ولدت الكلاسيكية الحديثة كطفلٍ جديد في عصر التنوير عند اعتقاد الفلاسفة بقدرتنا على السيطرة على مصائرنا من خلال تعلم قوانين الطبيعة واتباعها. وقد جذب البحث العلمي المزيد من الاهتمام لذلك الأمر. ونتيجة لذلك، واصل المذهب الحديث ارتباطه بتقاليد الكلاسيكية القديمة لدلالتها على الاعتدال والتفكير العقلاني ولكن بروح جديدة ومشحونة سياسياً بشكلٍ أكبر.
الكلاسيكية الحديثة في الفن
تعني كلمة “Neo” أو “جديد” في الفن بأنه أسلوب قائم وموجود بالفعل لكن يعاد تأكيده بنمطٍ جديد. أما الكلاسيكية الحديثة، فهي شكل من أشكال الفن يتميز بأنه حاد وغير عاطفي، ويعيد إحياء أساليب العصور اليونانية والرومانية القديمة. وقد ظهر هذا التيار بتلك الصلابة ردًا على أسلوب الباروك المشحون بالعاطفة، والركوكو المليء بالأناقة.
وقد مثّل ظهور الكلاسيكية الحديثة جزءًا أساسيًا من إحياء الفكر الكلاسيكي بشكلٍ عام، والذي كان له بعض الأهمية في الثورتين الأمريكية والفرنسية. وحين كانت فرنسا على شفا ثورتها الأولى عام 1789، أراد الكلاسيكيون الجدد التعبير عن العقلانية والجدية والتي ناسبت عصرهم.
ألهم الفنان الفرنسي “نيكولا بوسان” باقي فناني الكلاسيكية الحديثة، وأصبح قرار الترويج لأعماله قرارًا أخلاقيًا. فقد اعتقد تلامذته وأتباعه أن الرسم القوي كان شيئًا عقلانيًا وبالتالي له الأفضلية من الناحية الأخلاقية. فكان اعتقاداهم أن الفن يجب أن يكون منطقيًا وليس حسيًا.
بالإضافة إلى أن فناني الكلاسيكية الحديثة، مثل جاك لويس ديفيد، قاموا بتفضيل الشكل المحدد جيدًا -بالرسم والتظليل الواضح- باعتبار الرسم أكثر أهمية من إحساس اللوحة ككل. بالإضافة إلى وجوب سلاسة سطح اللوحة بشكلٍ كامل، وخلوِّه من أي دليل على وجود ضربات الفرشاة.
الخصائص الفنية للعصر الكلاسيكي الحديث
التصوير
تميزت الكلاسيكية الحديثة بوضوح الشكل والألوان الرصينة والفراغ الضيق والخطوط الأفقية والرأسية القوية؛ مما أدى إلى ثبات عنصر الزمن في اللوحة بدلاً من الديناميكية الشديدة التي تميزت بها أعمال عصر الباروك.
كانت موضوعات الأعمال الكلاسيكية الحديثة (اللوحات والمنحوتات) جدية وغير عاطفية. فصوّر الرسامون الكلاسيكيون الجدد موضوعات من الأدب والتاريخ بالشكل الذي كنت عليه في كلا الفنين اليوناني والروماني، وذلك باستخدام ألوان قاتمة مع إضاءات بارزة من حين لآخر لنقل القصص الأخلاقية عن إنكار الذات والتضحية بالنفس بالكامل.
النحت
تعامل النحت الكلاسيكي الحديث مع نفس الموضوعات، وكان أكثر تحفظًا من فن النحت الباروكي الأكثر مسرحية، وأقل سلاسة من الروكوكو.
العمارة
كانت العمارة في عهد الكلاسيكية الجديدة أكثر ترتيبًا وتنظيمًا وأقل عظمة من الباروك، وعلى الرغم من عدم وضوح الخط الفاصل بينهما، لكنه كان يشبه إلى حد كبير الطرز اليونانية للعمارة، مع استثناء واحد وهو عدم وجود قباب في الأسلوب اليوناني القديم.
ظهر عصر الباروك في أبهى صوره من خلال إحياء المثل العليا للجمال في عصر النهضة والإحساس الكلاسيكي. تميز عصر الباروك بإغراق الأعمال الفنية والموسيقى والهندسة المعمارية بتلك المثل العليا، وعزز البذخ الغامر والميل وقتها لكل ما هو مزخرف ذلك التوجه.
تميزت الأعمال الفنية في تلك الفترة بتقنياتها وتفاصيلها المبتكرة، مما وفر لغة بصرية خصبة جديدة في فترة كانت منخفضة نسبيًا للفن.
انتشرت ثقافة الباروك في جميع أنحاء أوروبا، بقيادة البابا في روما والحكام الكاثوليك. وقد ساعدت الأوامر الدينية في انتشارها بشكل أكبر من خلال شبكة واسعة من الأديرة والكنائس. ونتيجة لذلك، أحيا الفنانون الموضوعات الدينية مرة أخرى للجمهور بعد أن انصرف عصر النهضة عنها بدرجة ما. فلجأ فنانو عصر الباروك للأعمال التي تحمل طابعًا بإحساسٍ سماوي أثيري وخيالي حالم.
أقر رواد حركة الباروك بضرورة فهم الفن بسهولة والشعور به بقوة من قبل عامة الناس. هذه المسحة المسرحية في الباروك جعلت النقاد ينتقدونها، لكنها جعلت أيضًا الأمر مناسبًا للأجيال اللاحقة، ممن رغبوا في الابتعاد عن البراعة المحضة.
يجب الإقرار بأنه أوسط تلك الآراء كان الأفضل، فمن العبث منع تلك الطاقة الدرامية النابعة من الأعمال الفنية الباروكية. كما كان من السخافة مساواتها مع أعمال عصر النهضة، بل يجب اعتباره أسلوبًا جديدًا بمُثله العليا وصموده طوال هذه الفترة.
سمات عصر الباروك
أصبحت الكنائس الباروكية مثالًا عظيمًا بتصميماتها التي تضمنت مساحة كبيرة مع قبة عالية، مما سمح بإلقاء الضوء على المساحة الموجودة تحتها. وكانت القبة واحدة من السمات الرمزية الأساسية التي توضح الاتحاد بين السماوات والأرض، بالإضافة إلى التصميمات الداخلية المعقدة والمليئة بالزخرفة. سمحت التصميمات الداخلية للناس بالشعور بالانغماس التام في المساحات المرتفعة والمقدسة.
خلقت معالجة الظل والنور في العمل الفني والتركيز على ذلك توترات مثيرة بين جميع عناصر اللوحة. وكان ذلك مكونًا رئيسيًا في الأعمال الفنية الباروكية، وقد تم تطويره من أعظم فناني عصر الباروك “كارافاجيو – Caravaggio”. لجأ كارافاجيو إلى تكثيف التباين (Contrast) داخل المشاهد الجوية المظلمة؛ لتسليط الضوء على عناصر معينة.
التركيز على المسرحية والدراما، فقد أكد الفنانون في أعمالهم على الثراء الحسي والواقعية والعاطفة الشديدة والحركة.
بدأ الفنانون عهدًا جديدًا للنحت الأوروبي، واكتسبت أشكال النحت أهميةً جديدة. فغالبًا ما تم نحت تلك الأشكال باتجاهها إلى الخارج من كتلة مركزية تصل إلى الفراغ المحيط؛ لتُرى من زوايا متعددة.
من أهم فناني عصر الباروك
ظهر في تلك الحقبة الزمنية عدد كبير من الفنانين العظماء والتي ما زالت أعمالهم تلهمنا حتى اليوم بشكل كبير، ومنهم:
Caravaggio – كارافاجيو
Peter Paul Rubens – بيتر بول روبينز
Rembrandt – رمبرانت
Artemisia Gentileschi – أرتميسيا جنتلسكي
Franz Halz – فرانز هالز
Vermeer – فرمير
Diego Velázquez – دييجو فيلاسكيث
Giovanni – جيوفاني
وسنسلط الضوء في هذا المقال عن بعض منهم لفهمٍ أكبر لسمات وخصائص أعمال ذلك العصر.
كارافاجيو Caravaggio
مصور إيطالي من رواد عصر الباروك وقد ظهرت أعماله في أواخر ال16 وأوائل القرن ال17. كان من أوائل الفنانين الذين بدأوا العمل على الطراز الباروكي الخلاب، وقد اشتهر بالواقعية الشديدة لأعماله الدينية الواسعة النطاق.
صوّر “كارافاجيو” قصص الكتاب المقدس بشكل درامي ومزدحم، وأظهر مشاهد التعذيب بشكل دموي. وصوّر أحداث الماضي كما لو كانت تحدث في الوقت الحاضر، وغالبًا ما كان يعمل من خلال أشخاص حقيقيين في لباس عصري صارخ. وقد زاد في أعماله من حدة الفقر والإنسانية لشخصياته الدينية والتاريخية من خلال التأكيد على الملابس الخشنة والأقدام المتسخة.
كان تأثيره على مجرى الفن الغربي هائلاً، فقد شكّل كارافاجيو عمل العديد من الفنانين اللاحقين. تأثر به الكثيرين بدءاً من (Rembrandt) في هولندا و (Diego Velázquez) في إسبانيا، إلى (Théodore Géricault) في فرنسا.
ألهم إحساسه الدرامي واستخدام التدريج والمعالجة المبتكرة للضوء والظل العديد من الشخصيات الرائدة في الوسط السينمائي أمثال: “Pier Paolo Pasolini” و”Martin Scorsese”. فاستخدام كارافاجيو للتباينات الشديدة من الضوء والظلام أكدت على تفاصيل الإيماءات أو التعبيرات مثل الذراع الممتدة، ونظرات اليأس أو الشوق وما إلى ذلك.
Peter Paul rubens بيتر بول روبينز
لم يسبق أن رسم فنان مثل هذه المجموعة المتنوعة من الموضوعات تقريبًا عدا بيتر بول روبينز. بيتر هو مصور فلامنكي مثّلت أعماله أشهر وأجمل أعمال عصر الباروك. جمع روبنز بين الأساليب والأنواع الفنية المختلفة، وقد تنوعت موضوعاته بين التاريخية والأسطورية والدينية المستوحاة من الكتاب المقدس. بالإضافة إلى مشاهد الصيد والحيوانات والوجوه والمناظر الطبيعية. وقد اشتهر بالتكوينات المزدحمة للغاية.
وقد صوّر الشخصيات التاريخية لأبطال الأساطير اليونانية والرومانية بروعة وأناقة، وقد أظهرت اعماله حرية وسلاسة شديدين تصويره للجسم البشري، وقد استمتع بتلوين جسم الإنسان بمختلف المواقف الدرامية، وكانت أجسامه عادةً عارية او ملفوفة في أقمشة.
ولشهرته برسم الجسد الأنثوي بشكل جذاب وممتلئ قليلًا، ظهر مصطلح الروبنسكية (Rubenesque) المأخوذ من اسمه، وهو المصطلح الذي يطلق على المرأة ذات النسب المماثلة لتلك الموجودة في لوحاته.
وقد افتتن روبينز أيضًا برسم الوحوش البرية والغريبة بشكل كبير. فاستخدم عناصر حيوانية في العديد من أعماله لخلق شعور مثير. وكثيراً ما كان يعرض مشاهد الصيد بين الحيوانات والبشر وسط مشهد تعبيري للغاية مؤكدًا على التعذيب ـو الوحشية.
كان أسلوب روبينز قوي ومفعم بالحيوية بدمجه للواقعية الفلمنكية بأساليب عصر النهضة، والذي يجسد سمات عصر الباروك. أصبح “بيتر بول روبنز” رمزًا للتيار (الرومانسي) لاحقًا.
رامبرانت Rembrandt
هو مصور هولندي موهوب بشكل لا يصدق، ظهرت موهبته في سن مبكرة للغاية. برع رامبرانت في تصوير الوجوه بشكل رائع، بالإضافة إلى المشاهد التاريخية والدينية والأسطورية بالطبع. كما برع رامبرانت في تصوير المناظر الطبيعية الساحرة التي تشتهر بروعتها رغم بساطتها. وكانت أساليبه في إنشاء التكوينات واستخدامه للون ودقته في الظل والضوء دائمة التغير لإنتاج أكثر اللحظات إثارة للحركة.
وقد كان تأكيده على العمق العاطفي بإتقانه للضوء والملمس موضوعًا مشتركًا بين جميع إبداعاته مما عزز مكانته كأحد أعظم أساتذة الفن المبتكرون. تجلت تلك الصفات في لوحاته التاريخية الكبيرة، ويعتبر رمبرانت بشكل عام أهم فنان في تاريخ الفن الهولندي.
اشتهر رمبرانت بتصوير المشاعر الإنسانية العميقة، فقد كان يعتقد أن المشاعر أكثر أهمية من جوانب الحياة الأخرى. رأى رامبرانت أن مشاعر من يرسمهم وخبراتهم هي ما يجب إيصاله إلى الجمهور، حتى عند رسمهم في سياق تاريخي أو ديني أو اجتماعي.
وقد اشتهرت صور رمبرانت الشخصية بشكل ملحوظ من حيث أنها تعرض سيرة بصرية فريدة للفنان. وسواء كان يرسم نفسه بزي رسمي لشخصية ما أو كرجل عادي، فقد قام بدراسه ملامحه دون غرور، وبإخلاص وصدق شديدين.
نختم بانفوجراف مبسط يعرض أهم سمات وفناني عصر الباروك.