين ليس بهذا السوء، فحياة قصيرة يتمتع فيها بالتدخين خيرٌ من حياة طويلة خالية من هذه المتعة.

أمثلة من الحياة

لا تقتصر نتائج التنافر المعرفي على الدراسات المعملية فقط، فيمكن للأشخاص التلاعب بالتنافر المعرفي بأشكال مختلفة في حياتنا اليومية. وينتج عن هذا ظواهر جادة وخطيرة للغاية. منها ظاهرة «التشويش-Hazing»

يشير مصطلح التشويش إلى المضايقات التي يتعرض لها المبتديء عند انضمامه لمجموعة جديدة أو التحاقه بعمل جديد. وأحيانًا لا يتوقف الأمر عند المضايقات فقط بل يصل إلى حد الإذلال والإهانة لذا يعد فعلًا غير قانوني.

وما يحدث هو تعرض طالب مستجد يريد الانضمام لمجموعة ما لشتى أنواع الإهانة والتعذيب لفترة من الزمن. وتمامًا كما حدث مع الشابة التي أهدرت وقتها في نشاط ممل مقابل دولار واحد، يقنع هؤلاء الطلاب أنفسهم أنهم خاضوا الكثير المعاناة في سبيل هذه المجموعة، لذا لا بد أنها ممتعة وتستحق هذا العناء.

يظهر التشويش أيضًا عند السياسين، عندما يترشح أحدهم للانتخابات ويطلب تطوع الشباب لمساعدته بدون مقابل. هذا أمر حسن بالنسبة إليه لأنه لن يضطر لدفع المال وهذا بديهي. كذلك سيكون هؤلاء الشباب أكثر ولاءًا وانتماءًا لقضيته. وسبب ذلك هو التنافر المعرفي، فإذا عرض مائة دولار مقابل العمل سيدرك المتطوع أنه يفعله من أجل المال، أما إذا فعله بدون مقابل سيقنع نفسه أن هذا المرشح يستحق الدعم.

مثال آخر أكثر غرابة يظهر عند المعالجين النفسيين. يطلب المعالج المال مقابل العلاج لشتى الأسباب أولها أننا جميعًا نحب المال، ثانيًا أن العلاج المجاني عادة ما يفشل. لا بد أن يبذل المريض شيئًا في سبيل العلاج ليشعر بقيمته، حيث يقوده التنافر المعرفي إلى تقدير العلاج الذي بذل المال من أجله وبالتالي يستفيد منه.

الأمر ليس صراعًا وحسب

والآن لنلقي نظرة أعمق في أسباب حدوث التنافر المعرفي، ليس الأمر صراعًا بين معتقد وسلوك غير متسقين وحسب، ولكن التنافر أكثر دقة من ذلك. فنحن نحوّر أفكارنا أو سلوكنا حتى لا نفقد نظرتنا الأخلاقية المنطقية لأنفسنا. عودة إلى تأثير التشويش، هناك سبب واضح وصريح وراء تقبل الأشخاص الإذلال والإهانة في سبيل القبول بمجموعة، وهو أنهم هذا النوع من الأشخاص الذي يتقبل الإذلال والإهانة. لكن العيش مع هذه الحقيقة أمر مروع وصعب، ومن هنا ينشأ التنافر فيبحثون عن إجابة لا تشوه نظرتهم لأنفسهم مثل: لا بد أنها مجموعة رائعة وتستحق العناء!

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

وبهذا يمكننا إنهاء حديث اليوم، التنافر المعرفي ببساطة هو فكرة أن كل ما تفعله منطقي وأخلاقي، فإذا فعلت شيئًا يُظهرك أحمقًا أو متلاعبًا ستحوّره داخل مخك ليصير منطقيًا في نظرك.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والتحيز للتوكيد

المصادر

Esraa Ahmed
Author: Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر علم نفس

User Avatar

Esraa Ahmed

إسراء أحمد، مصر. طالبة بالسنة الأخيرة لكلية العلاج الطبيعي، محبة للقراءة والكتابة الإبداعية، مهتمة بمجال الأدب وعلم النفس والصحة النفسية.


عدد مقالات الكاتب : 29
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *