...
Ad

ملخص رواية “الطنطورية” للكاتبة رضوى عاشور

“إن الحكاية صعبة. لا تُحكى. متشعبة. ثقيلة. كم من حرب تتحمل حكاية واحدة؟ كم من مجزرة؟ ثم كيف أربط الأشياء الصغيرة على أهميتها بأهوال عشناها جميعًا؟” رضوى عاشور، رواية الطنطورية

كان بحر الطنطورة حاضرًا بقوة في حياة رقية يؤثر فيها بأمواجه وصوته الهادر ورائحته التي تملأ أرجاء الطنطورة، صديق طفولتها تجمع فيه ذكرياتها السعيدة فيحفظها وتبث فيه حزنها فتنساه، كانت الأمور مستقرة في القرية حتى جاء قرار التقسيم فكان خط الساحل من جنوب عكا إلى جنوب يافا والطنطورة يدخلون بعد التقسيم في نطاق دولة اليهود، فاضطرب الأهالي وزادت اجتماعات الرجال لكي يتدبروا أمرهم فيما هو قادم وزادت الأمور سوءًا بعد تلك الاشتباكات التي نشبت بين العمال اليهود والعرب في مصفاة النفط بعد أن ألقى اليهود قنبلة من سيارة مسرعة على أهالي مسالمين فقتلوا وجرحوا كثيرين، ثار العمال الفلسطينيون فانقضوا بالعصي والسكاكين على العمال اليهود، وردًا على ما فعلوا هجم اليهود على بلد الشيخ وعلى حي من مشارفها يسكنه عمال في المصفاة من إجزم وعين غزال وقرى أخرى مع زوجاتهم وأولادهم ودخلوا عليهم بالبلطات والسكاكين والقنابل والبنادق وخلفوا وراءهم الكثير من الجثث والخراب.

بعد أسابيع قليلة من تلك الحادثة وصل القرية لاجئون من قيسارية التي سقطت في أيدي اليهود وأرغم أهاليها على تركها، فاستضاف أهل الطنطورة اللاجئين وكان من نصيب أسرة رقية من الضيوف أرملة لها طفلين صغيرين طفل في الرابعة يسمى عبد الرحمن وصبية في عمر رقية تقريبًا تسمى وصال وأصبحتا صديقتان مقربتان، وتغيرت الأحوال في القرية وبدأ الرجال في تنظيم أنفسهم لمواجهة الخطر وشرعوا في شراء سلاح وشكلوا لجنة لتنظيم حراسة البلد وبدأوا بالتدرب على استخدام السلاح والتصويب فوق الأسطح، حتى أن الكلام تغير في القرية فأصبح ذكر أسماء العصابات الصهيونية وزعمائها أمرًا عاديًا بين نساء القرية فعرفن من هم الهاجاناة ومن شتيرن ومن إتسل ومن هو بن جوريون، وبعد فترة قصيرة وصلهم خبر وقوع محمد الحنيطي قائد حامية حيفا ورفاقه في كمين وهم عائدون من لبنان بشاحنتين من السلاح وبعد إسبوعين من الخبر سقطت حيفا، وساءت الأمور وعاد أخواها من حيفا مكان عملهما مشيًا على الأقدام عبر الأحراش والسكك الجبلية الملتفة، وخرج كل من في حيفا إلى الميناء جماعة لمغادرة البلد، وبعد سقوط حيفا التي كانت عاصمة القضاء استشهد عبد القادر الحسيني أثناء سقوط القسطل وفي اليوم التالي من سقوطها هاجم اليهود دير ياسين وذبحوا من ذبحوا من أهلها ثم سقطت عكا وبعدها صفد.

وفي يوم من أيام الجمعة كان مختلفًا عن بقيتها ساد في البلدة حالة صمت رهيبة غير طبيعية استغربتها رقية كثيرًا وتساءلت عن السبب ولكن لم يجيبها أحد، وفي مساء ذلك اليوم تأكد الخبر وأصبح واقعًا وبيانًا مكتوبًا وقع عليه زعماء اليهود وأعلنه بن جوريون والبيان يكون نافذًا بدءًا من الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل فينتهي الحكم البريطاني على فلسطين ويغدو البلد دولة اليهود ويصير اسمها إسرائيل.

ارتبك الأهالي وأصبحت الأخبار كثيرة تأتي من كل حدب وصوب والجميع يتحدثون ويتناقلون الأخبار عما تفعله الجيوش العربية فهذا يقول عبرت مصر رفح والعوجا وذاك يقول دخلت سوريا من جنوب بحيرة طبريا واللبنانيون عند رأس الناقورة وجيش الأردن عبر جسر دامية وغيرها من الأخبار التي احتموا وأخفوا خوفهم خلفها والتي اعتبروها تبشر بالخيرات.

وفي يوم أيقظت أم رقية ابنتها في منتصف الليل وأمرتها أن توقظ وصال وأخيها وأن تستعد للرحيل ووقفوا جميعًا أمام البيت وأغلقت أمها الباب بمفتاح كبير أدارته في القفل سبع مرات ووضعته في صدرها وتحركوا جميعًا إلى بيت جارهم أبي جميل وفور وصولهم أمرتهم أم وصال بأن يأكلوا فلا يعلموا ما سيحدث في اليوم التالي وظلوا جميعًا مستيقظين يفزعهم صوت القصف الذي يصم الآذان وفور طلوع الفجر دخل عليهم المنزل ثلاثة رجال مسلحون وساقوهم إلى الخارج مهددين لهم بأعقاب البنادق وإطلاق الرصاص فوق رؤوسهم، وفي الطريق رأت رقية الكثير من الجثث الملقاة بعضها لجيرانها ومعارفها والبعض الآخر لا تعرفه.

ساقوهم إلى الشاطئ وقسموهم إلى مجموعات الرجال في جهة والنساء والأطفال في جهة أخرى وشرعت المجندات في تفتيش النساء وأخذ كل ما معهن من حلي وأي ممتلكات أخرى ثم أخذوهم باتجاه المقبرة حيث كانت شاحنات في الانتظار لحملهم وطلبوا منهم الصعود تحت تهديد السلاح وقبل صعود رقية للشاحنة صرخت وأمسكت بذراع أمها عندما رأت أبيها وأخويها جثثًاهامدة على بعد أمتار قليلة منها وسط مجموعة من الجثث الأخرى لشباب ورجال البلدة.

أخذتهم الشاحنات إلى الفريديس على بعد أربعة كيلو مترات من الطنطورة وتم تسليمهم بالعدد المكتوب في الأوراق إلى مختار الفريديس وتم توزيعهم على بيوت الأهالي، وبعد أربعة أسابيع استلمهم الصليب الأحمر ونقولهم شرقًا إلى أرض قفر في المثلث واستلمهم ضباط أردنيون وحملتهم الباصات إلى طولكوم وأنزلوهم في مدرسة قرب سكة حديد الحجاز وأثناء إقامتهم هناك قصفهم اليهود مرة أخرى واستشهد منهم الكثير ثم تم نقلهم إلى دير المسكوبية في الخليل وخلال كل هذه الفترة كانت رقية لا تتكلم وكأنها فقدت القدرة على النطق.

وبعد ستة أشهر تفرق الجميع فذهب كل واحد إلى أهل أو معارف له فأعلنت أم رقية أنهم سيذهبون إلى صيدا عند عم رقية الذي كان قد سافر قبل فترة من الطنطورة وافترقت عنهم أم وصال ووصال وأخيها وذهبوا إلى جنين، أما رقية وأمها سلكتا الطريق إلى صيدا وعندما وصلتا إلى بيت عمها نطقت أول كلامها منذ أن تركت الطنطورة وهمست لعمها أن أبيها وأخويها قد قتلوا ورأتهم بأم عينها ولكن أمها ترفض التصديق وتقول إن زوجها في الأسر وابنيها هربا إلى مصر.

طلب عم رقية يدها إلى ابنه أمين وتمت الزيجة، كان أمين طبيبًا يعمل في وكالة الغوث وأنجبت منه رقيه ثلاثة أولاد، ثم انتقلت للعيش مع زوجها في بيروت لأن أمين بدأ العمل مع الهلال الأحمر الفلسطيني، بدأت رقية تزور نساء المخيم الذي يقطنه الفلسطينيون وفي أثناء زيارتها المتكررة علمت أن كل النساء حملن معهن مفتاح دارهن تمامًا كما فعلت أمها دون سابق اتفاق بينهن.

كان عم رقية أبو الأمين يكره الذهاب إلى المخيم ولا يطيق فكرة أنه لاجئ حتى أنه رفض إدراج أسمه وأسماء عائلته في كشوفات وكالة الغوث، ولكن بعد أن أعلن عبد الناصر تنحيه تمامًا ونهائيًا عن منصبه غادر المخيم مكانه بعد أن كان على أطراف المدينة وأصبح في المركز واستتب وكلما حاصره الجيش أو أطلق النار تصدر أكثر وأصبح أكثر تمركزا، حينها كان أبو الأمين كثير التردد على المخيم وأصبح له شهرة وكلمة مسموعة فيه يدرب الشباب ويعطي الأوامر هنا وهناك وأصبح يصطحب صادق حفيده الأكبر وألحقه بفريق الأشبال ويحث حسن حفيده الأوسط على رسم خريطة للبلاد حتى يعرفها أكثر وكان دائمًا ما يحكي لهم عن رسام الكاريكاتير المشهور ناجي العلي وعن معرفته الشخصية به.

عاشت رقية مع زوجها وأولادها في بيروت حتى كبر الأولاد وأصبحوا على دراية أكبر بالقضية ولكنهم تعرضوا للكثير من المضايقات بسبب أصلهم الفلسطيني فكانوا يوصفون بأنهم عصابات قاتلة، وبعد سنوات طويلة فاجأتها زيارة من ذلك الفتى الصغير الذي عاش عندهم هو وأخته وصال والذي لم يعد صغيرًا بالمرة بعد أن أتم دراسته الجامعية وأصبح يعمل في مركز الأبحاث بييروت، فعادت إليها الذكريات مؤلمة توقظ في قلبها نارًا حارقة، وأصبحت أكثر عزلة وانكماش فاقترح عليها زوجها والأولاد أن تكمل دراستها في المنزل وقد فعلت وأول ما قرأته كان قصة قصيرة لغسان كنفاني بعنوان “أرض البرتقال الحزين” وتأثرت بها كثيرًا ولكن ظل سطر واحد منها متعلق في ذهنها يقول ” وعندما وصلنا صيدا في العصر، صرنا لاجئين”.

وفي يوم من أيام شهر تموز كان شديد الحرارة وصلها خبر اغتيال غسان كنفاني الذي غادر البيت وركب سيارته وأدار المفتاح فانفجرت فيه السيارة هو وابنة أخته، وبعد 11 يوم من اغتيال غسان كنفاني جاءها خبر محاولة اغتيال أنيس صايغ في مركز الأبحاث الفلسطيني.

انشغلت رقية بأعمالها في المخيم تعطي دروسًا في محو الأمية للكبار ودروس تقوية للصغار وطباعة البيانات وتعرفت على الجميع وصار لها شعبية بين نساء المخيم وكل واحدة منهن شرعت تحكي لها حكايتها وكيف أخرجوهم من بلادهم قسرًا والرعب والعذاب الذي عشنه، وكيف كان اليهود يمنعونهم من رعاية الأرض أو حصاد المحصول وكيف قاومهم الأهالي وانقضوا عليهم بالأسلحة والعصي والسكاكين ففر اليهود هاربين وتركوا وراءهم أكياس القمح الذي حصدوه من أراضي البلدة وثلاثة مدافع رشاشة وسبع آلات كبيرة لحصد القمح، وعندما ذهب الشباب إلى أماكن تمركز اليهود في القرية وجدوا الكثير من الصناديق التي تحتوي على ممتلكات أهل القرية من ثياب ومفارش حتى الغرابيل لم يتركوها.

قرر الشباب البقاء لتأمين القرية حتى جاء عسكر جيش الإنقاذ وقالوا أنهم سيتكفلون بحماية البلدة وطلبوا منهم الإخلاء، ووقعت معارك بين جيش الإنقاذ واليهود حتى انسحب جيش الإنقاذ وهاجم اليهود القرى المجاورة وشردوا أهلها إلى لبنان واعتقلوا الكثير من الرجال وعندما أفرجوا عنهم ربطوا أعينهم ثم أنزلوهم عند نقطة الحدود مع لبنان وقالوا اركضوا ومن ينظر إلى الوراء يُقتل، ومجرد أن بدأوا بالركض أطلق عليهم اليهود النار ومات معظمهم ومن عاش حكى الحكاية.

مرض أبو الأمين وانقطع عن الذهاب إلى المخيم والمظاهرات ولازم الفراش وانتقلت رقية إلى بيت عمها لترعاه، اشتعلت المظاهرات في صيدا وكان على رأسها معروف سعيد والدكتور نزية البزري نائب صيدا في البرلمان وانتهت تلك المظاهرات برصاصة أصابت معروف سعيد وراح ضحيتها، اشتد الغضب بأهل صيدا وأقاموا جنازة كبيرة لتشييع جثمانه وأقيمت جنازات رمزية في بيروت والبلدان المجاورة، وأخذ أبو الأمين يحكي لهم عن معروف سعيد الذي كان يدرس في مدرسة البرج في حيفا ويشاركهم في المقاومة المسلحة، ويعمل مع الشباب في الجنوب لمنع تصدير الخضراوات والفواكة عبر الحدود الفلسطينية اللبنانية إلى المستوطنين وسلطات الاحتلال البريطاني، يحكي أبو الأمين وهو يبكي وبعدها رحل وكان في رحيله رحمة فلم يكن ليتحمل هول الأيام القادمة فكيف كان سيتحمل حصار تل الزعتر وتحالف سوريا مع الكتائب وأن جماعة عرفات وأمل يقتلون الأهالي في الجنوب وجماعة أمل تحاصر المخيمات.

اندلعت الحرب في لبنان وتمنت رقية لو يسافر أولادها بعيدًا عن الخراب وبالفعل سافر صادق للعمل في الخليج وحسن للدراسة في مصر وظلت هي وزوجها وعبد الرحمن الصغير في بيروت، وفي يوم جاء أمين لها ببنت صغيرة تسمى مريم أنقذوها من تحت الأنقاض بعد أن دُمر بيتها تحت القصف وفقدت كل أهلها وهي الوحيدة التي نجت، فأحبتها رقية كثيرًا.

كانت الحرب تتبعها حرب ثم حرب أخرى وهكذا، وتوالت النكبات فمثلا عام 1975 اختطفت الكتائب 300 مسلم وقتلت سبعين آخرين فردت الحركة الوطنية بالاستيلاء على منطقة الفنادق وبعدها سادت الفوضى وكثرت عمليات النهب والشغب والاعتقالات الجماعية، وقبل ذلك كان قد قُتل 63 من العمال السوريين وأُجبر الآلاف منهم على الرحيل وبعدها حصار تل الزعتر وجسر الباشا وأحياء في الصفيح ثم الاجتياح الإسرائيلي عام 1978.

كانت رقية تحتفظ دائمًا بحقيبة صغيرة يمكن حملها على عجل عند اشتداد القصف فتأخذها مسرعة وتأخذ مريم وأم الأمين وتسرع إلى الملجأ، استمر القصف اليومي طوال شهرين وفي نهاية الشهر الثالث رحلت المقاومة عن بيروت وظنت رقية أن الحرب انتهب بالهزيمة واحتلت لبنان، ولكن لم تطل المدة حتى جاءهم خبر انفجار بيت الكتائب في الأشرفية وموت بشير الجميل وبعدها بيوم واحد استيقظوا على قصف شديد علموا بعده أن القوات الإسرائيلية تتقدم لاحتلال بيروت الغربية وحاصرت مخيمي صبرا وشاتيلا من جديد والأحياء المناهضة لهما، ثم دخلوا المستشفى العام يبحثون عن المخربين ولكنهم لم يجدوا أحد فأكلوا وشربوا من كافتيريا المستشفى دون استئذان ووزعوا الحلوى على الأطفال وسمحوا لهم باللعب قرب حواجز التفتيش فقد احتلوا البلاد وحققوا ما أرادوا ولا حاجة لمزيد من العنف والقتل والآن الوجه الآخر لهم: شوكولاتة وبونبون وابتسامة بالكلوروفيل “وجئنا لنحميكم”.

ولكن جاء العنف من طريق آخر، سمعت رقية صوت القصف فاتجهت إلى الملجأ هي ومريم وأم الأمين ولكن كان القصف مختلف فكانت القذائف تضئ السماء وكأنها الظهيرة ولا أثر لدخان أو غبار وعندما انتهى القصف رجعوا إلى بيوتهم، وفي وقت متأخر من الليل سمعت رقية طرق شديد على الباب ففتحت الباب فزعة فوجدت هنية تلك الممرضة التي أتى بها أمين لترعى أمه ولكنها كانت في حال يرثى لها بثياب ممزقة تحمل صغيرها بين يديها وطفلتها معلقة على ظهرها بأقمطة من القماش، وحكت لرقية عما حدث لهم في ملجأ أبو ياسر حين دخل عليهم مسلحون من الكتائب يتحدثون العربية وأخرجوهم من الملجأ وأوقفوا الرجال في صفوف بمحازاة الحائط والنساء والأطفال في صفوف أخرى وساقوهم بعيدا أثناء ذلك أطلقوا النيران على كل الرجال عند الحائط وهي استطاعت أن تركض مبتعدة ومتحاشية كل الطلقات التي انهمرت عليها حتى وصلت إلى المستشفى فضمدوا جراحها ثم انطلقت إلى بيت رقية.

ثم وصلهم الأخبار أن تلك القنابل الضوئية أطلقتها القوات الإسرائيلية لتسهل على الكتائب اللبنانية الدخول وأن الكتائب ورجال سعد حداد يدخلون البيوت ويقتلون الناس بالبلطات والسكاكين ويغتصبون البنات ويهدمون البيوت على رؤوس أصحابها بالجرافات.

أما ما حدث في مستشفى عكا كان الفاجعة الكبرى، قامت الكتائب بمحاصرة المستشفى وأخرجوا الأطباء والعاملين فيها وأوقفوا الأجانب في صف والعرب في صف آخر وكانت معاملتهم للأجانب لطيفة نسبيا، ثم ساقوا العرب إلى المدينة الرياضية وقتلوا العض والبعض الآخر قد اختفوا ولم يُسمع عنهم أي أخبار وقاموا باختطاف ممرضتين إحداهما فلسطينية والأخرة لبنانية وتناوبوا على اغتصابهما حتى الموت، ثم رحلوا عن المستشفى بعدما أخلوها كاملة حتى قسم الأطفال، وفي اليوم التالي وجدت ممرضة طفلًا مقتولا في حديقة المستشفى وعندما عادت إلى صبرا وجدت أطفالا مقتولين تعرفت عليهم ممن كانوا في المستشفى ومن بينهم طفل مشلول قتل ببلطة، وشهد عدد من الناس أنهم وجدوا في ملجأ مغلق جنوب غرب المخيم في حي عِرسال جثثُا مكومة على بعضها بينها جثث رضع وأطفال غير مكتملة النمو ويعتقد أنهم المواليد الذين كانوا في المستشفى، وكان أمين من ضمن المفقودين في حادث المستشفى.

رغم كل هذا تمسكت رقية بحياتها في لبنان على الرغم من وجود تسريبات في الجرائد عن خطط لتقليص عدد الفلسطينيين في لبنان من نصف مليون إلى خمسين ألف، وكثرت المنشورات التي تلقى على المخيم تتوعد وتهدد والاعتقالات اليومية وعمليات القتل والخطف والجثث المشوهة التي يجدونها بالقرب من عين الحلوة وصيدا، والمنشورات التي تطالب الغرباء الإرهابيين الذين قهروا لبنان وتسببوا في خرابه بالرحيل، ويسمون الفلسطينيين بالقتلة والجراثيم والقمامة ويرددون أن إسرائيل جاءت لتخلصهم منهم وأن لبنان وإسرائيل سيكتسبان قوة بالعمل معًا، ويقولون ستجتمع الحضارتان.

بعد أربع سنوات قررت رقية الانتقال مع مريم لتعيش مع ابنها صادق في أبوظبي ولكن رغم عيشها المنعم هناك كان دائمًا بداخلها حنين لبلدها الطنطورة وأهلها حتى قابلت أبي محمد في أبوظبي شيخ من الطنطورة فتوثقت بينهم علاقة ود وأصبح بينهم زيارات متعددة حكى لها فيها عن المعاناة التي عاشها وما فعله معهم الجنود الإسرائيليين وكيف حشروهم في الشاحنات وحبسوهم كل 30 في غرفة ضيقة لا تتسع لهم إلا وهم واقفين ولا طعام فقط إهانات وضرب، وأجبروهم على العمل بالسخرة في هدم بيوت أهاليهم، وكيف جاءوا بشاحنات تحمل مئات الرجال وكان واضحًا أنهم لم يتناولوا شربة ماء منذ أيام فأنزلوهم على صنبور ماء واحد فتدافعوا عليه وأطلق عليهم اليهود النار فمات منهم من مات وعرفوا بعد ذلك أنهم أسرى من اللد والرملة.

كانت رقية تحب رسومات ناجي العلي وكانت تتابعها كل يوم في جريدة بيروت بل وتقصها وتحتفظ بها، وكانت الرسومات تتضمن شخصية واحدة ثابته لفتى في العاشرة من عمره يسمى حنظلة في ثوبه رقعة وشعره مشعث يقول عنه ناجي العلي أنه كأشواك القنفذ المستنفرة للدفاع عن النفس، توقفت رقية عند رسمة لناجي العلي نُشرت في جريدة السفير بتاريخ 16/9/1982، حنظلة يتطلع إلى مقبرة جماعية عليها صلبان تمتد على مدى النظر حتى خط الأفق حيث تلتقي مع سماء سوداء كل صليب منها كأنه إنسان مصلوب تشير يده للجندي الإسرائيلي في أقصى يسار اللوحة وكأن ناجي توقع المجزرة قبل يوم من وقوعها، وطوال ثلاثة أيام تلت لم تحمل الجريدة رسمة لناجي العلي وكأنه التزم الحداد لثلاثة أيام، وفي يوم 22/9/1982 نشرت الجريدة في المكان المعتاد رسمة له عبارة عن العلم اللبناني يقطعه شريط بالطول كُتب عليه كلمة “النهاية ” وتحت العلم كومة من الجثث الدامية وحنظلة يتطلع، كانت رقية ترى أن رسوماته في غاية الأهمية ما داموا يخشونها إلى حد قتله.

وبعد سنوات كثيرة قضتها رقية في أبوظبي قررت السفر مع مريم إلى الإسكندرية لتدرس مريم الطب وبعد اسبوع من وصولهم شاهدت على التلفاز توقيع اتفاقية أوسلو فسرت المرارة في حلقها وتحطم قلبها من الحزن وفي نفس المكان وعبر نفس التلفاز شاهدت أخبار مجزرة الخليل ثم وقائع اجتياح إسرائيلي جديد لجنوب لبنان ومذبحة قانا وتتابع جنازة الشهداء في صمت.

بعد أن أتمت مريم دراستها وسافرت مع أخيها عبد الرحمن إلى فرنسا قررت رقية الرجوع إلى صيدا مهما كلف الأمر ولو كان بيدها لرجعت للطنطورة، تولى صادق الأمر ودبر لها شقة، بالرغم من سوء الأحوال في المخيم سُمح لهم بالذهاب للحدود الفلسطينية لمقابلة ذويهم وأقربائهم ولكن من خلف الأسلاك الشائكة وذهبت معهم رقية، رأت الناس خلف الأسلاك وتعالت الصيحات والزغاريد وكانت المفاجأة الكبرى عندما وجدت ابنها حسن الذي لم تره من سنين لأنه ممنوع من دخول لبنان خلف الأسلاك هو وزوجته وأولاده ويحمل بنت صغيرة لم تكن قد رأتها حتى هذه اللحظة أسماها رقية وحملها إليها فوق الأسلاك التقطتها رقية ونظرت إليها بحب ثم سحبت مفتاح دارهم الذي علقته في رقبتها كما كانت تفعل أمها ووضعته على الصغيرة وأعادتها إلى أبيها صائحة ” مفتاح دارنا يا حسن، هديتي إلى رقية الصغيرة”.

للمزيد من ملخصات الكتب

ملخص رواية ثلاثية غرناطة

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Aya Gamal
Author: Aya Gamal

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فكر ملخصات كتب

User Avatar

Aya Gamal


عدد مقالات الكاتب : 36
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.