...
Ad

تخيل معي أنك تقف الان أمام أقدم ملجئ سكنه البشر الأوائل (العقلاء). كيف يمكن أن تتخيل حياتهم؟ كيف تصرفوا؟ ماذا أكلوا؟ ما هو شكل علاقتهم الاجتماعية؟ سلوكهم سويًا ومع باقي الأنواع الحية، حياتهم الروحية وهل كان لهم واحدة أصلًا؟ في هذا التقرير سنطرح أمامكم كل ما نعرفه ونفترضه عن حياة الإنسان العاقل في مراحلها المبكرة. وسنناقش نشوء سلوكه الاجتماعي في أحد أهم المواقع التي عثر فيها على أقدم الآدلة الآثرية المرتبطة به. وهو كهف بلومبوس في جنوب إفريقيا.

نقف الان على الساحل الجنوبي لقارة إفريقيا، تسمى هذه المنطقة بالسافانا وتعتبر حارة جدًا اليوم لدرجة أنها باتت تشبه الصحاري. لكن الأمر لم يكن كذلك في المئة ألف سنة الماضية، كان مناخها ألطف وأكثر مطرًا وبرودة مما هو عليه اليوم. انتشرت في هذه المنطقة الهضاب والسهول. وكانت تحتوي مئات البحيرات التي لا تزال قيعانها الرملية تظهر على خرائط غوغل كنقاطٍ بيضاء اليوم. وحسب توزع هذه البحيرات وبما أن العديد من الكهوف تظهر في هذه المنطقة قسمها علماء الآثار إلى بقعتين: الأولى وهي منطقة البحيرات والثانية هي منطقة الكهوف والملاجئ الصخرية.(1)

ومباشرة قبالة الشاطئ على سفح التل القريب يقع <<كهف بلومبوس-Blombos cave>>. المسافة بين الكهف والبحر صغيرة نسبيًا وغير مناسبة لأعمال الصيد والمعيشة، لكنها لم تكن كذلك قبل الخمسة ألاف سنة الماضية. فقد كان مستوى مياه البحر أكثر انخفاضًا بنسبة 50 الى 100 متر مما هو عليه اليوم. ولكن عند بحلول سنة 5000 قبل الميلاد بدأت معدلات الحرارة بالإرتفاع عالميًا فارتفع معها مستوى المياه ووصل إلى ما هو عليه اليوم. إذا فقد كان أمام الكهف مساحات شاسعة للصيد وأعمال الحياة اليومية للبشر الأوائل.(1)

كهف بلومبوس
By Vincent Mourre / Inrap – Own work, CC BY-SA 3.0,

ماذا أكل البشر الأوائل؟

إن ما يميز كهف بلومبوس هو أنه سكن من فترات العصر الحجري القديم والوسيط. وهي فترة ممتدة من 125 ألف الى 75 ألف قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة تغيرت أنواع الطرائد التي اصطادها البشر. فبين سنة 125 و 82 ألف قبل الميلاد. اعتاد البشر على أكل الحيوانات صغيرة الحجم إجمالًا كالأسماك <<والوبريات-Hyraxes>> وهي حيوانات بحجم الأرانب بالإضافة لحيوان <<الخلد الشحمي- dune mole>> وحيوانات الماشية الصغيرة. ومع تقدم الفترات الزمنية وازدياد قدرات الإنسان ومعرفته تمكن من اصطياد الحيوانات الأكبر. فحوالي سنة 75 الف قبل اليوم كان قد تمكن من اصطياد أنواع الماشية الكبيرة وأكلها.

في الغالب فإن عملية الصيد هذه لم تكن تعتمد فقط على جودة وفعالية الأسلحة وأدوات الصيد. بل على معرفة الإنسان لفسيولوجيا هذه الحيوانات التي أراد صيدها. وفهمه أن أحجامها الكبيرة تعطيها سرعة أكبر لكنها بعد بضع ساعات ستحتاج للتوقف عندما ترتفع حرارة اجسادها وإلا ستموت. لذلك كان يتم اختيار أسرع الرجال لهذه المهمة وبعد 3 إلى 4 ساعات من مطاردة الحيوان كان يقع ميتًا. ويتحول لوجبة لذيذة على العشاء.(2)(3)

ماذا صنع البشر الأوائل؟

في الحقيقة، إن دراستنا للأسلحة والأدوات التي صنعها البشر الأوائل إن كان في جنوب إفريقيا أو في أي مكان أخر من العالم. لا تساعدنا فقط على فهم أنواع الحيوانات التي اصطادوها. بل على تحديد مستوى التطور الفكري للإنسان ومدى تطور سلوكه الاجتماعي.

نحن لسنا مجرد مفترسين صانعين للأدوات وصناعة الأدوات لا تعتمد فقط على تقنية التصنيع. فالبشر الأوائل كانوا بحاجة لمعرفة أنواع الصخور التي يجب استخدمها وأين يمكن أن توجد هذه الأنواع. بالإضافة لطريقة استخراجها ومن ثم تقنية ضربها لتتحول لسلاح قاتل. ومع ذلك كان يوجد حاجة لمعرفة المسافات وطرق التنقل. فليس من السهل نقل الصخور دائمًا لتصنع في المساكن وفي بعض الأحيان كان من الأسهل صنعها قرب مكان استخراجها.(4)

وبعد ذلك حافظ الإنسان على هذه التنقية ونقلها من جيل لجيل فهي لم تكن مكتوبة في كتاب بل كان الأب يعلمها لابنه ويدله على طريق الصخور المناسبة.

بعض الأدوات التي وجدت في الكهف
By Katja Douze Sarah Wurz Christopher Stuart Henshilwood CC BY 4.0,

المغرة

الصيد والطعام ليسا الجانب الوحيد في حياة الإنسان العاقل. في كهف بلومبوس أيضًا عثر على <<صخرة المغرة-Ochre>>. وهي نوع من الصخور الهشة التي لا تصلح ليصنع منها سلاحًا، بل كان استخدامها مختلف كليًا عن هذا.

لا يمكن أن نعرف بالتحديد ما الذي كانت تعنيه المغرة لسكان كهف بلومبوس الأوائل. لكن بعض القبائل الإفريقية اليوم التي ما زالت تعيش حياة بدائية تخبرنا عن معنى المغرة بالنسبة لها. إنها تعني الدماء عند بعضهم نظرًا للونها الأحمر والخصوبة إذا ربطنها بدماء الدورة الشهرية عند النساء. في ؛<ناميبيا-Namibia>> في إفريقيا ما زالت عدة قبائل تستخدم المغرة. والنساء هي المسؤولة عن استخراجها وتصنيعها. تقوم بعد ذلك بمزجها مع الدهون والاعشاب المطيبة ثم تدهن الجسد بها فيصبح كأن لونهن أحمر. وللأسف إذا اخذنا مثلًا أقرب سنجد أن السكان الأصليين لأميركا أيضا كانوا يطلون أنفسهم باللون الأحمر. قبل الحرب أو الطقوس الدينية والجنائزية وهذا ما سبب تسميتهم بالهنود الحمر.(5)

لكن لنفهم معظم أبعاد استخدام هذا النوع من الصخور عند البشر الأوائل، لا بد من ذكر سكان جزيرة <<أندامان-Andaman>> شرقي الهند وهو يعتبرون من أقدم البشر الذين ما يزالون يعيشون حياة بدائية هي الأقرب لأسلافنا الأوائل. فعند هذا الشعب لاستخدام المغرة معنى أخر بعيد جدًا عن اللون الأحمر وهو مرتبط بشكل كبير بالرائحة.

إن الفرد من هذه المجموعة، وهذا التعبير خطأ فهم لا يعترفون بالانا كفرد بل إن الفرد منهم هو كل أسلافه مجتمعين بشخصه. كان يجب عليه أن يطلي جسده بالمغرة لكي تتمكن أرواح أسلافه، الغير مادية،من التعرف عليه بعد وفاته عن طريق رائحته المميزة. بشكل أو بأخر بالنسبة لهم فإن مسألة عبادة الأسلاف هذه كانت تستحق كل هذه الطقوس. فالأسلاف بنظرهم كانوا قادرين على مساعدتهم بالصيد والشؤون الحياة اليومية وليتمكن الفرد منهم من الاجتماع مع اسلافه كان لزامًا عليه أن يستعمل المغرة.

إقرأ أيضًا: تاريخ الإنسان العاقل، كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

أول الرموز الفنية

البشر الأوائل، صخرة المغرة
صخرة المغرة المحفورة برموز إكس
By https://originalrockart.wordpress.com/ – https://originalrockart.wordpress.com/, CC BY-SA 4.0,

ان جميع ما تحدثنا عنه في هذا التقرير هو فرضيات مبنية على أدلة أثرية مستخرجة من كهف بلمبوس. وقد عثر في الكهف أيضا على صخرة حفر عليها رموز إكس “X” متشابكة وهو أمر غريب جدًا. ويعتبر بداية للشيء لم يكن معروف سابقًا على الأرض وهو الفن.(5)

بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا فإيجاد تفسير لهذه الصخرة كان أمرًا صعبًا، لكن الأقرب إلى الواقع كان فرضية أنها تمثل إرث العائلة. كان يتم الاحتفاظ بها داخل العائلة الواحدة وتسلم من جيل إلى جيل كمفتاح سحري يربط العائلة ببعضها. أما إذا ضاعت فكانت تحل الكوارث عليهم.

لقد وجد في الكهف أيضًا رمز أخر لا يقل أهمية عن هذه الصخرة وهو عقد من الصدف. بالطبع قد اختفى الخيط منه لكن لا تزال علامات الحفر في وسط الأصداف ظاهرة. ومن الواضح أن مادة لامعة قد وضعت داخل هذه الأصداف. ومن الشائع قديمًاأإن كل ما يلمع يعتبر بوابة بين عالم الأحياء وعالم الروح. لكن لا نعلم اليوم بالضبط من كان يرتدي هذا العقد. ولو أن أغلب أغلب أنه يعود لرجل وهو رمزٌ لسلطته على أفراد جماعته.(6)

الرقص

يعد الرقص للبشر الأوائل من أهم طرق التواصل الاجتماعي وليس مجرد طقوس للتسلية. وكانت بعض الرقصات تدوم لأسابيع وشهور. الغرض من الرقص هو لقاء الشبان بالفتيات والزواج، وخصوصا إن كان يتم بين عدة جماعات مختلفة. ومن الأمور التي كان للرقص دور فيها هو تبادل الأغراض. فالجماعة التي تملك الكثير من الأسماك كانت تلتقي خلال طقوس الرقص مع جماعة تملك الصخور وهكذا يتم التبادل مثلًا.

اذًا كان الرقص وغيره العديد من العادات الاجتماعية المرتبطة بالبشر الأوائل تشكل جزئًا كبيرًا من حياتهم اليومية. أكثر من 60% من يومهم قضوه بالرقص وممارسة العادة الفنية المتعلقة بالأجداد كالرسم الرمزي على جدران الكهوف. والذي وجدنا منه الألاف في شتى انحاء العالم اليوم وهو رسم للطبيعة والحيوانات كنوع من الطقوس السحرية ربما كانت تتم لجلب الحيوانات أو للمساعدة على الصيد.

بشكل أو بأخر من غير العادل أن نطلق على البشر الأوائل صفة الصيادين الجامعين فقط لكون جزء من حياتهم اليومية تتعلق بالصيد. واذا أردنا ذلك لا يجب أن ننزعج إذا ما أطلق علينا بشر المستقبل صفة رواد المتاجر أو المتسوقين. فقط لأننا نزور المتاجر لنتسوق حاجاتنا اليومية منها.

المصادر

  1. Climate, Environment and Early Human Innovation: Stable Isotope and Faunal Proxy Evidence from Archaeological Sites (98-59ka) in the Southern Cape, South Africa
  2. Blombos Cave, Southern Cape, South Africa: Preliminary Report on the 1992–1999 Excavations of the Middle Stone Age Levels
  3. Identifying the Collector: Evidence for Human Processing of the Cape Dune Mole-Rat,Bathyergus suillus, from Blombos Cave, Southern Cape, South Africa
  4. Early Use of Pressure Flaking on Lithic Artifacts at Blombos Cave, South Africa
  5. Engraved ochres from the Middle Stone Age levels at Blombos Cave, South Africa
  6. Nassarius kraussianus shell beads from Blombos Cave: evidence for symbolic behaviour in the Middle Stone Age
اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Yanal Mokdad
Author: Yanal Mokdad

أحب القراءة والتعلم المستمر، أكتب عن العلوم وأحاول تبسيطها للقراء، لدي إهتمام خاص بأشكال الحياة على الأرض وكيف نشأت وتطورت، أجيد التصميم الغرافيكي وأتعلم البرمجة ذاتيًا.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


آثار

User Avatar

Yanal Mokdad

أحب القراءة والتعلم المستمر، أكتب عن العلوم وأحاول تبسيطها للقراء، لدي إهتمام خاص بأشكال الحياة على الأرض وكيف نشأت وتطورت، أجيد التصميم الغرافيكي وأتعلم البرمجة ذاتيًا.


عدد مقالات الكاتب : 21
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.