Ad

لا بد أن اللحظات الأخيرة للسفينة كانت مرعبة. ربما غرقت بعد اصطدامها بشيء مغمور في الماء، أو أنها غرقت بسبب عاصفة قوية أو ربما يكون طاقمها قد أغرقها عن عمد ليتجنب سقوطها بيد القراصنة. لا يمكن الجزم في سبب غرقها، لكن علماء الأثار قد انتشلوا حمولتها، وعلموا أن السفينة كانت مبحرة من منطقة شرق المتوسط إلى منطقة إيجة حاملة معها الدليل الأكبر على العولمة والسبب الأساسي لانهيار الحضارات القديمة. لكن، كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

عام 1982 وأثناء قيام غطاس تركي شاب من صائدي الإسفنج البحري بأولى غطاساته قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا وفي منطقة 《أولوبورون – Uluburun》 تحديدًا، يكتشف عن طريق الصدفة ما يدعوه بقطع البسكويت المعدنية. أدرك قائده مباشرةً أن الشاب كان جائعًا وأنها ليست قطع بسكويت بل سبائك جلد الثور النحاسية التي تعود للعصر البرونزي الحديث. لم يكتشف الشاب مجرد سبائك نحاسية بل حطام سفينة قد غرقت سنة 1200 ق.م. في عصر بدأت فيه العولمة وكانت سببًا في انهيار حضاراته.(1)

استلم عالم الأثار البحرية 《جورج باس- George Bass》 مهمة التنقيب عن السفينة. وأثناء تنقيبه اكتشف زجاجًا خامًا وجرار تخزين مملوءة بالشعير والتوابل وربما الخمر. أما أثمن ما في الحمولة فهوا حوالي طن من القصدير الخام وعشرة أطنان من النحاس الخام الذين كانوا سيمزجون معا لتشكيل معدن البرونز الرائع.(1)

رسم تخيلي لسفينة أولوبورون
رسم تخيلي لسفينة أولوبورون (مواقع التواصل )

 في الواقع إن اكتشاف باس مدهش. ولكن قيمته حقًا لم تكن في هذه الحمولة الهائلة، بل بأنه أزاح الستار عن عصر أممي تربطه طرق تجارية وعلاقات دبلوماسية واسعة. كان هذا العصر يعتمد على معدن البرونز كما النفط في يومنا هذا.

علاقات دولية

كان عصر البرونز الحديث (1550-1200) عصر أممي بامتياز. قامت فيه امبراطوريات عظيمة سيطرت على العالم القديم وارتبطت ببعضها عبر التجارة والحروب والعلاقات الدبلوماسية. بحيث كان يمكن لشخص من مصر مثلا أن يقوم برحلة إلى اليونان للتسوق مارًا بجزيرة كريت ثم إلى مدن البر اليوناني ثم يعود إلى مصر. (2)

لم تكن سفينة أولوبورون الدليل الأول أو الوحيد على أممية هذا العصر. بل إن عالم الأثار نفسه قد اكتشف سفينة أخرى كانت قد غرقت قبلها بمئة سنة. ولم تكن هذه السفن سوى واحدة من مئات السفن التي كانت تجوب المتوسط عبر طرق بحرية أساسية كانت تربط العالم القديم ببعضه.

العولمة القديمة

وفي قصة مثيرة تعود لبداية هذا العصر حوالي عام 1477 ق.م. في مدينة بيرو نيفر في دلتا النيل والتي تعرف حاليًا بتل الضبعة. يأمر الفرعون المصري تحتمس الثالث ببناء قصر كبير له، بزخارف ورسومات جصية مذهلة لم يكن لها مثيل في مصر.

استأجر الفرعون لهذه المهمة حرفيون من جزيرة كريت البعيدة، والتي تقع في أقصى الغرب في الجانب الأخر من الأبيض المتوسط. رسم هؤلاء الحرفيون صورًا لم يراها أحد في مصر قبلًا، مشاهد غريبة لرجال يثبون فوق ثيران. وكانوا يستعملون الطلاء فوق الجص قبل أن يجف بحيث يمتص الألوان ويصبح جزئًا من الجدار نفسه. وهذا ما يسمى بأسلوب الفريسكو.

كانت هذه المشاهد والتقنية المستخدمة في الرسم المستوحاة من جزيرة كريت، موجودة أيضًا في مناطق كنعانية ساحلية وفي تركيا وقطنة في سوريا. (2) وتشكل هذه الرسوم مثالًا أخر على العولمة التي تعود لأكثر من 3400 سنة من يومنا هذا.

إن العلاقات بين جزيرة كريت والشرق الأدنى كانت أقدم من ذلك. فعلى جزيرة كريت نفسها عُثر عى العديد من الأغراض المصرية والكنعانية وأغراض تعود لبلاد الرافدين.  وكما تقول مؤرخة الفن هيلين كانتور لا تشكل الأدلة التي حفظها لنا مرور الزمن سوى نسبة ضئيلة مما لا بد وأنه كان موجودا يوما ما. كل وعاء استورد يمثل عشرات من الأوعية الأخرى التي اندثرت.

ربما ينبغي أن نفهم أن التجارة بين منطقة إيجة ومصر والشرق الأدنى كانت أكبر بكثير مما نظنه اليوم.

أرشيفات ملكية

عام 1887 ميلاديًا وفيما كانت امرأة قروية من مصر تبحث عن بعض الأخشاب للتدفئة في منطقة تل العمارنة. عثرت على واحد من أهم الأرشيفات التي دونت العلاقات الدبلوماسية والتجارية في العالم القديم. عثرت على أرشيف تل العمارنة.

بنى هذا الأرشيف الفرعون المصري أمنحتب الثالث خلال القرن الرابع عشر ق.م. واحتفظ فيه بجميع المراسلات الدبلوماسية والتجارية التي كانت تجري بين مصر ودول البحر المتوسط. مات أمنحتب الثالث وخلفه ابنه أخناتون أو كما نعرفه اليوم بفرعون النبي يوسف الذي قام بثورة التوحيد في مصر. ربما تخلى أخناتون عن كل موروث والده الديني وأغلق معابد أمون. لكنه فهم أهمية الحفاظ على العلاقات الدولية فاحتفظ بهذا الأرشيف وأضاف عليه.

كان أرشيف تل العمارنة كنزًا دفينًا يعج بالرسائل بين ملوك وحكام مناطق الشرق الأدنى. كان موضوع هذه الرسائل في العادة طلبًا للمساعدة من حكام مناطق تابعة لمصر. لكن رسائل القوى الكبرى كانت على مستوى دبلوماسي أعلى بكثير. (2)

نرشح لك: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

عقوبات تجارية

قصة أخرى مثيرة للاهتمام، عثر المنقبون في مختلف المناطق الحيثية (تركيا حاليًا) على العديد من الأغراض والبضائع من مختلف البلدان في الشرق الأدنى. وأيضا عثروا على بضائع حيثية في جميع تلك البلدان. لكن الاستثناء الوحيد كان في منطقة اليونان فلم يتم إيجاد أي أغراض حيثية في البر الرئيسي لليونان خلال العصر البرونزي الحديث. وكذلك في الأراضي الحيثية لم يجد العلماء أي دلائل على استيراد أي أغراض من المملكة المسينية التي حكمت اليونان خلال الألفية الثانية. (2)

قد يكون الأمر أن أي من الطرفين لم ينتج اغراضًا احتاجها الأخر أو أن الأغراض المتبادلة كانت عرضة للتلف. لكن الأثرين قد عثروا على معاهدة دبلوماسية حيثية تنص عل حظر اقتصادي متعمد على الميسينيين ويبدوا أنه من المرجح أننا نطالع هنا أحد اقدم الأمثلة على ما ندعوه اليوم بالعقوبات اقتصادية.

ربما الدافع لإنشاء هذا الحظر هو قيام الميسينيين بدعم أنشطة معادية للحيثيين في غرب الاناضول. أو ربما هذا الحظر كان نتيجة لاتفاقية معادية للحيثيين وقعت بين مصر وميسينيا أثناء عصر الفرعون أمنتحتب الثالث. خلاصة القول يبدوا أن التجارة والدبلوماسية منذ 3500 عام مضت لم تكن تختلف اختلًافا كبيرًا عن ما يمارس في عالمنا المعولم اليوم من إجراءات حظر اقتصادي  وبعثات دبلوماسية وغيرها.

لقد كان العصر البرونزي الحديث عصرًا ذهبيًا في التاريخ لكن لكل شي نهاية ونهاية هذا العصر كانت مأساوية.

نهاية عصر

انهار العالم في نهاية عصر البرونز الحديث وانهارت معه الحضارة ورغم الكارثة التي أحلها هذا الانهيار إلا أنه لم يحدث فجأة ولا بسبب كارثة نووية بل حدث على مرحلة زمنية طويلة وبسبب عدة أزمات. سنة 1177 ليست السنة التي حدث فيها الانهيار بل السنة التي بدأ فيها كل شيء.  (2)

تشير أخر الأبحاث الأثرية والأدلة النصية المستخرجة من مدينة أوغاريت (رأس شمرا حاليًا على الساحل السوري) أن العلاقات والصلات الدولية بقيت قائمة حتى أخر لحظة من الانهيار، تدمرت أوغاريت نهائيا بين سنة 1190-1192 ق.م. ويورد المنقبون في تقاريرهم أدلة على دمار ونيران في سائر أنحاء المدينة. مع وجود العديد من رؤوس السهام منتشرة في أطلال المدينة. وهذا ما يدل على أن التدمير الذي حصل للمدينة هو نتيجة غزو خارجي.

في ذات الفترة تقريبا دمر عدد من المدن والبلدات في جنوب سوريا وكنعان، المشكلة أنه لم يتمكن العلماء لحد الأن من تحديد سبب الدمار أو هوية الفاعل.

خريطة المواقع  المدمرة في نهاية عصر البرونز
خريطة المواقع المدمرة في نهاية عصر البرونز (مواقع التواصل )

فاعل مجهول

كان سائدًا ولفترة طويلة أن شعوب البحر هي المسؤولة عن الدمار الحاصل في نهاية عصر البرونز في كل المدن. وأن هذه الشعوب قد غزت معظم العالم القديم، ففي هذه الفترة في القرن الثاني عشر تعرضت معظم المدن للدمار مما كان يعزز هذه الفرضية. وذلك يعود بطريقة أو بأخرى للنص الذي كتبه رمسيس الثالث والذي ذكرناه في المقال الأول.

هذا النص يتحدث عن تدمير هذه الشعوب لعواصم الدول الكبرى لكن الأدلة الأثرية اليوم ربما تشير إلى غير ذلك.

يتحدث الكتاب المقدس ومصادر أخرى عن خمس مدن في جنوب كنعان احتلتها شعوب البحر وهي عسقلان وأشدود وعقرون وجت وغزة. التنقيبات الأثرية في مدينة عقرون وأشدود تشير إلى تدمير كبير في المدينتان يعود لنهاية عصر البرونز الحديث. وقد تم استبدال الثقافة المحلية للمدينتين بثقافة أجنبية (أحواض الاستحمام والمواقد والأدوات الفخارية …) وهذا ما يشير إلى تدفق أشخاص جدد في أعقاب انهيار كنعان وانسحاب القوات المصرية من المنطقة.

الأمر نفسه قد حدث في مدينة عسقلان ربما كانت شعوب البحر مسؤولة فعليًا عن دمار هذه المدن لكن ماذا عن باقي الممالك الكبرى؟

حروب محلية

في بلاد الرافدين وجد علماء الأثار أدلة تدمير في مواقع متعددة تشمل بابل، لكن من الواضح الأن أن المتسبب في ذلك كان قوى أخرى غير شعوب البحر فالجيش العيلامي الذي زحف من جنوب غرب إيران كان متسببًا في جزء من هذا الدمار.

وفي الأناضول (تركيا حاليًا) وفي نفس الفترة، نرى تدمير للعديد من المدن الكبرى منها حاتوسا عاصمة الحيثيين التي أظهرت الدراسات الأثرية تدمير القصر والمعبد فيها بنيران كبيرة. لا يمكن الجزم بأن شعوب البحر قد فعلوا ذلك وخصوصًا أن للحيثيين أعداء يسمون بالكاشكا ربما استغلوا فرصة ضعف الإمبراطورية الحيثية وهاجموها.

عمليات التدمير حصلت في ذات الفترة تقريبًا في المملكة الميسينية في اليونان. فمن المتفق عليه بشكل عام أن ميسيناي، عاصمة المملكة الميسينية، وعدة مدن كبيرة أخرى في اليونان قد لحقت بهم عملية التدمير في القرن الثالث والثاني عشر ق.م. ومجددًا لا يمكن تحديد هوية الفاعل لكن هذه المرة ربما كانت الطبيعة مسؤولة عن جزء من هذا الدمار، حيث تظهر بعض الأدلة أن زلزالًا أو سلسلة من الزلازل دمرت ميسيناي ومدن أخرى في اليونان. 

الأم الطبيعة

في الواقع عندما تقرر الطبيعة أن تدمر قطعة منها فيمكنها أن تفعل ذلك بعدة أشكال.

بفضل الأبحاث التي أجراها مؤخرًا علماء الزلازل الأثرية بات من الواضح أن اليونان ومساحة كبيرة من منطقة إيجة وشرق المتوسط كانت قد ضربتها سلسلة من الزلازل بدأت من سنة 1225 ق.م. استمرت طيلة خمسين عامًا يدعوها علماء الأثار اليوم بعاصفة الزلازل وقد ضربت في هذه الفترة الزمنية ميسيناي والعديد من المدن الميسينية الأخرى. ويمكن رؤية ضرر الزلازل في مواقع عديدة أخرى تشمل طروادة في تركيا حاليًا وحاتوسا في الأناضول وأوغاريت ومجدو وعكا وأشدود في المشرق. (3)

تغير مناخي

يعتقد بعض الباحثين اليوم أن المشكلة ليست فقط في الزلازل فالطبيعة تحمل في جعبتها الكثير. نشر فريق دولي من الباحثين يضم 《ديفيد كينوسكي – David Kaniewski》 بحثًا يتضمن عدة أدلة علمية على التغير المناخي والجفاف في إقليم البحر المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر ق.م.

اعتمد الباحثون على بيانات استمدوها من تل تويني في شمال سوريا. وعبر دراسة حبوب لقاح مأخوذة من رواسب طمي بالقرب من الموقع استنتجوا وجود فترة جفاف شديدة في المنطقة (4). استمرت هذه الفترة ما يقارب 300 عام وتسببت في تلف المحاصيل ونقص الغذاء والمجاعة مما سرع الأزمات وفرض نزوحًا بشريًا إقليميًا في شرق المتوسط وغرب آسيا.

لاحقًا نشر براندون دريك من جامعة نيو مكسيكو عدة أدلة اضافية من مناطق في فلسطين وغرب اليونان، تشير إلى حصول جفاف في هذه المناطق وفي ذات الفترة تقريبا.. (2)

أحجار الدومينو

من شأن الجفاف والزلازل أن تحدث أزمات داخل الدول، وربما تؤدي إلى الهجرة. لكن هذه الكوارث قد حصلت في عصور سابقة ولم تؤدي لانهيار حضاري كامل فما هو السبب إذًا؟

هذه العوامل مجتمعة أسهمت في انهيار ممالك وامبراطوريات العصر البرونزي المتأخر وهذا هو الاحتمال المرجح حاليًا. فانهيار الأنظمة على هذا النحو لا يمكن أن يسببه زلزال أو مجاعة أو حرب لكن اجتماعها معًا يمكن أن يسبب أزمة كبيرة. وفي ظل تعقيد العلاقات بين الامبراطوريات واعتمادها على العولمة والأممية يمكن لكل هذا أن يؤدي إلى ما يسميه العلماء بالتأثير المضاعف حيث تتضخم تأثيرات تلك العوامل وتؤدي إلى الانهيار الكامل. (2)

كان معدن البرونز لذلك العصر كما النفط في يومنا وكانت السفن تعود الى ميسينيا محملة بالمواد الأولية لصناعة هذا المعدن . اعتمد الاقتصاد الميسيني بشكل أساسي على هذا المعدن، ومع انهيار التجارة الدولية لم تعد المواد الخام تصل الي ميسينيا الأمر الذي أدى إلى انهيارها. وكأحجار الدومينو تساقطت الحضارات الواحدة تلوى الأخرى مخلفةً عصورًا مظلمة استمرت لمئات السنين اللاحقة وهكذا تصبح العولمة سببًا للانهيار الحضاري الأكبر على الإطلاق.

لكن ماذا لو أن هذا العالم القديم لم ينهار كيف كان سيبدو عالمنا اليوم؟

نرشح لك: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

المصادر:

  1. PULAK C. The Uluburun shipwreck. The oxford handbook of the Bronze Age Aegean. 2012 :1305-1327.
  2. Cline E. 1177 BC. Princeton University Press; 2015.
  3. Nur A, Cline E. Poseidon’s Horses: Plate Tectonics and Earthquake Storms in the Late Bronze Age Aegean and Eastern Mediterranean. Journal of Archaeological Science [Internet]. 2000;27(1):43-63. Available from here.
  4. Kaniewski D, Van Campo E, Weiss H. Drought is a recurring challenge in the Middle East. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2012;109(10):3862-3867.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


آثار تاريخ غير مصنف

User Avatar

Yanal Mokdad

أحب القراءة والتعلم المستمر، أكتب عن العلوم وأحاول تبسيطها للقراء، لدي إهتمام خاص بأشكال الحياة على الأرض وكيف نشأت وتطورت، أجيد التصميم الغرافيكي وأتعلم البرمجة ذاتيًا.


عدد مقالات الكاتب : 21
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق