محتويات المقال :
قبل الحديث عن نظريات اكتساب اللغة، لا بد أولاً من إعطاء فكرة عن هذه العملية وخواصها. يُعرّف اكتساب اللغة على أنه التطور التدريجي للمقدرة اللغوية لدى المتحدث. ويختلف اكتساب اللغة عن تعلمها بالنسبة للطريقة التي تتم من خلالها كل من هاتين العمليتين. وعند الحديث عن كيفية إتقان البشر للغتهم الأم منذ الصغر، فنحن نتحدث عن عملية اكتساب لا تتم بطريقة واعية ومخطط لها. بل تقوم على التأثر بالمحيط والتقاط اللغة من الناطقين بها مباشرة. وعليه تختلف عمليتا تعلم اللغة واكتسابها من ناحية طبيعة الخطوات التي تمران بها ومدى إدراك الفرد متعلم اللغة لما يحدث أو تحكمه به.
يعد اكتساب اللغة من أبرز المحاور التي يجري البحث فيها ضمن علم اللغويات (linguistics). ولكن دراسته لا تقتصر على هذا العلم فحسب، إذ يمثل أيضاً أحد المواضيع المهمة في علم النفس (psychology). فينصب التركيز هناك على دراسة العمليات النفسية التي تمكّن البشر من إتقان اللغة واستخدامها. وعلى وجه الدقة، يسمى هذا القسم من علم النفس بعلم النفس اللغوي (psycholinguistics)، كما يطلق عليه أيضاً اسم علم اللغة النفسي. تنظر الأبحاث التي تجري تحت مظلة هذا العلم في تطور الحديث واللغة، وكيف يحدث فهم اللغة وإصدارها لدى الأفراد من مختلف الأعمار. ويعد اكتساب اللغة الأم، أي في مرحلة الطفولة، من أهم المحاور التي قامت حولها الكثير من النظريات والفرضيات [1].
يفسر الباحثون عملية اكتساب اللغة لدى الأطفال بطرق مختلفة. وتتباين الأفكار المتعلقة بطبيعة المقدرة اللغوية لدى البشر، وبالعمر الأمثل لاكتساب اللغة. فيذهب البعض إلى أن اللغة أمر فطري يولد مع البشر ويتطور مع التقدم بالعمر. في حين يرفض آخرون هذا، ويعتبرون أن البيئة المحيطة هي العامل الأساسي في اكتساب البشر للغة. كما توجد فرضية تتعلق بالفترة العمرية التي ينجح فيها الأطفال بتطوير المقدرة اللغوية، وتسمى فرضية الفترة الحرجة (critical period hypothesis). باختصار، تقترح هذه الفرضية وجود فترة حرجة من عمر الإنسان يستطيع خلالها أن يتعلم لغةً معينةً ويتقنها كلغةٍ أمّ. تبدأ هذه المرحلة عند السنتين من العمر تقريباً، وتنتهي مع سن البلوغ. وبحسب هذه الفرضية، يصبح اكتساب اللغة أصعب بعد تجاوز هذه المرحلة، وتقل فرص النجاح، وهذا ما يفسر صعوبة تعلم اللغة لدى البالغين [2] [3].
يمكن توضيح الاختلاف في أفكار الباحثين حول تفسير عملية اكتساب اللغة عن طريق حالة طفلة أمريكية أطلق عليها اسم “جيني – Genie”. وقد كانت هذه الحالة – على غرابتها وقسوتها – موضوعاً مهماً في علوم اللغويات والنفس بشكل أساسي. في عام 1970، دخلت الطفلة جيني ذات 13 عاماً إلى أحد مشافي ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بعد أن أنقذتها إحدى هيئات الخدمة الاجتماعية من والدها الذي كان يسيء معاملتها. فقد أمضت معظم حياتها مقيدة على كرسي في غرفة صغيرة مقفلة. ولم يكن مسموحاً لها بأن ترى أو تتواصل مع أي أحد، ما عدا والدتها التي كانت تدخل إلى غرفتها لبضع دقائق لا أكثر. بالنتيجة، وكما هو متوقع، لم يكن باستطاعة جيني استخدام اللغة عندما أُخرجت من عزلتها تلك. ولكن خلال فترة زمنية قصيرة، أصبح بإمكانها التجاوب مع حديث الآخرين وتقليد الأصوات والتواصل [4].
وقد كان لحالة جيني أثر كبير على دراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال. فمن جهة، كانت لديها القدرة على تطوير الكلام واستخدام اللغة بعد تجاوزها عمر 13 عاماً. ولكن من جهة أخرى، كانت هذه القدرة بسيطةً، ولم تصل إلى مرحلة استخدام صيغٍ كلاميةٍ معقدةٍ قواعدياً. وهذا ما أثار تساؤل علماء النفس واللغويين على حد سواء، حيث أخذوا من حالة جيني وحرمانها فرصة لدراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كانت تعيش في بيئة لم يكن من المسموح فيه استخدام اللغة. ذلك الأمر حفز الجدال الأساسي، هل اللغة أمرٌ فطري أم أنها ناتجة عن التنشئة؟ هل نكتسب اللغة لأنها تولد معنا أو أنها تتطور لدينا بسبب وجودها في البيئة المحيطة بنا؟ كما أن حالة جيني كانت تدعم فرضية الفترة الحرجة لتعلم اللغة لدى الأطفال، وخاصة أنها لم تصل إلى مرحلة إتقان اللغة كلغة أم، حتى بعد إنقاذها والنجاح الخجول لمحاولات تعليمها الكلام والتواصل اللغوي [2].
إذاً، توجد العديد من النظريات التي تحاول تفسير طريقة اكتساب اللغة لدى الأطفال. منها ما يؤيد فكرة أن اللغة أمر فطري لدى البشر، تكون موجودة أصلاً، ثم تتطور. في حين تذهب نظريات أخرى إلى أن اللغة تنتج من المحيط وتتطور ضمنه. ولكن من الجدير بالذكر أن هذه النظريات ليست محض نظريات متناقضة، تحل إحداها محل الأخرى. بل تهدف كل نظرية منها إلى إغناء الفهم الكلي لفكرة اكتساب اللغة، ولكن عن طريق التأكيد على أحد الجوانب دوناً عن غيره في هذه العملية المعقدة. سنستعرض بعضاً من هذه النظريات بشكل عام، على أن يتم التوسع بكلٍ منها لاحقاً [5].
تعد النظرية السلوكية (Behavioural Theory) من أوائل نظريات اكتساب اللغة. ويعد عالم النفس الأمريكي “سكينر – Skinner” من أعلام السلوكية، وأحد أبرز الباحثين الذين يعزون تطور اللغة إلى تأثير البيئة المحيطة. وفقاً للسلوكية، يولد الأطفال مثل صفحة فارغة، دون أن يكون لديهم قدرة فطرية على تعلم اللغة. لكنهم يعتمدون في ذلك على التكيف مع البيئة المحيطة [6].
وفي تفسيره لاكتساب اللغة، يقترح سكينر أن الطفل يحاول تقليد والديه أو مقدمي الرعاية. وعندما ينجح بإصدار كلمات صحيحة، يقوم الكبار بتقديم الثناء أو المديح. وهذا ما يعزز محاولات الطفل الناجحة لإصدار اللغة الصحيحة، في حين ينسى المحاولات غير الناجحة التي لا يتم ترسيخها من المحيط [5].
من أبرز علماء اللغة الذين بحثوا في عملية الاكتساب وعملوا على تفسيرها هو الأمريكي “تشومسكي – Chomsky”. ويلمع اسم تشومسكي عند الحديث عن النظرية الفطرية (Nativist Theory) التي انتقد من خلالها سكينر والنظرية السلوكية. حيث يرى أن الأطفال لا يحصلون على مدخلات لغوية صحيحة بالقدر الكافي الذي يمكنهم من اكتساب اللغة السليمة. حيث أن الكبار من حولهم لا يستخدمون دائماً لغة صحيحة من ناحية القواعد أو التراكيب. كما أن الطفل لا يسمع إلا عدداً قليلاً من كلمات اللغة [5].
وعليه، تذهب النظرية الفطرية إلى أن الأطفال يولدون ولديهم مَلَكةٌ فطرية لاكتساب اللغة، الذي يحدث وفق عملية محددة بيولوجياً. يرى تشومسكي أن الدماغ تطور لدى الجنس البشري، وأصبحت داراته العصبية تحتوي على معلومات لغوية منذ الولادة. وتتحفز هذه القدرة الطبيعية على اكتساب اللغة عن طريق سماع الحديث الذي يستطيع عقل الطفل تفسيره نتيجة ما يحتويه أصلاً من قواعد وتراكيب. وهذا ما يطلق عليه في علم اللغة اسم “أداة اكتساب اللغة – Language Acquisition Device” [5].
وضع عالم النفس السويسري “بياجيه – Piaget” اكتساب اللغة في إطار التطور العقلي أو المعرفي لدى الطفل، ويعد هذا من أهم مبادئ النظرية المعرفية أو الإدراكية (Cognitive Theory). حيث رأى أنه يجب للطفل أن يدرك المفاهيم التي يسمعها قبل أن يكون باستطاعته اكتساب لغة معينة تعبر عن تلك المفاهيم [5]. ويناقش بياجيه أنه لا يمكن للمعرفة أن تنبثق من مجرد التجربة العملية. بل ينبغي وجود تراكيب أو أنماط عقلية تساعد على فهم العالم. ويرى أن الأطفال يولدون ولديهم تركيب عقلي أساسي تبنى عليه المعرفة. ومع تطور إدراك الأطفال للعالم من حولهم، يصبح بمقدورهم اكتساب اللغة بشكل أكبر. على سبيل المثال، يشرح بياجيه أنه لا يمكن للأطفال استخدام زمن الماضي في حديهم أو إصداراتهم اللغوية ما لم يكونوا قد استوعبوا مفهوم الماضي وأدركوا دلالته [7].
وفقاً للنظرية التفاعلية (Interactionist Theory)، يكمن الهدف من وجود اللغة في التواصل مع الآخرين، ولهذا لا يمكن تعلم اللغة إلا في سياق تفاعلي [5]. يعد عالم النفس الأمريكي “برونر – Bruner” من أبرز الأسماء التي أسهمت في النظرية التفاعلية وأول من ناقشها. حيث اقترح أن لدى الأطفال قدرة فطرية على تعلم اللغة، لكنهم بحاجة إلى تواصل وتفاعل مباشر مع الآخرين لتحقيق الطلاقة اللغوية الكاملة. أي أن مشاهدة التلفاز أو الاستماع للآخرين ليست كافية لاكتساب اللغة، بل لا بد للأطفال أن يتفاعلوا بشكل مباشر مع غيرهم كي يفهموا المواقف المختلفة الذي تستخدم اللغة ضمنها [8].
تحدث اللغوي البريطاني “هاليداي – Halliday” عن سبع وظائف للغة (language functions) وتتدرج هذه الوظائف من ناحية التعقيد الذي يزداد مع تقدم الطفل بالعمر. يشرح هاليداي أنه مع تطور قدرة الأطفال على التعبير عن أنفسهم، تغدو حاجتهم للغة أكبر بصفتها رمزاً ثقافياً يساعدهم على أن يكونوا جزءاً من المجتمع. أي أنها ليست مجرد وسيلة للتواصل وحسب، بل إن تطور اللغة لدى الأطفال يتزامن مع تطور معرفتهم بالعالم من حولهم [9].
بالعودة إلى الطفلة جيني، كانت حالتها مجالاً لاختبار العديد من النظريات. فحتى مع عمرها المتقدم نسبياً، راقب الباحثون المراحل المعروفة لاكتساب اللغة لدى الأطفال. وبعد العمل معها، بدأت جيني تكتسب عدداً كبيراً من المفردات الجديدة. وقد كانت تمر فعلاً بالمراحل الأساسية التي يمر بها الأطفال، من مرحلة إصدار الكلمة الواحدة، إلى مرحلة الكلمتين، ثم الثلاث كلمات. ولكن لم يكن باستطاعتها تطبيق القواعد النحوية بفعالية، أو استخدام اللغة بطلاقة كاملة. وحتى عند تقدمها بالعمر وبلوغها سن الرشد، لم تنجح المحاولات في إكساب جيني “اللغة الأم” التي يمكن لها أن تتواصل عن طريقها. وقد دخلت قضيتها المعقدة تلك غياهب الكتمان نتيجة صعوبة وضعها وما ينطوي عليه من تعقيدات تتجاوز اهتمام علم اللغويات [2].
لكن مع كل الفرضيات والدراسات، يبقى البحث مفتوحاً في مجال علم النفس اللغوي لمحاولة الوصول إلى فهم أوسع لآلية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال.
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…
View Comments