Ad
هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق عرضنا نبذة عن الفوائد الصحية للتعرض للطبيعة، وكيف أدت تلك الأبحاث لنشوء مبادئ البايوفيليا أو “حب الطبيعة” في التصميم والتخطيط المعماريين، والتي تسعى لإدماج الطبيعة في نسيج المدن بهدف رفع جودة المعيشة أو المحافظة على البيئة أو توفير متنفس للسكان.

في هذا المقال نستعرض التأثير المعاكس لعلاقة البيئة بالعمران هذه، أي كيف تأثرت العمارة والتخطيط العمراني، من جهة المعرفة العمرانية وتقنيات البناء، بالتفكير البيئي والمحب للطبيعة، والتي أدت في أحدث محطاتها إلى نشوء العمارة الحيوية «Bionic Architecture» ومبادئ التصميم البيئي «Biophilic Design».

المدن الحدائقية – Garden Cities

قد تكون أولى محطات التصميم الحيوي أو البيئي للمدن الحديثة هي  المدينة الحدائقية، والتي ابتكرها الانجليزي «إبينيزر هوارد» عام 1898. وهي نموذج عمراني يدمج بين البيئة الحضرية -في شكل نواة مدنية- والبيئة الخضراء -في شكل محيط ريفيّ-  في محاولة لخلق توازن بين النموذجين وتلافي قصورات كليهما.

كانت المدينة الحدائقية حلًا لمشاكل التلوث والتكدس التي كانت تعانيها المدن الأوروبية في تلك الفترة، ولذلك لاقت رواجًا كبيرًا وتم إنشاء عدة بلدات بالفعل حسب هذا النموذج، إذ كانت تهدف في حال وصولها ذروة طاقتها الاستيعابية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي.

إلا أنه المدينة الحدائقية كانت تعاني من قصورات خاصة بها هي أيضًا، مثل قلة المساحات المتاحة للبناء والتوسع. ولكنها لا تزال تلقى بعض الرواج، مثلًا في بريطانيا حيث قررت الحكومة عام 2017 إنشاء عدة بلدات حدائقية حول البلاد.

نموذج المدينة الحدائقية كما اقترحها إبينيزر هوارد [ويكيبيديا]

التخطيط العمراني الأخضر – Green Urbanism

ظلت المدن الحديثة غالبًا غير مهتمة بالجانب الأخضر والبيئي فيها وبآثارها البيئية حتى ستينات القرن الماضي. ففي الولايات المتحدة كمثال كان التوسع الحضري نحو الأرياف المحيطة بالمدن سمة بارزة في خطط التوسع العمراني حينئذ. ولكن مع اضطرابات الستينات الاجتماعية والسياسية وظهور الوعي بأزمة المناخ بدأت الحركات المهتمة بالبيئة بالظهور والانتشار.

وبدأت الحكومات حول العالم بسن القوانين والأكواد لمحاولة تلافي أضرار المدينة على البيئة وجعل المدن أكثر استدامة، كما حدث في قمة الأرض للأمم المتحدة عام 1992. بعد هذا المؤتمر بدأت مصطلحات كالتخطيط العمراني المستدام والتنمية المستدامة في الانتشار.

يسمى التخطيط العمراني الأخضر أيضًا بالتخطيط العمراني المستدام، وبالتخطيط العمراني البيئي.  وقد تكون كوبنهاجن من أكثر مدن العالم تطبيقًا لمبادئ التخطيط المستدام هذه. ما يدعو للإعجاب في إدارة كوبنهاجن لتوسعاتها العمرانية  هي سبقها الزمني للكثير من النماذج المستدامة.

مثل مخطط “الأصابع الخمسة” الذي طورته المدينة عام 1947 والذي كان يهدف لتنظيم التوسع العمراني لمدينة كوبنهاغن والحفاظ على المسطحات الخضراء المحيطة بالمدينة، وتطوير خطوط مواصلات عامة فعالة تربط وسط المدينة (كف اليد) بالتوسعات الجديدة (الأصابع). ستكون لنا عودة في المقالات التالية للقواعد التي اتبعتها كوبنهاجن في خلق مدن أكثر إنسانية ورفاهية من جوانب أخرى.

مخطط “الأصابع الخمسة” لمدينة كوبنهاغن

العمران العضويّ -Organic Urbanism

كان المعماري الأمريكي «فرانك لويد رايت» أول من صاغ مفهوم «العمارة العضوية» وعرّفها بأنها المعمار المتوافق مع الطبيعة.  ومع مرور الوقت أخذ مفهوم العضوية يأخذ مساحةً أكبر واهتمامًا أكثر في مجال العمران والهندسة. فبينما تتمثل العضوية في المعمار كثيرًا باستعمال أشكال وتصاميم وهياكل مشابهة لتلك التي في الطبيعة، نجد أنها مهدت الطريق للكثير من التقنيات الهندسية والمفاهيم الإنشائية الأوسع.

ففي مجال التخطيط العمراني نشأ مفهوم «المدينة العضوية» والذي يرى المدينة باعتبارها كائنًا حيًا، لا ينمو عن طريق إضافة الأجزاء له عن عمد ولكن عن طريق إعادة ترتيب وظائفه ومهامه حين يصل إلى حدود طاقته الاستيعابية وإمكانياته.

لا تمتلك المدينة العضوية مركزًا حيويًا واحدًا، بل هي تتكون من عدة مراكز مكتفية بذاتها ولكنها متصلة ببعضها وتعتمد على بعضها.  وبالمثل، فالنموذج العضويّ في التنمية العمرانية يستند على جعل كل مرحلة من إنشاء أو تنمية المدن قادرةً على القيام بذاتها، عوضًا عن جعلها جزءًا من كلٍ ينتظر الاكتمال لتبدأ بالعمل.

لذا فهذا النموذج يعتبر معياريًا، أي مكونًا من أجزاء معيارية متشابهة قائمة بذاتها كما هو الحال في عمليات حيوية كثيرة. وتعتبر العمارة العضوية مقدمة للعمارة الحيوية والتصميم الحيوي.

يعتبر مركز قطر الوطني للمؤتمرات نموذجًا للعمارة العضوية إذ يأخذ شكل فروع الأشجار، إضافةً إلى تقييماته البيئية المرتفعة.
[David Michael via Flickr Creative Commons]

العمارة البيئية –  Arcology

نشأ مفهوم العمارة البيئية مع المعماري «باولو سوليري» -وهي دمج لكلمتي عمارة وبيئة الانجليزيتين-. تسعى العمارة البيئية لخلق قواعد ومعايير هندسية لتصميم مناطق شديدة الكثافة السكانية وذات أثر بيئي منخفض.

على الرغم من كون معظم المشاريع النابعة من هذا التصور لم تظهر أو تبن على أرض الواقع، إلا أن مفهوم العمارة البيئية مثّل نقلة في التفكير المعماري -الغربي بالمقام الأول- إذ انتقل من السعي للسيطرة على الطبيعة إلى التعايش معها. ويمكننا اعتبار العمارة البيئية حلقة وصل بين التخطيط العمراني والتصميم المعماري البيئيين.

يُعد المعماري والمهندس والمخترع الأمريكي «باكمنستر فولر» (أو «باكي» كما كان يحب أن ينادى) من أبرز المنظّرين لفكرة العمارة البيئية. وحيث أنه كان من رواد نظرية النظم فقد كان من رواد مفهوم الاستدامة ورؤيتها على عدة مستويات بشكل متداخل.

على الرغم من أن أفكار «فولر» لم تنتج أي إنجاز كبير في مجال الاستدامة، فيرجع الكثير من الفضل إليه في إشاعة مفهوم الاستدامة واعتبار العالم الحديث ومدنِه جزءًا من بيئة أوسع يعتمد عليها للبقاء.

التصميم البيئي – Biophilic Design

التصميم البيئي هو مفهوم يعني العمل على تصميم البيئة الحضرية والعمرانية بشكلٍ أكثر ارتباطًا بالطبيعة وأكثر ارتباطًا بطبيعة البشر النفسية تجاه بيئاتهم ومحيطهم.

انبثق هذا التوجه من أبحاث وأفكار علماء النفس والأحياء التطوريين، بعد إدراك أن المكوّن الجيني والنفسي الذي نتعامل ونتجاوب به مع العالم والبيئة المحيطة أقدم بكثير من البيئات الحضرية التي أنشأها البشر في العشرة آلاف عامًا الماضية.

كان عالم الأحياء «إدوارد ويلسون» أول من صكّ مفهوم حب الطبيعة «Biophilia» وعرّفها بأنها الميل للظروف البيئية التي ساهمت في بقائنا -من منظورٍ تطوريّ-. 

عرضنا في المقال السابق أمثلة لتطبيقات هذا المفهوم في التخطيط العمراني والتصميم المعماري. بعض الكتابات الحديثة في هذا المجال تحاول توظيف نظريات حيوية لتفسير السلوك البشري في البيئة الحضرية؛ مثل تفضيل الناس للسير بجانب الجدران عوضًا عن الابتعاد عنها. وسيكون لنا عودة لهذا المجال في مقال لاحق.

العمارة الحيوية – Bionic Architecture

العمارة الحيوية هي توجه مشابه لمفهوم العمارة العضوية، وهي توجهٌ يدرس النظم والعمليات الحيوية في الطبيعة ويحاول محاكاتها في العمارة والهندسة عن طريق التصميم الحيوي، بهدف الوصول إلى إنشاءات أكثر توفيرًا وأكثر فعالية وأقل تأثيرًا على البيئة.

تأثرت العديد من أفكار ونظريات وتقنيات هذا المجال أيضًا بالنظريات البيولوجية والمحاكات الحاسوبية الحيوية وبتقنيات البايوتكنولوجي. من أبرز أمثلة هذا النمط من التصميم هو مشروع عدن في بريطانيا.

مشروع عدن [ويكيبيديا]

إحدى تطبيقات هذا النوع من الهندسة الحيوية هو «المحاكاة الحيوية – Biomimicry» حيث يحاول المهندسون والمعماريون والعلماء فهم الوسائل التي تعمل بها الطبيعة والكائنات الحية بكفاءة لمحاكاتها بهدف تطوير  تصميمات ومواد وتقنيات أكثر استدامة وأكثر فاعلية. أكثر تطبيقات هذا المفهوم شهرة هو محاكاة الهياكل الطبيعية لصنع هياكل أكثر متانة للأبنية.

لكن يشتهر أيضًا تطوير مواد محاكية لتلك التي في الطبيعة أو مواد أكثر نفعًا بيئيًا، مثل مادة الـETFE التي يشتهر استعمالها لخفة وزنها وكفاءتها في العزل الحراري. كما بدأت تظهر للواقع تقنيات ومواد أكثر غرابة، مثل استعمال الطحالب (لتوليد الحرارة، أو للعزل الحراري، أو غيرها).

كان مبنى BIQ House في هامبورغ بألمانيا أول مبنى يوظف هذه التقنية. من رواد المحاكاة الحيوية اليوم المعماري البريطاني مايكل بولين، مؤسس مبادرة «يعلن المعماريون».

وهكذا كما ترى، فليست المدينة وحدها التي تؤثر على الطبيعة سواءً بالسلب أو الإيجاب، بل حتى الطبيعة تؤثر على تخطيط المدن والتفكير العمراني، وتظل العمارة الحيوية شاهدة على انبهار البشر بالعالم من حولهم عوضًا عن سيطرتهم عليه.

[1] Scandinavia Standard [2]
للمزيد من الأمثلة عن العمارة العضوية: Omrania [3]
لأمثلة أكثر عن تطبيقات المحاكاة الحيوية: re-thinking the future و dezeen

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


بيئة عمارة

User Avatar

زياد حسنين

كاتب ومعماري، مهتم بالدين والفكر والتاريخ وأشياء كثيرة أخرى.


عدد مقالات الكاتب : 14
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق