الفن التجريدي: سلسلة الفن الحديث

هذه المقالة هي الجزء 9 من 11 في سلسلة مقدمة في تاريخ الفن الحديث

عندما طرحت المدرسة الرومانسية أفكارًا جديدة حول الفن معارضة لتركيز الكلاسيكية على التقليد والمثالية، وشددت على دور الخيال واللا وعي كعوامل إبداعية أساسية، أدت بدون قصد إلى ظهور العديد من المذاهب الفنية الفريدة لاحقًا، وهو ما أدى إلى ظهور الفن التجريدي.

تعود أصول الفن التجريدي إلى القرن التاسع عشر، وبدأ على إثر ذلك قبول العديد في عالم الفن من الفنانين الحرية الفكرية الجديدة تدريجياً. فكما صرّح “موريس دينيس: عام 1890 قائلًا:  “يجب أن نتذكر أن اللوحة قبل أن تكون حصانًا حربيًا أو امرأة عارية أو حكاية من نوع ما، هي أساسًا عبارة عن سطح مستوٍ مغطى بألوان بترتيب معين.”

Composition V, By: Wassily Kandinsky, 1911

الفن التجريدي

يعتبر الفن التجريدي الفن الرافض لتقديم تصوير دقيق للواقع، بل يستخدم بدلاً من ذلك الأشكال والألوان والرموز لتحقيق هدفه. ويعتمد أيضًا على تبسيط الأشكال لتكوين ما أو لمنظر طبيعي، ويعد أيضًا مصطلحًا للفن الذي يستخدم أشكالًا ليس لها أي مصدر على الإطلاق. وغالبًا ما يحمل الفن التجريدي بُعدًا أخلاقيًا؛ حيث يقوم بتمثيل الفضائل المختلفة كالنظام والنقاء والبساطة والروحانية. ويعد “كاندينسكي” عمومًا أول فنان ينتج لوحات تجريدية بحتة تحتوي أشياء لا يمكن التعرف عليها.

وقد أدى ظهور عدة حركات إلى توسيع نطاق الفن التجريدي من أهمها حركة الفن التجريدي الهولندي (de Stijl) في هولندا، الحركة الدادية (Dada) في زيورخ. وقد قاد الأولى بيت موندريان “Piet Mondrian” والذي كان من أهم رموز تطوير الفن التجريدي الحديث والقائد الرئيسي للحركة التجريدية الهولندية بلوحاته الناضجة، وقد استخدم موندريان مجموعات بسيطة للغاية من الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة والألوان الأساسية والأسود والأبيض والرمادي.

Composition with Red, Blue and Yellow, By: Piet Mondrian, 1930

فمنذ خمسينيات من القرن الماضي، كان الفن التجريدي منتشرًا في نطاق واسع في التصوير والنحت الأوروبي والأمريكي. وعلى الرغم من إرباكه العديد من الناس، لكنه حمل قيمة وإنجازًا عظيمًا لأولئك الذين قبلوا لغته الفريدة.

وبالرغم من تلقى التجريدية القليل من الاهتمام في بدايتها وعدم حظيها بالازدهار كالحركات الفنية التي ركزت على الصور الحقيقية كالسريالية والواقعية، ظهرت بعدها مدرسة أمريكية للفن التجريدي تسمى التعبيرية التجريدية أثرت تأثيرًا كبيرًا وعلى نطاق واسع في عالم الفن.

التعبيرية التجريدية

أصبحت تلك الحركة الأمريكية اتجاهًا سائدًا في الفن الغربي. وكان من أبرز الفنانين التعبيريين التجريديين الأمريكيين “Jackson Pollock – جاكسون بولوك” و”ويليام دي كونينج” و”فرانز كلاين” و”مارك روثكو”. وقد عاش وعرض معظمهم في مدينة نيويورك.

Seated Women, By: Willem de Kooning, 1940

وقد بدأت الحركة التعبيرية التجريدية مع اللوحات التي رسمها “جاكسون بولوك” و”ويليم دي كونينج” في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وقد تألفت الحركة من عدة أساليب فنية تختلف في كل من التقنية وجودة التعبير، وعلى الرغم من هذا التنوع، فإنها تشترك في عديد من الخصائص العامة.

فغالبًا ما تصور أشكالًا غير واقعية وغير مستمدة من العالم المرئي، وتؤكد على التعبير العاطفي الحر والعفوي. ويمارس فنانوها حرية كبيرة في الأسلوب والتنفيذ لتحقيق أهدافهم، مع التركيز بشكل خاص على استغلال طبيعة الألوان العفوية لاستحضار صفات تعبيرية: كالديناميكية والعنف والغموض والتناغم. وقد قاموا بالتركيز على التطبيق الغير مدروس لتلك الألوان كشكل من أشكال الارتجال النفسي الشبيه بالسرياليين في التعبير عن قوة اللاوعي في الفن، فقد استلهموا الفكرة السريالية القائلة بأن الفن يجب أن يأتي من اللاوعي.

Convergence, By: Jackson Pollock, 1952

وعلى الرغم من تنوع الحركة التعبيرية التجريدية، يمكن التمييز بين نوعين رئيسيين منها:

أولًا الرسم الحركي، وهو يتميز بمعالجة فضفاضة وسريعة أو ديناميكية للألوان بضربات الفرشاة وبتقنيات تمليها المصادفة جزئيًا، مثل تقطير الألوان أو سكبها مباشرة على القماش بطريقة ارتجالية! وقد مارس بولوك الرسم الحركي واشتهر بوضع قماشه على الأرض والرقص حوله وهو يسكب الألوان من العلب أو بالفرشاة أو العصا.

فقد وضع رسامو الحركة بهذه الطريقة نغماتهم الداخلية مباشرة على اللوحة القماشية وقاموا ببناء أشكال معقدة ومتشابكة من الألوان، بالإضافة للأنماط الخطية المثيرة.

أما النوع الثاني فتكون من نهج الفنانين “روثكو” و”نيومان” و”رينهاردت” و”كليفورد ستيل”. فقد استخدم هؤلاء الرسامون مساحات كبيرة من الألوان المسطحة الواحدة، بالإضافة للألوان الشفافة لتحقيق تأثيرات هادئة وتأملية. وقد تكونت معظم أعمال “روثكو” من مجموعات واسعة من مناطق مستطيلة ذات الحواف الناعمة والألوان المائلة للوميض والصدى والانتشار.

White Center (Yellow, Pink and Lavender on Rose), By: Mark Rothko, 1950

وقد اهتموا بشدة بشدة بالدين والأساطير وقاموا بإنشاء تراكيب بسيطة في مساحات كبيرة من الألوان تهدف إلى إنتاج استجابة تأملية أو تأملية لدى المشاهد. وقد أدى هذا النهج للرسم إلى تطور ما يعرف بـ (الفن الميداني الملون) والذي يتميز بإنشاء الفنانين لمساحات كبيرة من لون واحد أو أكثر.

مصادر:
Tate
Tate
Britannica
Britannica

المدرسة التكعيبية: سلسلة الفن الحديث

هذه المقالة هي الجزء 5 من 11 في سلسلة مقدمة في تاريخ الفن الحديث

غالبًا ما تأتي المدرسة التكعيبية أو -التجريدية- في المقدمة حين يذكر الفن التشكيلي، ولعل سبب شهرة الفن التكعيبي هو اختلافه الكبير عن بقية الفنون الحديثة، وسرعة انتشاره وتأثر الكثير من الفنانين به، مما أدى إلى تأثر الناس به سواء كانوا محبين للفنون أم لا. وقد أدت بشكل رئيسي إلى تشكيل اتجاه الفن الحديث والمعاصر عبر العقود.

فتعتبر المدرسة التكعيبية هي واحدة من أكثر المدارس تأثيراً في القرن العشرين، وقد بدأت في حوالي عام 1907. وقد ابتكرها كلًا من “بابلو بيكاسو” و”جورج براك”. واستمد اسم (التكعيبية) من تعليق أدلى به الناقد “لويس فوكسيلز” عند رؤية بعض لوحات الفنان “جورج براك” عام 1908 بأنها اختزلت كل شيء إلى أشكالٍ هندسية و مكعبات.

فتحت التكعيبية أبوابًا لإمكانياتٍ جديدة لوصف ومعالجة الواقع بشكل فني، واعتُبرت نقطة البداية للعديد من الأساليب التجريدية في وقت لاحق.

Painter and Model”, 1928, By: Pablo Picasso”

مميزات المدرسة التكعيبية

أكدت المدرسة التكعيبية على التسطيح والشكل ثنائي الأبعاد للعناصر والأقمشة بدلاً من خلق وهم العمق والمنظور، فكان هذا بمثابة انفصال ثوري عن الشكل الأوروبي التقليدي المتمثل في خلق وهم الفراغ والعمق باستخدام أدوات تساعد على ذلك كالمنظور الهندسي، والذي سيطر على الفن منذ عصر النهضة. وتتميز التكعيبية أيضًا بالكتل المفككة بطريقة تمكنك من رؤيتها من عدة زوايا في آنٍ واحد.

“Bread and Fruit Dish on a Table”, 1909, By: Pablo Picasso

ما الذي ألهم ظهور التكعيبية؟

تأثرت المدرسة التكعيبية جزئيًا بالأعمال المتأخرة للفنان “بول سيزان” أبو الفن الحديث، وأبرز فنان في حركة (ما بعد التأثيرية) حيث قام برسم عناصر وأشياء من وجهات نظر مختلفة قليلاً.

وقد استلهم بابلو بيكاسو أعماله أيضًا من الأقنعة القبلية الأفريقية والتي تظهر بشكل متكلف وغير طبيعي قليلًا، لكن تظهر الأشكال بشرية حية في اللوحات رغم ذلك، فقد قال بيكاسو: “لا يعتبر الوجه إلا مسألة عيون وأنف وفم يمكن توزيعهم بأي طريقة تريدها.”

“Dora Maar au Chat”, 1941, By: Pablo Picasso

بابلو بيكاسو

كان بيكاسو فنانًا مبتكرًا لحدٍ كبير، فقد قام بتجارب وابتكارات كثيرة خلال سنواته التي تزيد عن 92 عامًا على الأرض. ولم يكن رسامًا فحسب، بل كان نحاتًا وشاعرًا، وأنتج أعمالًا خزفية ومطبوعة. ومن الجدير بالذكر أن بيكاسو عاصر الحربين العالميتين، وتوفي عام 1973.

فترات بيكاسو الفنية

عرفت أول مرحلة لأعمال بيكاسو باسم (المرحلة الزرقاء). وقد امتدت تلك الفترة الفنية المعروفة باسم (الفترة الزرقاء) من عام 1901 إلى عام 1904. وخلال هذا الوقت، تميزت لوحاته بظلال من اللون الأزرق، مع لمسات من ألوان دافئة نوعًا ما. فقد تميز مثلًا العمل الفني الشهير عام (The Old Guitarist) بجيتار بألوان بنية أكثر دفئًا وسط الأشكال الزرقاء.

وغالبًا ما يُنظر إلى أعمال على أنها كئيبة، يعزو المؤرخون الفترة الاكتئاب الواضح الذي أصابع للفنان بعد انتحار صديق له. وكانت الموضوعات المتكررة بالفترة الزرقاء هي العمى والفقر.

أما الفترة التي تلتها فتسمى الفترة الوردية، وقد استمرت من 1904 حتى 1906. وتميزت لوحات تلك الفترة بأجواء أكثر دفئًا وأقل حزنًا من لوحات الفترة الزرقاء. أما موضوعاتها فقد كانت في الغالب عن المهرجين والسيرك.

أما بالنسبة للتكعيبية فقد بدأت أخيرًا في تلك الفترة في عام 1907 حين التقى براك ببيكاسو. وفي ذلك الوقت، كان بيكاسو ينتج أعمالًا في فترة سميت بالـ (الفترة الأفريقية)، حيث كانت أعماله تتميز بطابع بدائي متأثرةً بالأقنعة والنحت الأفريقي. وقد بدأت التكعيبية مع لوحة بيكاسو الشهيرة (آنسات آفنون) Demoiselles D d’Avignon والتي تضمنت أشكالًا تكعيبية ومستوحاة من الفن الأفريقي.

Les Demoiselles d’Avignon“, 1907,

لكن من المحتمل أن يكون عمل بيكاسو الأكثر شهرة، هي اللوحة الجدارية Guernica والتي تعد أقوى تصريح سياسي له، فقد تم رسمها كرد فعل لحادثة القصف المدمرة للنازيين على بلدة جيرنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية.

تظهر هذه اللوحة مآسي الحرب والمعاناة التي ألحقتها بالأفراد والمدنيين الأبرياء. وقد اكتسب هذا العمل وضعًا هائلاً وأصبح تذكيرًا دائمًا بمآسي الحرب ورمزًا رافضًا للحرب وتجسيدًا للسلام.

وقد تم عرض اللوحة عند انتهاءها حول العالم في جولة قصيرة، وأصبحت مشهورة ومعروفة على نطاق واسع، والتي ساعدت في لفت انتباه العالم إلى الحرب الأهلية الإسبانية.

“Guernica”,1937 

جورج براك

أمضى “براك” معظم حياته المهنية في العمل مع “بيكاسو” عندما ركزا على تطوير نمط جديد من الفن وتقديمه إلى العالم. طور الاثنان مواضيع جديدة وخطوط جريئة وسلسلة منظمة من الألوان الداكنة، وخلقوا أسلوب التكعيبية. وقد كان هدفهم هو تطوير طريقة جديدة تعكس العصر الحديث. قام “براك” أيضًا بدمج الملصقات في اللوحة بأكملها.

وكان فن (الكولاج) إضافة جديدة وقتها وأسلوبًا رئيسيًا اتبعته خلال هذه الفترة في أعماله الفنية أيضًا. وكان براك وبيكاسو أول من استخدموا الكولاج وقتها وقاموا بدمج مختلف الخامات والوسائط على اللوحة غير اللون.

Houses at Estaque“, 1908, By: Georges Braque

وقد مرت التكعيبية بمرحلتين: التحليلية والتركيبية. تُعرف المرحلة الرسمية الأولى للحركة باسم التكعيبية التحليلية، وتتميز بلوحات فوضوية لأشياء مجزأة تم عرضها بألوان محايدة. طبق بيكاسو أيضًا مبادئ التكعيبية التحليلية على ممارسته للنحت، والتي ظهرت بشكل واضح في مجموعة من التماثيل النصفية.

أما التكعيبية التركيبية هي المرحلة الثانية للحركة التكعيبية، وخلال هذا الوقت، قام بيكاسو وبراك وجريس وغيرهم من الفنانين بتبسيط تراكيبهم وإضاءة لوحات الألوان الخاصة بهم.

المصادر:
TATE
My Modern Met
Georgesbraque.org
PabloPicasso.org

Exit mobile version