غير مصنف

ويلارد ليبي وثورة التأريخ بالكربون المشع

في عام 1946، اقترح العالم الفيزيائي ويلارد ليبي “Willard Libby” طريقة مبتكرة لتأريخ المواد العضوية عن طريق قياس محتواها من الكربون-14. الكربون-14 هو نظير مشع للكربون تم اكتشافه حديثًا حينها. و توفر هذه الطريقة، المعروفة باسم التأريخ بالكربون المشع، تقديرات موضوعية لعمر الأجسام المعتمدة على الكربون والتي نشأت من كائنات حية. إن “ثورة الكربون المشع” التي أصبحت ممكنة بفضل اكتشاف ليبي أفادت بشكل كبير مجالات علم الآثار والجيولوجيا. إذ سمحت للممارسين بتطوير تسلسلات تاريخية أكثر دقة عبر الجغرافيا والثقافات. فما هي تلك التقنية؟

من هو ويلارد ليبي؟

ولد “ليبي” في جراند فالي، كولورادو، في أمريكا في 17 ديسمبر 1908. درس الكيمياء في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1931 والدكتوراه في عام 1933. وفي عام 1941، حصل ليبي على زمالة غوغنهايم، لكن خططه تعطلت بسبب دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. ذهب ليبي إلى جامعة كولومبيا، حيث عمل على إنتاج اليورانيوم المخصب لبرنامج الأسلحة الذرية في البلاد.

عندما انتهت الحرب، أصبح ليبي أستاذًا في قسم الكيمياء ومعهد الدراسات النووية (معهد إنريكو فيرمي الآن) بجامعة شيكاغو. وهنا طور نظريته وطريقته في التأريخ بالكربون المشع، والتي فاز على إثرها بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1960.
غادر ليبي شيكاغو عام 1954 بعد تعيينه مفوضًا لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية. وفي عام 1959، عاد للتدريس في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، حيث بقي حتى تقاعده في عام 1976. وتوفي ليبي في عام 1980 عن عمر يناهز 71 عامًا.

ويلارد ليبي

قصة اكتشاف التأريخ بالكربون المشع

إن التأريخ بالكربون المشع تقنية تعتمد على اضمحلال نظير الكربون-14 لتقدير عمر المواد العضوية. حيث تستخدم لتأريخ مواد مثل الخشب والجلود، ويصل عمرها إلى 58,000 – 62,000 سنة. اكتشفها العالم الفيزيائي “ويلارد ليبي” عام 1949. بدأ ليبي، أستاذ الكيمياء في جامعة شيكاغو، البحث الذي قاده إلى التأريخ بالكربون المشع في عام 1945. وقد استوحى أفكاره من الفيزيائي “سيرج كورف” من جامعة نيويورك، الذي اكتشف في عام 1939 أن النيوترونات يتم إنتاجها أثناء قصف الغلاف الجوي بالأشعة الكونية. وتوقع “كورف” أن التفاعل بين هذه النيوترونات والنيتروجين-14، الذي يسود الغلاف الجوي، سينتج الكربون-14، والذي يسمى أيضًا الكربون المشع.

دورة الكربون

أدرك ليبي بذكائه أن الكربون-14 في الغلاف الجوي سوف يجد طريقه إلى المادة الحية، والتي ستكون بالتالي موسومة بالنظائر المشعة. من الناحية النظرية، إذا تمكن المرء من اكتشاف كمية الكربون-14 في جسم ما، فيمكن تحديد عمر ذلك الجسم باستخدام نصف عمر النظير، أو معدل اضمحلاله. [1] في عام 1946، اقترح ليبي هذه الفكرة الرائدة في مجلة Physical Review.[2]

تحليل توازن الكربون

ركز مفهوم التأريخ بالكربون المشع على قياس محتوى الكربون في الأجسام العضوية. ولكن من أجل إثبات الفكرة، كان على ليبي أن يفهم نظام الكربون في الأرض. سيكون التأريخ بالكربون المشع أكثر نجاحًا إذا كان هناك عاملان مهمان صحيحان: أن تركيز الكربون-14 في الغلاف الجوي كان ثابتًا لآلاف السنين. وأن الكربون-14 يتحرك بسهولة عبر الغلاف الجوي والمحيط الحيوي والمحيطات والخزانات الأخرى في الغلاف الجوي في عملية تعرف باسم “دورة الكربون“. وفي غياب أي بيانات تاريخية تتعلق بكثافة الإشعاع الكوني، افترض ليبي ببساطة أنه كان ثابتًا. لقد رأى أن حالة التوازن يجب أن تكون موجودة حيث يكون معدل إنتاج الكربون-14 مساوياً لمعدل اضمحلاله، والذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين. (لحسن حظه، ثبت فيما بعد أن هذا صحيح بشكل عام).

وبالنسبة للعامل الثاني، سيكون من الضروري تقدير الكمية الإجمالية للكربون-14ومقارنتها بجميع نظائر الكربون الأخرى. واستنادًا إلى تقدير “كورف” بأنه يتم إنتاج نيوترونين فقط في الثانية لكل سنتيمتر مربع من سطح الأرض، يشكل كل منهما ذرة كربون-14. فخَلُصَ ليبي إلي أن النسبة هي ذرة كربون-14 فقط لكل 1012 ذرة كربون على الأرض.

كانت مهمة ليبي التالية هي دراسة حركة الكربون خلال دورة الكربون. في النظام الذي يتم فيه تبادل الكربون-14 بسهولة طوال الدورة، يجب أن تكون نسبة الكربون-14 إلى نظائر الكربون الأخرى هي نفسها في الكائن الحي كما في الغلاف الجوي. ومع ذلك، فإن معدلات حركة الكربون طوال الدورة لم تكن معروفة آنذاك. قام ليبي وطالب الدراسات العليا “إرنست أندرسون” بحساب اختلاط الكربون عبر هذه الخزانات المختلفة، خاصة في المحيطات، التي تشكل أكبر خزان. تنبأت نتائجهم بتوزيع الكربون-14 عبر خصائص دورة الكربون وشجعت ليبي على الاعتقاد بأن التأريخ بالكربون المشع سيكون ناجحًا. [3]

خصائص الكربون-14 ونظائره

الكربون-14 هو نظير مشع للكربون، حيث تحتوي نواته على 6 بروتونات و 8 نيوترونات. يوجد هذا النظير بشكل طبيعي في المواد العضوية مثل الأشجار والأخشاب القديمة. ويوجد ثلاثة نظائر طبيعية للكربون على سطح الأرض: 99% منها كربون-12، و1% كربون-13، وكمية ضئيلة جدًا من الكربون-14، تقريبًا 1 جزء في التريليون (0.0000000001%) في الغلاف الجوي.

تم اكتشاف الكربون-14 لأول مرة في عام 1940 على يد “مارتن كامين” و”صامويل روبن”، اللذين قاما بإنشائه بشكل مصطنع باستخدام معجل السيكلوترون في مختبر الإشعاع بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. أثبتت الأبحاث الإضافية التي أجراها ليبي وآخرون أن نصف عمر الكربون-14 يبلغ 5,568 عامًا، مما يوفر عاملاً أساسيًا آخر في مفهوم ليبي. لكن لم يتمكن أحد وقتها من اكتشاف الكربون-14 في الطبيعة. في هذه المرحلة، كانت تنبؤات كورف وليبي حول الكربون المشع نظرية بالكامل. من أجل إثبات مفهومه عن التأريخ بالكربون المشع، كان ليبي بحاجة إلى تأكيد وجود الكربون-14 الطبيعي، وهو تحدٍ كبير بالنظر إلى الأدوات المتاحة آنذاك.

في ذلك الوقت، لم تكن هناك أي أداة للكشف عن الإشعاع (مثل عداد جيجر) حساسة بما يكفي للكشف عن الكمية الصغيرة من الكربون-14 التي تطلبتها تجارب ليبي. تواصل ليبي مع “أريستيد فون جروس” من شركة Houdry Process Corporation الذي كان قادرًا على تقديم عينة من الميثان تم إثرائها بالكربون-14 والتي يمكن اكتشافها بواسطة الأدوات الموجودة. و باستخدام هذه العينة وعداد جيجر العادي، أثبت ليبي وأندرسون وجود الكربون-14 الموجود بشكل طبيعي، وهو ما يتوافق مع التركيز الذي تنبأ به كورف.

نجحت هذه الطريقة، لكنها كانت بطيئة ومكلفة. ولحسن الحظ، طورت مجموعة ليبي بديلاً. لقد أحاطوا غرفة العينة بنظام عدادات جيجر التي تمت معايرتها للكشف عن الإشعاع الخلفي الموجود في جميع أنحاء البيئة والقضاء عليه. وقد أطلق على التجمع اسم “مكافحة الصدفة” “anti-coincidence counter.”. وعندما تم دمجه مع درع سميك يعمل على تقليل إشعاع الخلفية بشكل أكبر وطريقة جديدة لتقليل العينات إلى كربون نقي للاختبار، أثبت النظام أنه حساس بشكل مناسب. وأخيرا، كان لدى ليبي طريقة لوضع مفهومه موضع التنفيذ.

عداد مكافحة الصدفة لويلارد ليبي

اختبار التأريخ بالكربون المشع

يعتمد مفهوم التأريخ بالكربون المشع على افتراض جاهز مفاده أنه بمجرد موت الكائن الحي، فإنه سينقطع عن دورة الكربون، وبالتالي يتم إنشاء كبسولة زمنية مع تناقص ثابت في عدد الكربون-14 بداخله. سيكون للكائنات الحية من اليوم نفس كمية الكربون-14 الموجودة في الغلاف الجوي، في حين أن المصادر القديمة للغاية التي كانت حية ذات يوم، مثل طبقات الفحم أو النفط، لن يتبقى منها شيء. بالنسبة للأشياء العضوية ذات الأعمار المتوسطة – بين بضعة قرون وعدة آلاف من السنين – يمكن تقدير العمر عن طريق قياس كمية الكربون-14 الموجودة في العينة ومقارنتها بنصف العمر المعروف للكربون-14.

ولاختبار هذه التقنية، طبقت مجموعة ليبي عدادًا مضادًا للمصادفة على عينات كانت أعمارها معروفة بالفعل. من بين الأشياء الأولى التي تم اختبارها كانت عينات من الخشب الأحمر وأشجار التنوب، والتي تم معرفة عمرها من خلال حساب دورات نموها السنوية. كما قاموا بأخذ عينات من القطع الأثرية من المتاحف مثل قطعة من الخشب من القارب الجنائزي للفرعون المصري سنوسرت الثالث، وهي قطعة عُرف عمرها من خلال سجل وفاة صاحبها.

و في عام 1949، نشر ليبي وأرنولد النتائج التي توصلا إليها في مجلة العلوم، مقدمين ما يعرف باسم “منحنى المعارف” “Curve of Knowns”. يقارن هذا الرسم البياني العمر المعروف للقطع الأثرية مع العمر المقدر كما هو محدد بواسطة طريقة التأريخ بالكربون المشع. وأظهرت أن جميع نتائج ليبي تقع ضمن نطاق إحصائي ضيق للأعمار المعروفة، مما يثبت نجاح التأريخ بالكربون المشع.

منحني المعارف لويلارد ليبي

كيفية قياس تركيزات الكربون-14

اليوم، هناك طريقتان أساسيتان لقياس تركيزات الكربون-14 في العينات وهي:

القياس الإشعاعي : حيث تقوم بحساب معدل اضمحلال الذرات الفردية في العينة باستخدام عداد الغاز المتناسب (أحد أشكال عداد جيجر) “gas proportional counter” أو عداد الومضات السائل “liquid scintillation counter”.

أما الطريقة الثانية، فهي القيام بإجراء تحليل نظائري كامل في مطياف الكتلة المسرع “Accelerator Mass Spectrometer(AMS)“.

يعد قياس الإشعاع  رخيصًا نسبيًا (حوالي 300 دولار/عينة)، ويستغرق حوالي شهر للحصول على إحصائيات مرضية، ويتطلب حوالي 100 جرام. وتعد طريقة جيدة لحساب متوسط المواد المكونة من مواد من مختلف الأعمار (رواسب البحيرات وما إلى ذلك). أما التحليل النظائري الكامل مكلفًا نسبيًا (حوالي 600 دولار/عينة أو أكثر اعتمادًا على وقت الإعداد المطلوب. ويرجع ذلك إلي أن أجهزة قياس الطيف الكتلي باهظة الثمن، حيث تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، ولا يوجد بها سوى عدد قليل من المرافق)، ويستغرق حوالي أسبوع، ويتطلب حوالي جرام فقط. وتعد طريقة جيدة لتأريخ عينات معينة، إبرة صنوبر على سبيل المثال، عندما تحتوي العينة على مواد دخيلة أصغر سنا.

Accelerator Mass Spectrometer

و يتم استخدام معايير معايرة (calibration standards) مختلفة لقياسات النشاط الإشعاعي. ومن الأنواع الشائعة المستخدمة حاليًا هو حمض الأكساليك II، والذي تم استخلاصه من محصول دبس البنجر الفرنسي عام 1977. حيث تقوم المعامل بتأريخ هذا للتأكد من حصولهم جميعًا على نفس الإجابة. و يتضمن إعداد العينات (وهي عملية تتطلب مهارة وعمالة مكثفة) استخلاص الكربون في صورة ثاني أكسيد الكربون، وتنقيته، ثم تحويله إلى مركب عضوي مثل البنزين أو التولوين الذي يسهل التعامل معه وقد تختلف تلك الطرق من معمل إلي معمل.

تشمل المواد التي تم تأريخها بالكربون المشع منذ بداية هذه الطريقة ما يلي:

Related Post

• الفحم، الخشب، الأغصان، البذور، الخث، حبوب اللقاح، الراتنجات.

• العظام والأصداف والشعاب المرجانية.

• الشعر، الجلد، بقايا الدم.

•بحيرة الطين والتربة والماء.

• الفخار، واللوحات الجدارية، والأقمشة، والورق، والرق.

ويجب أن تحتوي جميعها على الأقل على بعض الكربون من أصل عضوي. لسوء الحظ, ليس كل شيء سهلاً حتى الآن. فعلي سبيل المثال، لا تحتوي عظمة ساق الماموث الصوفي الموجودة في “جابريولا” على ما يكفي من الكولاجين لتحليل الكربون-14.

عظمة ساق الماموث الصوفي

ثورة الكربون المشع

كان لإدخال التأريخ بالكربون المشع  تأثير هائل على كل من علم الآثار والجيولوجيا. وهو تأثير يشار إليه غالبًا باسم “ثورة الكربون المشع”. فقبل بحث ليبي، كان على الباحثين في هذه المجالات الاعتماد على طرق تأريخ نسبية فقط، مثل مقارنة طبقات الموقع الذي تم العثور فيه على القطع الأثرية، على افتراض أن طبقات الموقع تم وضعها بتسلسل زمني. إن المقارنة النسبية تقوم ببساطة بترتيب الأحداث دون قياس عددي دقيق. على النقيض من ذلك، قدم التأريخ بالكربون المشع أول طريقة للتأريخ الموضوعي، وهي القدرة على ربط تواريخ رقمية تقريبية بالبقايا العضوية.

ساعدت هذه الطريقة في دحض العديد من المعتقدات السابقة، بما في ذلك فكرة أن الحضارة نشأت في أوروبا وانتشرت في جميع أنحاء العالم. كما ساهم عمل ليبي بشكل كبير في الجيولوجيا. وباستخدام عينات خشبية من الأشجار التي كانت مدفونة تحت الجليد الجليدي، أثبت ليبي أن آخر طبقة جليدية في شمال أمريكا الشمالية انحسرت منذ 10 آلاف إلى 12 ألف عام، وليس 25 ألف عام كما قدر الجيولوجيون سابقًا.

عندما قدم ليبي لأول مرة التأريخ بالكربون المشع للجمهور، قدر بكل تواضع أن هذه الطريقة ربما كانت قادرة على قياس أعمار تصل إلى 20 ألف سنة. ومع التقدم اللاحق في تكنولوجيا الكشف عن الكربون-14، يمكن لهذه الطريقة الآن أن تؤرخ بشكل موثوق مواد عمرها يصل إلى 50 ألف سنة.

المصادر

1-Radioactive decay

2-Radiocarbon Dating

3-Willard Libby and Radiocarbon Dating

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Author: ahmed kasem

ahmed kasem

Share
Published by
ahmed kasem

Recent Posts

استخدام حرارة الجسم لشحن الأجهزة القابلة للإرتداء في المستقبل

توصل باحثون إلى اكتشاف رائد يمكن أن يحدث ثورة في عالم التكنولوجيا القابلة للارتداء. لقد…

17 ساعة ago

عصام حجي يقترح طريقة علمية لتقاسم موارد النيل

مع تصاعد التوترات حول نهر النيل، الذي يشكل شريان حياة بالغ الأهمية لملايين البشر في…

17 ساعة ago

سوء استخدام الإنسان للذكاء الاصطناعي سيجعله أكثر خطورة

من المتوقع أن تشهد البشرية في السنوات القليلة المقبلة تطورات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي.…

17 ساعة ago

المشي حافيًا قد يجعلك أكثر عرضة لمقاومة المضادات الحيوية

مقاومة المضادات الحيوية، التي تمثل تهديدًا صحيًا عالميًا متزايدًا، لها سبب مفاجئ وهي التربة. حيث…

18 ساعة ago

كيف حاول السهروردي وابن عربي شرح طبيعة الإله؟

في عالم الفلسفة الإسلامية، تم التغاضي عن مفهوم رائع لعدة قرون. لقد كانت الأحادية (monism)،…

يومين ago

دراسة تكشف أن الحياة لا تحتاج إلى وجود كوكب!

من خلال إعادة التفكير في افتراضاتنا حول الحياة خارج الأرض، يتحدانا عالمان للنظر في إمكانية…

يومين ago
Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.