Ad

أدب ما بعد الاستعمار: خصائصه وسماته

يتمحور أدب ما بعد الاستعمار حول فكرة الاستعمار (Colonisation) في دولة ما. فنجد أعمالاً تناقش هذه المرحلة بحد ذاتها. في حين تنتقل أعمال أخرى للحديث عن مرحلة الاستقلال – أي ما بعد الاستعمار – وتبعات هذه التجربة التي خضعت لها الدولة المعنية.

مفهوم الاستعمار

للحديث عن هذا النوع الأدبي، يجب أولاً تعريف مفهوم الاستعمار، ولو بشكل بسيط ومختصر. يُعرَّف الاستعمار على أنه سيطرة دولة أو شعب على دولة أخرى أو شعب آخر وإخضاعهم. وينطوي الاستعمار على الانتقال الفعلي لمجموعة من الشعب الأول إلى أرض الشعب الآخر التي يريدون استعمارها، والاستقرار فيها، وممارسة سيطرة فعلية عليها. وهذا ما يميز مصطلح الاستعمار عن الإمبريالية (Imperialism). فالإمبريالية تعني سيطرة دولة ما على أخرى، سواء أكان ذلك عن طريق الاستقرار فيها أم التحكم بسيادتها بطرقٍ غير مباشرة [1].

كما يمكننا هنا التمييز بين عدة مصطلحات، تختلف من حيث المعنى ومن حيث ترتيبها الزمني بالنسبة لمرحلة الاستعمار. فيأتي أولاً مصطلح “الاستعمار” (colonisation) وهو، كما ذكرنا، فترة السيطرة الفعلية على شعب أو دولة ما. ثم يأتي مصطلح “إنهاء الاستعمار” (decolonisation) للدلالة على استقلال الشعب أو الدولة، واستعادة حريتهم. بعد ذلك، تأتي مرحلة “ما بعد الاستعمار” (post-colonisation) والتي تشير إلى الفترة التي تلي الاستقلال في هذه الدولة. وأخيراً لدينا مصطلح “الاستعمار الجديد” (neo-colonisation) الذي يُعنى بآثار الاستعمار التي تستمر حتى بعد انتهاء حكمه، والتي تتمثل بالاستعمار الثقافي والسيطرة السياسية غير المباشرة [2].

ولكن ما أهمية هذه المصطلحات في الأدب؟

أدب ما بعد الاستعمار

يطلق اسم “أدب ما بعد الاستعمار” (Post-colonial literature) على النتاج الأدبي الذي يناقش موضوعاً متعلقاً بالاستعمار في دولة ما. وعلى الغالب ينتمي المؤلف للدولة التي كانت ترزح تحت وطأة المستعمرين. وإن لم يكن قد عاش مرحلة الاستعمار مباشرة، يمكن أن يكون من الفئة التي عانت من الاستضعاف والاستعباد من قبل الفئة الأقوى. ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، سلمان رشدي من الهند. وولي سوينكا وتشينوا أتشيبي من نيجيريا. الطيب صالح من السودان، وتوني موريسون الأفريقية الأمريكية.

ولكن قد ينتمي بعض أدباء ما بعد الاستعمار إلى الفئة الأقوى، فيناهضون بكتاباتهم الأعمال التميزية ضد الآخر. ومن الأمثلة على ذلك الكاتبة ندين غورديمير، وهي من جنوب أفريقيا. لكنها كانت تحظى بامتيازات في ظل نظام الفصل العنصري باعتبارها من الأقلية ذات البشرة البيضاء. ويقع في هذه الفئة أيضاً الكاتب البولندي-البريطاني جوزيف كونراد والكاتب الإنكليزي إي أم فورستر الذين استعرضا مواضيع متعلقة بالاستعمار في أفريقيا والهند في روايتيهما “قلب الظلام – Heart of Darkness” و”الطريق إلى الهند – A Passage to India”، على الترتيب. وأخيراً يمكن ذكر الكاتبة البريطانية جين ريس، والتي عاشت في جزيرة دومينيكا في منطقة الكاريبي. وتطرح روايتها الأشهر “بحر سارجاسو الواسع – Wide Sargasso Sea” الكثير من الأفكار التي تقارب فكرة الاستعمار وأثرها على الشعوب الخاضعة من منظور الضحية.

وقد حصل عدد لا بأس به من كتاب أدب ما بعد الاستعمار على جائزة نوبل للآداب، أمثال غورديمر، وموريسون، وسوينكا. وكان آخرهم الروائي التنزاني عبد الرزاق جُرنة “عن أعماله الأدبية الصريحة والمعبّرة عن آثار الاستعمار ومصير اللاجئ في المعبر بين الثقافات والقارات” [3]. وتُعزى أهمية أدب ما بعد الاستعمار إلى المواضيع التي يناقشها، والتي تمسّ حالة شعب كاملٍ، لا مجرّد أفراد أو أقليات. كما يتطرق في تسليطه الضوء على نتائج الاستعمار إلى أثر هذه التجربة على المستعمرين أنفسهم.

مواضيع أدب ما بعد الاستعمار

إذاً، يناقش أدب ما بعد الاستعمار تجربة الاستعمار وآثارها في الماضي والحاضر على مستوى المجتمعات المعنية التي عاشتها، وعلى المستوى الأوسع الذي يتضمن آثار الاستعمار العالمية. فمن الممكن أن يتحدّث العمل الأدبي من هذا النوع عن الحياة في ظل المستعمِر، أي في فترة الاستعمار (colonisation) نفسها. كما يمكن أيضاً أن يناقش كيف تحولت الحياة بعد الاستقلال (post-colonisation)، وما الآثار التي عانت منها المستعمرات بعد نيل حريتها (neo-colonisation) [4].

وكما ذُكر سابقاً، تتنوع جنسيات المؤلفين في هذا النوع الأدبي، ويعود هذا التنوع إلى خضوع عدد كبير من الدول للاستعمار. غالباً ما كانت الدول المستعمِرة دولاً أوروبية، وتعد إنكلترا إحدى أكبرها وأكثرها انتشاراً. وقد امتدت المستعمرات الإنكليزية والأوروبية في أفريقيا، وأمريكا الجنوبية، ومنطقة الكاريبي، إضافة إلى دولٍ في آسيا كالهند والدول العربية. لكن لم تتزامن جميع فترات استعمار الدول مع بعضها. وأدى هذا التوزع الجغرافي والزمني للاستعمار، إضافة إلى الاختلافات الثقافية للمجتمعات الضحايا، إلى إغناء النوع الأدبي الذي يناقش هذه المرحلة وتنوع مواضيعه. فنجد في هذه الأعمال الأدبية طرحاً للكثير من الأفكار كالهوية، والضياع، والنزوح، والتنقل، والتأثر بالآخر، والشتات، والاختلاف، وغيرها. وفيما يلي نتطرق للحديث عن موضوعي الهوية والشتات في أدب ما بعد الاستعمار لما لهما من مكانة جوهرية، وباعتبارهما يمثلان تجربة مشتركة بين أغلب الشعوب التي خضعت للاستعمار، إن لم نقل جميعها.

الهوية في أدب ما بعد الاستعمار

تعدّ فكرة الهوية (Identity) إحدى النقاط الجدلية لدى شخصيات أدب ما بعد الاستعمار. ويتجلى تعقيد الهوية هنا بالاختلاف (difference) الكامن بين هويتين لشعبين اجتمعا على أرض واحدة، مما قد يؤدي إلى ضياع هوية الأفراد الأصلية. فالامتزاج بين ثقافتين مختلفتين – ربما اختلافاً كبيراً – يحفّز هذا الشعور بالاختلاف. وهذا ما قد يؤدي إلى صراع بين “النفس-self” و”الآخر-other”. فبالنسبة للمستعمرين، تُعد الشعوب الأصلية هي الشخص الآخر المختلف عنهم، والعكس صحيح بالنسبة لضحايا الاستعمار.

التغير في الهوية الأصلية

تحدث الناقد الهندي هومي بابا (Homi Bhabha) عن فكرتي الهجين والازدواجية بالنسبة للهوية. تمثل الازدواجية (Ambivalence) المزيج المعقد من الانجذاب والنفور الذي يسم العلاقة بين المستعمر وضحيته. فالمستعمر يرغب بأن يجعل الشعب الآخر مثله ويفرض قواعده عليه. ولكن في الوقت ذاته، هذه المحاكاة (Mimicry) التي يمارسها الشعب الخاضع تخيف المستعمِر وتهدد بقاءه لأنها تجعل من ضحيته نسخة مشوشة عنه. مما يجعله غير قادر على التحكم بها أو توقعها، فهي تشبهه، ولكن ليس تماماً، وهذا ما يكسبها طابعاً غامضاً [5]. من الأمثلة على الازدواجية شخصية “Nwoye” في رواية “الأشياء تتداعى – Things Fall Apart” لشينوا أتشيبي. فهو يعيش حالة من عدم اليقين فيما يتعلق ببعض العادات التي يراها خاطئة في قبيلته، إلا أن عواطفه تجاه القبيلة تجعله متردداً في قبول الثقافة الجديدة.

كما يتحدث بابا عن وجود مزيج هجين (Hybrid) بين الهويتين المعنيتين، قد يؤدي إلى خلق مساحة جديدة (Third Space) تجمع بين عالم المستعمِر وعالم ضحيته. فالاعتراف الواعي والإدراك لهذه الهوية الثقافية المزدوجة يؤدي إلى تجاوز غرابة التنوع الثقافي الذي يحمله المستعمر عند التصادم مع الثقافة الأخرى. فبالنسبة للمجموعتين، تحمل تجربة الاستعمار مواجهة مع ثقافة جديدة كلياً كما ذكرنا، وهذا أمر لا يخلو من الاستغراب وردود الفعل المتباينة. لكن قبول هذه الازدواجية يؤدي إلى ظهور أفراد بشخصيات هجينة تحمل طابعاً من كل ثقافة على حدة.

وقد لا يحدث هذا لدى الجيل الأول من ضحايا الاستعمار أو المستعمرين، بل من الممكن أن يظهر في الأجيال القادمة التي باتت أكثر إغراقاً في ثقافة الآخر وتقبلاً لها [5]. ويمكن رؤية الشخصية الهجينة في الشاب “Olunde” من مسرحية “الموت وفارس الملك – Death and the King’s Horseman” للكاتب وولي سوينكا. وهو ابن فارس الملك الذي يغادر قبيلته لدراسة الطب في إنكلترا، لكنه لا يتخلى عن هويته الأصلية. بل يحتضن الجانبين في شخصيته، ويعود لتلبية نداء الواجب تجاه قبيلته عندما يتطلب الأمر.

التمسك بالهوية الأصلية

لا يمكن القول بأن جميع شخصيات أدب ما بعد الاستعمار تعاني من حالة تقلّب أو تذبذب أو صراع تجاه الهوية. فقد نجد أن هناك من يتمسك بهويته الأصلية بقوة. بل إن الاستعمار يزيد من صموده وتعلقه بجذوره. بالعودة إلى تشينوا أتشيبي، فهو يصور في روايته “أشياء تتداعى – Things Fall Apart” شخصية “Okonkwo” الذي يرفض اعتناق أي من المبادئ القادمة من الثقافة الجديدة. وهذا يؤدي به إلى المنفى بعيداً عن قبيلته. كما نرى هذا التشبث بالعادات الأصلية في رواية “قلب الظلام – Heart of Darkness” لجوزيف كونراد. ويتجسد في جماعة آكلي لحوم البشر (Cannibals) في الكونغو. فهم لا يأبهون لوجود المستعمر، بل يشرعون بممارسة عاداتهم التي يمكن وصفها بالمنفرة من وجهة نظر المستعمر، عندما تسنح لهم الفرصة.

الشتات في أدب ما بعد الاستعمار

من المواضيع الأخرى التي يسلط أدب ما بعد الاستعمار الضوء عليها هو موضوع الشتات (Diaspora). ويتمثل الشتات بشعوب البلاد الأصلية التي أجبرت على الخروج من بلادها في ظل الاستعمار. عادة ما تشرح الأعمال الأدبية فكرة الشتات بالتركيز على قصص الترحال والسفر وعدم الاستقرار. ونجد ذلك، مثلاً، في رواية “رحمة – A Mercy” للكاتبة توني موريسون، ورواية “بحر سارجاسو الواسع – Wide Sargasso Sea” للكاتبة جين ريس [6].

وأخيراً، لا تخلو روايات عبد الرزاق جُرنة من هذه لأفكار المميّزة لأدب ما بعد الاستعمار، إضافة إلى مواضيع أخرى. فنراه يتحدث عن الشتات واللجوء والضياع والهوية. ونرى شخصياته العربية الأفريقية تعيش تجارب التنقل في البلاد التي هاجرت أو هربت إليها. ولا يمكن تجاهل أثر تجربته الشخصية في الهروب من بلاده واللجوء إلى إنكلترا بعيداً عن الاضطرابات والعنف [7].

على أمل أن تجد أعمال جرنة طريقها إلى القارئ العربي، الذي لابدّ وأن عانت بلاده من الاستعمار، وعاش أجداده تجربة مشابهة لما يحكى عنه في أدب ما بعد الاستعمار.

اقرأ أيضاً: عودة نوبل الأدب 2021 لأفريقيا بعد عقدين من الزمان

المصادر

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Colonialism
  2. Introduction to Literature, Criticism and Theory – Andrew Bennet and Nicholas Royle
  3. The Nobel Prize
  4. The British Academy – What is postcolonial literature?
  5. Post-colonial Studies: Key Concepts – Bill Ashcroft, Gareth Griffiths, and Helen Tiffin
  6. Postcolonial Literatures in Context – Julie Mullaney
  7. Writers Make the Worlds
Watfa Alassafeen
Author: Watfa Alassafeen

مترجمة من سوريا. أحب القراءة والكتابة.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أدب تاريخ فكر فنون

User Avatar

Watfa Alassafeen

مترجمة من سوريا. أحب القراءة والكتابة.


عدد مقالات الكاتب : 44
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *