Ad

لنتحدث عن جانبٍ متسارع النمو في العالم الآن، وهو العمارة الإنسانية. يمكننا تعريف العمارة الإنسانية بشكلٍ عام بأنها العمارة التي تضع الإنسان في مقدمة أولولياتها في التصميم والتخطيط. تحاول العمارة الإنسانية أن تعالج مشاكل المدينة الحالية مثل لماذا يشعر السكان بالاغتراب في المدن؟ لماذا تكون الكثير من الأماكن العامة قاحلة؟ كيف يمكن تحفيز العلاقات الاجتماعية بين السكان مكانيًا؟ وغيرها من الاسئلة التي ربما شعر كلٌ منا بها من قبل. العمارة الإنسانية – أو أنسنة المدن- هي عملية ونموذج نظري متعدد المجالات والأبعاد، المعمارية والنفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ونستعرض هنا نبذة تاريخية عن أبرز وجوه هذه الحراك، من مفكرين ومعماريين ومخططين على حدٍ سواء.

الجانب الإنساني للمدن

صورة المدينة: كيفن لينش

بالنسبة للنظريات والنماذج المعمارية والحضرية السائدة في القرن العشرين، فإن كتاب “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» كان بمثابة انقلاب نظري. حيث كان العالم الغربي يسير في اتجاه توحيد وترشيد المدن «Standardization» عن طريق تقسيمها لنطاقات محددة والمحافظة على الوحدة البصرية في الأحياء، بالإضافة إلى التمدد في الضواحي «Suburbanization». جاء «لينش» لينتقد هذه السياسات والنظريات، باعتبار أن المدن والأحياء تصنع صورًا ذهنية لدى من يسكنونها ويستعملونها. المدن إذن تحتاج إلى إشارات وعلامات معينة لتُمكّن ساكنيها من التجول فيها ومعرفة مواقعهم والارتباط بالأماكن المختلفة.

حدد لينش 5 عوامل تساهم في خلق هذه التصورات الذهنية للمدن، وهي

  • الممرات: أي الشوارع والطرق والأرصفة التي تنظم المرور والحركة.
  • الحواف: أي الحدود بين المناطق ذات الاستعمالات المختلفة، والتي قد تكون حقيقية أو متخيلة.
  • الأحياء: مناطق ذات استعمالات وخصائص محددة ومعروفة
  • نقاط الالتقاء: أماكن يمكن للفرد الدخول إليها وتوفر له عدة وجهات؛ مثل الميادين أو الصالات
  • العلامات: أي العلامات التي لا يمكن استعمالها، مثل النصب التذكارية أو المباني المميزة والتي يستعملها السكان كعلامة.

حياة المدن: جين جيكوبز 

تعتبر  الصحفية والباحثة العمرانية «جين جيكوبز» من روّاد ما يسمى الآن بالعمران الإنساني، إذ كان كتابها «موت وحياة المدن الامريكية» دراسة فاصلة في تاريخ الدراسات العمرانية. كانت «جيكوبز» مهتمة بمعرفة ما الذي يجعل المدن حية، ولماذا كانت بعض خطط التطوير المعماري التي تبدو ناجحة وفعالة تنتج على النقيض أحياءً ومدنًا ميتة؟ 

كانت دراسة جيكوبز فاصلة في تفرقتها بين الطابع الفوقي للتخطيط العمراني في القرن العشرين، وبين الطبيعة اليومية للحياة والتعاملات البشرية في المدن. بالنسبة لها فقد كان النموذج العمراني السائد حينها لا يلقي بالًا للكيفية التي يمارس بها الناس حياتهم اليومية وكان يوظف منطق الآلة لتحويل المدن وحياة سكانها. أسست جيكوبز بدراساتها هذه نظرة جديدة للمدن، تأخذ بعين الاعتبار حياة سكانها وتعاملاتهم اليومية وتصمم بناءً عليها. عوضًا عن الاكتفاء بالمشاريع العملاقة التي غالبًا ما كانت تصدر من الأعلى، والتي تفترض مسبقًا كيف سيتصرف ساكنوها. 

صكّت جيكوبز عدة  مفاهيم جديدة في العمارة الحديثة، منها «عيون على الشارع – Eyes on the street» (أي جعل الشوارع آمنة بتوفير أنشطة ومساحات للسكان تسمح لهم بمطالعة الشارع والنظر إلى ما يحدث فيه)، والتطوير مختلط الاستخدامات «Mixed use developments» (أي دمج عدة اسخدامات مختلفة في خطط التطوير لإضفاء المزيد من الحيوية لها) والتخطيط من أسفل لأعلى «Bottom-up Planning» (أي بدء التخطيط العمراني من حيوات الناس وحاجاتهم). أثّرت «جين جيكوبز» في العديد من المفكرين والمعماريين والمخططين الذين جاؤوا بعدها والذين سنتعرف على بعضهم هنا. 

عمارة الفقراء: حسن فتحي

يعتبر حسن فتحي من أبرز المعماريين العرب والمصريين عالميًا، ويشتهر أيضًا بلقب “معماري الفقراء”، وذلك لفلسفته المعمارية والهندسية التي كانت ترى الفقراء في مركز عملية الإنشاء والإسكان. كان حسن فتحي يرى أن أهم مشكلات المعمار والإسكان في الدول الفقيرة كمصر تكمن في الفوارق الرهيبة بين القدرات المادية للأهالي وتكاليف البناء، مما يؤدي إلى عدم القدرة على بناء العدد الكافي من المساكن التي يحتاجها أفراد المجتمع، فيحظى بالمساكن من يملكون تكاليفها وتبقى الأغلبية الفقيرة بلا مأوى. وكحلٍ لهذه المشكلة رأي فتحي أن يقوم الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، باستعمال مواد وتقنيات محلية يمكنها أن تفي بالغرض.

فعلى سبيل المثال كان فتحي يرى أن العقبة الاقتصادية الرئيسية في عملية البناء تتمثل في السقف، ومن هنا كان تمسك المهنسين بالمواد المصنعة. وحل هذه المشكلة الفنية عند حسن فتحي كان مستمدًا من التراث المعماري الذي أعطى السقف شكل قبو ذي منحنى سلسلي؛ وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص واقتصرت على جهود الضغط، والتي يتحملها الطوب بكل يسر. كان الحل التقليدي للمشكلة عن طريق الشكل الهندسي للسقف وليس عن طريق استعمال المواد المصنعة الغالية.

نشر فتحي تجربته في تصميم بلدة قرنة بمصر والتي طبق فيها فلسفته المعمارية في كتابه «عمارة الفقراء» عام 1969، ولاقى الكتاب رواجًا حول العالم وقد ترجم إلى أكثر من لغة.

كيف نصمم أماكن أكثر اجتماعية؟

الحياة الاجتماعية للمدن: وليام وايت

تبلورت في الثمانينات والتسعينات دراسات المدن والحضر ودرسها بغرض استيعابها وفهم سلوك البشر فيها؛ فظهرت أعمال مثل دراسات «راي أولدنبرغ» حول “الأماكن الثالثة” – أي الأماكن التي يقضي فيها السكان أوقات فراغهم ويستعملونها للترفيه بعد أماكن السكن وأماكن العمل. إلا أن الجهد النظري والميداني الأكبر في دراسة الحياة الاجتماعية للمدن وفهم كيفية تفاعل البشر فيها يعود للمخطط الأمريكي «ويليام وايت». درس «وايت» وراقب شوارع وساحات مدنٍ أمريكية مثل نيويورك، ودوّن ملاحظاته حول ما يجعل بعض الأماكن العامة والمباني جاذبة للعامة والمشاة بينما يكون البعض الآخر مقفرًا ونشرها في كتابه «الحياة الاجتماعية للأماكن الحضرية الصغيرة». 

عدّد «وايت» عدة عناصر تجذب العامة، منها: تواجد الأشجار، ومنافذ الطعام، والمياة (مثل نافورة أو نهر)، والأهم هو توافر أماكن للجلوس؛ حيث قال وايت -ربما بتهكم- أن “الناس يميلون للجلوس حيث توجد أماكن للجلوس”. توفر كل هذه العوامل البيئة المناسبة لراحة العامة والمشاة ما يجذبهم إلى الأماكن التي تتوافر فيها؛ وحين يتواجد الناس في مكانٍ ما فإنه تلقائيًا يصبح جذابًا للمزيد من الناس. فحسب وايت، فإن “أكثر ما يجذب الناس كما يبدو، هو الناس الآخرون”. ولذلك شدّد على أهمية توفير أماكن مناسبة للأنشطة التي يمكنها “كسر الجليد” بين الناس وجذب اهتمامهم، مثل وجود فرقة موسيقية أو مستعرضي شوارع أو أي نشاط آخر يمكّن الناس من اختلاق الأحاديث، وهو ما سماه بالـ«Triangulation». 

أدت أفكار «وايت» وكتاباته إلى إنشاء «مشروع الأماكن العامة – Project for Public Spaces» في أمريكا، وهو مشروع يسعى لخلق أماكن عامة أكثر حيوية بالتعاون مع السكان، تأخذ في الاعتبار مصالحهم وحاجاتهم ورغباتهم. ويعتبر هذا المشروع نموذجًا من نمط متسارع الانتشار في العالم -وبالأخص في أمريكا وأوروبا- هو العمارة الديمقراطية، والتي تبدأ عملية التصميم والتخطيط من مستوى السكان.

مدن من أجل الناس: يان غيل 

ربما يكون «يان غيل» أبرز المعماريين المهتمين بالعمارة الإنسانية اليوم، أو كما يحب أن يصفه بأنه “المعمار المتناسق مع الحواس البشرية”. يحلل «غيل» الكيفية التي يمشي بها الناس والتي تحدد مدى رؤيتهم، وكيف يختلف مستوى التعامل الاجتماعي بناءً على المسافة بين الأفراد، ويبني على ذلك فرضياته حول التصميم المناسب للأنشطة البشرية المختلفة والمساحات المناسبة لها. ولهذا لا تروق المدن ذات الشوارع الكبيرة والأبراج العالية -والتي تفتقر في الغالب إلى الوفرة البصرية- لـ«يان غيل»، ويرى أنها تساهم في جعل السكان متغرّبين ويشعرون بالوحشة في المدن. ومن هنا كان اسم كتابه الأبرز «مدن من أجل الناس» والتي يشرح فيها رؤيته لتصميم مدن مناسبة للحواس والتعاملات والأنشطة الاجتماعية، أي مدنًا في مستوى النظر، لا مدنًا بحاجة إلى طائرة لكي ترى كيانها. يرى «غيل» أن المدن قديمًا كانت تصمم بأخذ الحواس والمقاييس البشرية في الاعتبار، على عكس المدن الحديثة التي أغفلت هذا الجانب تمامًا.  

تهتم كتابات «غيل» أيضًا بالمساحات الحضرية، أي المناطق المفتوحة وغير المبنية والتي تقع بين المباني، ويرى أن تصميمها والأنشطة التي تدور فيها جزء لا يتجزء من الحياة الحضرية وقيمتها الاجتماعية. كما أنه يرى في السيارة العدو الأول للحياة الاجتماعية في المدن، إذ أنها ترفع مستويات الضوضاء وتحدث الكثير من التلوث وتجعل الشوارع غير آمنة. بالمقابل فإن تسهيل المشي وركوب الدراجات يجعل الشوارع أكثر أمانًا ومن ثم أكثر جذبًا للسكان والأنشطة الاجتماعية.  

العمارة الإنسانية اليوم

بالرغم من أن مفهوم العمارة الإنسانية «Humane Architecture» يظل ضبابيًا إلى حدٍ كبير، إلا أن الأفكار التي استعرضناها تقدم للكثير من المعماريين مبادئ عامة يمكنهم توظيفها في مشاريعهم. وسنستعرض هنا باختصار بعض النماذج التي قد تنضوي تحت مفهوم العمارة الإنسانية.

تحويل العوائق إلى ملاعب – روزانا مونتييل

تعتبر المعمارية المكسيكية «روزانا مونتييل» من أشهر المعماريات بسبب تصميماتها التي تعتبر صديقة للإنسان. فعلى سبيل المثال، قامت مع فريقها بتحويل قنالٍ غير مستعمل يمر عبر حيٍ سكني في مدينة زاكاتيكاس إلى ملعبٍ للأطفال وملتقىً للأهالي، كما أضافت جسرًا يوفر مكانًا مظللًا. أصبح «ملعب فريسنيلو – Fresnillo Playground» مزارًا ترفيهًيا للمدينة، يستعمله الأطفال لللعب والكبار للتمشية بعد زراعة الأشجار حوله.

لـ«مونتييل» أيضًا عدة مشاريع أخرى على هذا النمط، مثل ساحة «كومون يونيتي» في مكسيكو سيتي. والتي استعملت فيها مبدأ تحويل “الرأسي إلى الأفقي”، أي تحويل الأسوار والحوائط التي تفصل الناس وتصنع عوائق امام المشاة إلى أسقف وملاجئ تمكن الناس من التجمع تحتها.

Fresnillo Playground

حارة مَرمالايد، كامبريدج

يعتبر مشروع «حارة مرملايد – Marmalade Lane» في كامبريدج بالمملكة المتحدة نموذجًا لنموذج الإسكان المشترك «co-housing»، حيث يقوم السكان بإدارة شؤون الحي بشكل كامل ويتشاركون في المرافق مثل الغسالات والمخازن والحدائق وصالة عمومية متاحة للسكان كلهم. يوفر هذا النموذج من الإسكان وسيلة لزيادة الترابط بين السكان وزيادة الحس بالانتماء للحي، كما أنه يوفر بيئة مناسبة للاستدامة المجتمعية.

حرص المعماريون المشرفون على المشروع على جعل مساحاته ومسافاته مناسبة للتواصل البشري، كما أنهم وفروا العديد من المساحات “المرنة” مثل نهايات الطرقات التي يمكن تكييفها حسب الرغبة. بالطبع تعتبر الحارة كاملة للمشاة فقط وهذا يسمح للسكان والأطفال باستعمالها بأمان.

Marmalade Lane – © David Butler

بالطبع، هناك أبعاد أكثر من التصميم المجرد أو حتى هندسة الأماكن لتكون أكثر إنسانية؛ فأنسنة المدن لها أبعاد سياسية واقتصادية ومجتمعية. وقد تصاعد الاهتمام بهذه القضايا بشكل خاص بعد جائحة كورونا وبعد التظاهرات المنددة بالعنصرية وحركة “حياة السود مهمة” Black Lives Matter». وبما أن المدن ستكون مستقبل أغلبية البشر على الكوكب في المستقبل القريب فإن هذا النقاش يجب أن يظل محط اهتمام السياسيين والمعماريين والنشطاء على حدٍ سواء.

تعتبر العمارة الإنسانية اليوم جزءًا من الدفع الشعبي تجاه «القابلية للعيش – liveability»؛ وهي رؤية تقدم نفسها كبديل للنمط التقليدي من تصميم المدن وكعلاج لمشاكل المدينة البيئية والاجتماعية والمعيشية، وسيكون لنا وقفة معها في مقالٍ لاحق. يكفينا في هذا السياق القول أن في العموم تعتبر عوامل مثل الأمن وسهولة التنقل والترابط المجتمعي والعدالة العمرانية (مثل توافر المرافق الكافية والوصول لمناطق الترفيه) مؤشرات على أن المدينة “أكثر قابلية للعيش” وعلى أنها أفضل جودة حضريًا، وكلها عوامل يضعها المعماريون المهتمون بالعمارة الإنسانية ضمن أولوياتهم.

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


عمارة

User Avatar

زياد حسنين

كاتب ومعماري، مهتم بالدين والفكر والتاريخ وأشياء كثيرة أخرى.


عدد مقالات الكاتب : 14
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق