Ad

عند ذكر الشياطين تأتي الاستعاذة!. صورها لنا علماء الدين على هيئة الشر الذي أخرج بني آدم من الجنة، ووظفتها السينما لتكون مادة خام لأفلام الرعب. ولكن ماذا لو لم تكن كل الشياطين سيئة؟ فهنالك مصطلح معروف في الوسط العلمي والفلسفي باسم شياطين العلم “Scientific Demons”. وهي ليست شياطين بالشكل الذي نعتقده، بل هي طريقة أو فكرة لمساعدة العلماء في توصيف تجاربهم العقلية. اتفق العلماء على مصطلح شياطين العلم، ولكن اختلف كلًُ منهم في اسم شيطانه ليوافق تجربته أو فلسفته.

هنالك نوعان من التجارب، التجارب المخبرية وهي تجارب يمكن للعلماء القيام بها بداخل المختبر ليحصلوا على نتائج وقوانين يمكن إثباتها بتجربة مادية. أما التجارب الفكرية، فهي تلك التي لا يمكن القيام بها داخل المختبر، بل مجازيًّا تحدث داخل عقل العالم إما لاستحالة إجرائها، أو ربما لكونها غير أخلاقية. لذلك يستحضرها العالم في عقله ويستدعي شيطانًا مجازيًّا لذلك. تستخدم التجارب الفكرية لمساعدة العلماء في فهم مدى ترابط وحدود العالم من حولنا. كما أنها تطلق العنان لطرح فرضيات جديدة تثير التساؤلات، وربما أيضًا محاولة دحض فرضيات أخرى بهدف فهم الكون في صيغة “ماذا لو؟”. ومن شيطان ديكارت ونيتشه في الفلسفة، إلى شيطان لابلاس وماكسويل في العلوم، دعونا نلقي نظرة على شياطين العلم، وكيف استفاد العلماء من شياطينهم؟

أشهر شياطين العلم

تساهم شياطين العلم في سد الفجوة بين ما نلاحظه في العالم الحقيقي، وما يمكن تنبؤه من الافتراضات الفضفاضة. شياطين العلم هي أداة مفيدة للعلماء لأنها تعزز قدرتهم على الإبداع واكتشاف ما هو أبعد من المعروف. استخدمها بعضهم فيما يمكن اعتباره مستحيل على الجسد البشري كالسفر بسرعة الضوء أو المشي على الماء لنتمكن من تجاوز الحدود الفيزيائية والأخلاقية.

شيطان فرويد

استوحى فرويد شيطانه من شيطان العلم الخاص بماكسويل. وجعله بطبيعة الحال حارس خارق للطبيعة يراقب ويفرز النبضات العقلية بين العقل الواعي واللاواعي. فصوّر فرويد العقل اللاواعي على هيئة غرفة كبيرة، والعقل الواعي على أنه غرفة صغيرة، ويعمل الشيطان حارسًا على تلك البوابة الفاصلة بينهما. ساعد هذا النموذج فرويد على محاكاة ما يتصوره عن تأثير الدوافع اللاواعية على السلوك البشري. وبالرغم من اعتراف فرويد بمحدودية نموذجه، إلا أنه أكد بمحاكاته تلك أننا نستطيع البقاء على مقربة من السلوك البشري الذي يمكن ملاحظته. وقدّر فرويد القوة الإرشادية لنموذجه في توجيه المزيد من الاستكشاف.

يحافظ شيطان فرويد على العقل الواعي، ويمنع تسلل الأفكار السلبية للعقل الواعي. ولكن أحيانًا ما يغفل الشيطان عن فرز بعض الأفكار التي تنساب عبر البوابة دون ملاحظته لها. فيسمح لها بالمرور على الرغم من مخالفتها للقواعد والانضباطات العامة، كما يحدث عند رؤيته للنكات. يعتقد فرويد أن المزحة وسيلة يتحايل بها العقل اللاواعي على الشيطان لإيصال مكنونات ورغبات البشر دون الخوف من نظرة المجتمع. كما يرى فرويد أن الأحلام مثلًا وزلات اللّسان هي مكنونات تَكشف الرغبات والصراعات التي ربما حجبها “الشيطان” عن العقل الواعي.

شيطان ديكارت

قام الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بإنشاء تجربة عقلية لاستكشاف حدود المعرفة وما يعرف بالشك. ويمثل شيطان العلم لدى ديكارت هنا كل ما يمكن أن يشكك الإنسان فيه مما حوله من بصريات أو سمعيات وغيرها. حيث توصل ديكارت إلى أن السبيل الوحيد للتغلب على هذا الشيطان تكمن في التفكير، حتى لا يتمكن هذا الشيطان من تشكيكه في وجوده. ومن هنا اشتهرت جملته الشهيرة “أنا أفكر، إذًا أنا موجود”.

فكما نعرف، فحواسنا ليست دقيقة بالمرة، ويمكن لعقلنا أن يخدعنا ليكمل الصورة ويساعدنا في الاستقرار العقلي بعيدًا عن اضطرابات التفكير. ولكن بالتفكير فقط يمكننا أن نميز إذا ما كان ما أمامنا حقيقة أم لا وفق ما اعتقده ديكارت. وقد حوّل ديكارت الشك لأداة تثبت وجودنا وتساهم في محاربة شيطانه المتمثل في كل ما هو ظاهره حقيقي وباطنه غير ذلك.

شيطان لابلاس

يقول الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل في كتابه نظام المنطق: “إذا افترضنا إمكانية تكرار ما حدث للكون سابقًا، فإن النتيجة ستصبح تكرار وضع الكون كما هو عليه مرة أخرى”. ومن هذا المنطلق يمكننا تلخيص ما يقوم به شيطان العلم الخاص بالعالم بيير سيمون لابلاس. فبناءًا على معطيات الحاضر يمكن لشيطان لابلاس التنبؤ بما يمكن أن يحدث في المستقبل بما في ذلك السلوك البشري. ويعتبر شيطان لابلاس مراقب فقط لا يتدخل في مسار الجزيئات، ويكتفي فقط بمعرفة حركة ومسار الجسيمات الحالية. ليتمكن من توقع المستقبل ومعرفة الماضي الخاص بتلك الجسيمات.

تصور لابلاس ذلك الشيطان ذو معرفة كاملة بالظروف الأولية للكون وقوانين الفيزياء، ليمثل بدوره الحتمية السببية. فيستطيع التنبؤ بالمستقبل بالاعتماد على فرضية قابلية العكس والميكانيكا الكلاسيكية، ولكن يستحيل عمليًّا على البشر معرفة جميع قوانين الكون الأولية. وبسبب الطبيعة الاحتمالية لميكانيكا الكم، تتحدى ميكانيكا الكم الحتمية الصارمة، مما ترك مجالًا للعشوائية وعدم القدرة على التنبؤ. ويثير شيطان لابلاس العديد من الخلافات العلمية الأخلاقية، حيث يهدد بوجوده الإرادة الحرة للبشر، كما يتدى مبدأ الصدفة في الكون.

شيطان ماكسويل

يعتبر شيطان ماكسويل من أشهر شياطين العلم الذي يتحدى به القانون الثاني للديناميكا الحرارية، ويتمتع كذلك بمعرفة هائلة وسيطرة على الجزيئات الفردية. ينص القانون الثاني للديناميكا على أن الإنتروبيا -أو الفوضى- تتزايد دائمًا في الأنظمة المغلقة، وذلك عن طريق فرز الجزيئات بناءً على سرعتها وخلق اختلافات في درجات الحرارة. تخيل ماكسويل غرفتين بينهما معبر، يقوم شيطانه بالسماح للجزيئات السريعة بالمرور من حجرة إلى أخرى، بينما يعوق الجزيئات البطيئة. مما يخلق فرقًا في درجة الحرارة بين الغرفتين. فإذا نجح الشيطان في تلك المهمة، فهذا يشير إلى أن القانون الثاني إحصائي بحت وليس حتمي، حيث قد توجد استثناءات.

إن بناء مثل هذا الجهاز “الغرفتين” مع التحكم الكامل في مرور الجزيئات أمر مستحيل فيزيائياً. وبالتالي فإن استهلاك طاقة الشيطان في فرز الجزيئات يتطلب من الشيطان أن يتفاعل معها، مما يزيد من الإنتروبيا الخاصة بها ويلغي التأثير المطلوب. ويفشل شيطان ماكسويل لعدة أسباب في دحض القانون الثاني للديناميكا الحرارية، منها توليد الحرارة التي تعيق القياسات الدقيقة لحركة الجزيئات، والحركة البراونية أو العشوائية للجزيئات.

شيطان لوشميت

يتميز شيطان لوشميت عن شيطان ماكسويل وشيطان لابلاس بأنه لا يكتفي بالمشاهدة والسماح بالمرور، بل يتدخل ليعيد النظام إلى الكون. من الطبيعي أن نشاهد الطفل يصبح عجوزًا بمرور الزمن، ولكن يستحيل على البشر أن يشاهدوا العجوز يعود طفلًا. وكمثال أبسط يمكننا مشاهدة التفاحة تتعفن مع مرور الوقت، ولكن لا يمكننا مشاهدة تفاحة متعفنة تتحول إلى سليمة، أي أن الطبيعي تحول الأشياء من حالة النظام إلى العشوائية وليس العكس.

هنالك العديد من تلك الأمثلة التي أثارت فضول العالم يوهان لوشميت. ولذلك صنع شيطانه ليتمكن من تصور ما لا يمكن للبشر تصوره. فبافتراض أن كل جزيء مصيره هو العودة لما كان عليه، فسيتطلب ذلك بعضًا من الوقت، ولكن لا يمكننا نحن كبشر توقع ذلك الوقت أو البقاء على قيد الحياة حتى تلك اللحظة بعكس شيطان لوشميت.

يمكن لشيطان لوشميت أن يقوم بعكس الجسيمات ليعيدها لصورتها الأولية، ولكن ليس بالضرورة أن تعود بنفس الشكل السابق. من الناحية النظرية يمكن أن يتم العكس، ولكن بسبب الطاقة المهولة المطلوبة لتلك العملية ومبدأ استهلاك الطاقة الخاضع له جسيمات الكون، فهنالك العديد من القيود العلمية لمثل تلك الفرضية.

ليس بالضرورة أن تكون جميع الشياطين شريرة بطيبيعة الحال، فشياطين العلم ليست كذلك، بل على العكس تمامًا. ساهمت شياطين العلم في بسط الأفق للعلماء والفلاسفة ليتمكنوا من التحليق بعيدًا بفرضياتهم ويصلوا لكل ما هو مستحيل عمليًا. ولربما تتحقق تلك الفرضيات يومًا ما بأجهزة وتطبيقات عملية تساعد العالم ليصبح أفضل مما هو عليه الآن، فهل نجحت تلك الشياطين في الواقع أم أنها لا تزال فرضيات وقوانين مجردة؟

المصدر:

1- The Demons of Science

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


علم

User Avatar

Yasmin Awad

طبيبة أسنان وصانعة محتوى


عدد مقالات الكاتب : 33
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق