محتويات المقال :
فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس
تثير حول بدايات الفلسفة الكثير من التساؤلات الجوهرية، خاصةً فيما يتعلق بهوية الفلسفة وإشكال الأصول والمصادر الرئيسة. إلا أن الرابط الكائن بين الفلسفة والعلم يعد من أبرز الجوانب التي تحتاج إلى الإحاطة والتحليل؛ فالفلسفة لم تقدم علمًا إنما عاشت لحظات علموية. إحاطتنا بتلك اللحظات من شأنها أن تكون منعطفًا أنطولوجيًا، إذ أن علاقة العلم بالفلسفة لا تنكشف بالتناول التقليدي المألوف. تجربة فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس, إذا ما حررناها من الإطار التاريخي ستساعدنا لأن نقترب من التوتر الموجود بين الفلسفة والعلم. مؤرخو العلم يركزون على تلك العلاقة الحميمة في اللحظات التي تجلى العلم بمفرده في القول الفلسفي. بينما مؤرخو الفلسفة يقدمون الفلسفة بوصفها الكينونة الأم للعلم والمعرفة، يتعاملون مع العلم على أنه الابن الضال للفلسفة. نحاول في هذا المقال أن نبين التواصل الدائم بين مسطحي المحايثة والمرجعي (على حد تعبير دولوز).
حول الفيلسوف الضاحك ديمقريطس
يُعرف عن ديمقريطس بأنه كان يثمن الابتهاج والسعادة في الحياة؛ فسُمي بالفيلسوف الضاحك. حسب بعض المصادر, ولد ديمقريطس في عام 460 ق.م. في أبديرا. بينما تزعم مصادر أخرى بأنه ولد في عام 490 ق.م. في مدينة ملطية-ميليتوس (ونيفري). حسب المصادر الموثوقة، كان قد سافر كثيرًا إلى الشرق، وعاش لفترة طويلة في مصر وبلاد الفارس قبل أن يعود إلى أبديرا. ولنعرف أكثر عن سيرته الفلسفية لا بد أن نشير إلى ثلاثة محاور هامة في حياته. (1)
علاقة ديمقريطس مع الموروث
كان يافعًا عندما كان انساغوراس شيخًا، بهذا فهو يعد بمثابة حلقة وصل بين ما يسمى بالفلسفة القبسقراطية والأفلاطونية. فمذهبه الذري فيه الكثير من روح الموروث وفيه ما يكفي من التحديث ليؤثر على الفلاسفة اللاحقين مثل أبيقور.
السفسطائية
إن حركة السفسطائية تعد من الحركات المثيرة للجدل والاعجاب في تاريخ الفلسفة، نظرًا لانتقاداتها اللاذعة بوجه الموروث الإغريقي الروحي والتقليدي الفلسفي. فهي التي أسست للعدمية البدائية والنسبية الأخلاقية على نحو واسع، بحيث تبرز في سياق مختلف تمامًا من السياق الفلسفي الإغريقي. ونظرًا لأنها كانت أكثر شعبية وتأثيرًا في المجتمع الإغريقي فمن المستحيل ألا يكون لهم تأثير بالغ في فلسفة ديمقريطس. اقرأ أيضًا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة
أفلاطون وسقراط
يتبين من معظم المصادر بأنه كان قد عاصر سقراط, علاقته مع سقراط غير واضحة, لكن اهماله من قبل أفلاطون قد يكون نتيجة وجود توتر حاد بينهما. يذكر المؤرخ ديوجين لاتيريوس بأن أفلاطون كان يكرهه كثيرًا ويتمنى ولو تُحرق كل كتبه. من النادر أن نجد أي فيلسوف غفل عنه أفلاطون في محاوراته، لكنه لم يذكر ديمقريطس ولو لمرة واحدة.
فيزياء ديمقريطس
مع أن الفلسفة بدأت من خلال فك ارتباط التفكير بالأسطورة, غير أن التفكير اللاهوتي او المنطق اللاهوتي ظل سائدًا. حتى فلاسفة الصيرورة احتاجوا إلى عنصر ميتافيزيقي وعزوا إليه الأصول، لكن مع ديمقريطس حدثت قفزة نوعية. كانت الصيرورة عند الملطيين وهيراكليطس تبدأ من الاصل الميتافيزيقي نحو ظلال الطبيعة. وهناك فلاسفة وقعوا في أسر اشكال الصيرورة وقالوا بأن التغير يستدعي وجود العدم، والعدم يستحيل أن نقول فيه شيئا أو أن نفكر فيه.
استطاع ديمقريطس أن ينفي ادعاء بارمنيدس من خلال تقديم مفهومين مهمين وهما الذرات والفراغ. الذرات هي اللبنات الأساسية في كل تكوين, بما في ذلك تكوين النفس البشرية, وهذه الذرات تتحرك في الخلاء/الفراغ. كما يقول راسل، فان الطرح الديمقريطي أقرب إلى البحث العلمي, ذلك لأنه اراد أن يفسر العالم دونما حاجة إلى فكرة العلة الغائية أو السببية (2).
إن التفكير الغائي لا يتوقف في ارجاع كل شيء إلى شيء سابق له ومن ثم يطرح الشيء -الله- الذي يغير ولا يتغير. إلا ان ديمقريطس فكر كما يفكر عالم, قال ببساطة أن الأشياء جميعها تتغير لأن الذرات تغير اماكنها.
إن الذرات هذه يستحيل فناؤها، فهي كانت منذ الأزل وستظل إلى الأبد في حركة دائمة، وهناك عدد لا نهائي من الذرات (3). إن الذرات تتصادم وتتنافر وتترابط مع بعضها لتشكيل الأجسام. فوجود أشياء متغيرة ومتباينة ما هو في الأصل إلا اختلاف في الارتباط بين الذرات (4).
في الأخلاق والسعادة عند ديمقريطس
عكس نظريته الفيزيقية, لا تتمتع أخلاقيات ديمقريطس بوجود نسق فلسفي أصيل, فهي على الأغلب ملاحظات عامة حول السعادة. يشير ديمقريطس إلى الحتمية المتأصلة في الطبيعة، فيقول: الضرورة عينت سلفًا كل الأشياء الكائنة والتي تكون والتي ستكون. إذا ما طبقنا فكرته هذه على حقل الأخلاقيات فأننا سنكون أمام معضلة أخلاقية ووجودية كبيرة، فإذا ما كانت سلوكيات الإنسان محكومة بالحتمية فأنه لا يتحمل مسؤولية افعاله. وفقًا للسفسطائية فأن السلوكيات ايضًا جزء من العالم الجاري, لذا فأنها تؤسس لعدمية أخلاقية, لكن ديمقريطس بدلًا من أن يورط نفسه مع العدمية فضل أن يناقض نفسه.
تشكل الصدفة في مبحث الأخلاق أهمية بارزة، وكأنها الفسحة التي يستطيع الإنسان التنفس منها, ويمارس حريته، فهو يقول في الصدفة بأنها تمنح الهبة العظمى للأمل (5). كما هي الحال مع أبيقور فأن ديمقريطس يضفي على الأخلاق صفة القصدية، ذلك لأن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها إنما تهدف إلى بلوغ السعادة.
إن مفهوم السعادة عند ديمقريطس غير واضح تمامًا, يعتقد البعض أن السعادة الديمقريطية هي نفسها السعادة الأبيقورية , بينما يشير آخرون إلى عكس ذلك. فكما يقول المؤرخ ديوجين فأن السعادة ليست هي اللذة ولكنها حالة تحيا فيها النفس بهدوء وأمان غير مزعجة بالخوف والخرافة. يؤكد ديمقريطس في شذرة بأن نفس الشيء خير وحقيقي بالنسبة للجميع لكن اللذة تختلف من فرد لآخر. (6)
ولإحاطة أكبر بمفهوم السعادة لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين: السعادة حالة عقلية معرفية وليست حالة جسدية كما هو الوضع مع الأبيقورية. إن ما يمنح السعادة هو نفسه ما يمنح الجمال فيقول عن ذلك: اللذات العظيمة تشتق من التأمل في الأعمال الجميلة. (7)
فضلًا عن الجانب الجمالي للأخلاق فثمة صفة أخرى ملاصقة بالنظرية الأخلاقية ألا وهي العلم, فأننى نسعى إلى الجميل أي إلى السعادة من خلال التعليم والمعرفة. تأكيدًا على ذلك يقول: الجها بالأحسن هو علة الفعل الخاطئ.
طريق المعرفة عند ديمقريطس
لم يُحسم النقاش حول تحديد النسق المعرفي في فلسفة ديمقريطس, لا يعود السبب إلى نقص المصادر إنما إلى التنوع التأويلي. يصنفه أرسطو كفيلسوف ظاهري, بينما سكستوس يعتبره شكوكيًا في حين يعد فيلسوفًا حسيًا وفقًا لثيوقراسطوس.
يقول ديمقريطس في إحدى شذراته:
“على المرء أن يتعلم بأن وصول الحقيقة مستحيل”.
هذا الطرح يتطابق مع المقترب السفسطائي الأبستومولوجي, كما يؤمن مثل السفسطائيين بالصيرورة المعرفية ومبدأ الاتفاق. يقول في شذرة أخرى “نحن لا نعلم شيئا حقيقيًا عن أي شيء فكل رأي في حالة التغيير”.
ويمكننا أن نجانب أرسطو في تفسيره, فقوله في التغيير لا يعني غياب أي ثابت أو جوهر كما هي حال السفسطائية. إنه لا يقصي الحقيقة بل يعتبرها متوارية في اعماق الشيء/الظاهرة, وظاهر الشيء يقدم بعض المعطيات للعقل بحيث المعرفة من دونها غير ممكنة. فالحواس/التجربة هي بداية المعرفة لكنها ليست كلها, وهذا ما يؤكده كانت ايضًا.
كما يمكن اعتباره فيلسوفًا عقليًا لتأكيده على دور العقل الفاصل في العملية المعرفية, فهو يربط السعادة بالعقل وكذلك المعرفة.
مستويات المعرفة
وفقًا لسكستوس، للمعرفة مستويين عند ديمقريطس:
- المعرفة غير الشرعية: وهي المعرفة التي نحصل عليها من الحواس, فهي غير شرعية لأن الحواس لا تستطيع أن تتعدى صفات الشيء والتي هي في الأساس خبرات حسية ولا وجود لها حقيقة. على سبيل المثال, نقول عن شيء ما بأنه مالح, فالملوحة نفسها غير موجودة في كيان الشيء.
- المعرفة الشرعية: وهي المعرفة التي يقدمها العقل؛ لقدرته على تجاوز ظاهر الشيء إلى باطنه وجوهره.
لا ينكر ديمقريطس دور الحواس كما ذهب بعض الفلاسفة، لكنه لا يتمسك بها ايضًا، فهو يبين التواصل الموجود بين العقل والحواس. ذلك التواصل يؤدي إلى المعرفة، فأن الحواس تكون بمثابة بوابة العقل، فهو يستقبل منها المعطيات الرئيسة لتكوين معرفة صادقة وسليمة.
مكانة ديمقريطس في الفلسفة
ثمة الكثير من الآراء المتباينة حول فلسفة ديمقريطس، يعتقد البعض بأنه قد استلم نظريته من لوقيبوس وهناك من يؤيد أصالته. ما يهم هو أنه قاد حركة علمية أصيلة في الفلسفة اليونان القديمة، فهو الذي رفع الغطاء الميتافيزيقي عن العالم. حتى وإن لم نستطيع أن نقول بأن ديمقريطس هو فيلسوف الذرة الأول فيستحيل إقصاء فلسفته فهي فلسفة رائدة في إيقاظ وتنشيط التفكير العلمي.
قدم ديمقريطس نظرية متماسكة حول بنى الطبيعة، وقدم بعض الحكم والملاحظات الأخلاقية حول السعادة. كما أن نظرية الأبستومولوجيا لديه تمتاز بدقة علمية وفلسفية مميزة. فضلًا عن ذلك اسهاماته في علم الاجتماع وأصل المجتمع والدولة واللغة وأثرت في الأبيقورية وتركت بصمة مهمة في فلسفة ماركس، فقد كان موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه.
المصادر:
- https://www.universetoday.com/60058/democritus-atom/
- برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية, الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية 2010, ص128.
- نفس المصدر, ص127.
- https://plato.stanford.edu/entries/democritus/
- علي سامي النشار, ديمقريطس, الهيئة المصرية, ص106.
- نفس المصدر, ص109.
- نفس المصدر, ص103.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :