- علم النفس البيئي: نبذة تاريخية عن علاقة العمران بالنفس
- مقدمة لعلم النفس البيئي: النظريات والمجالات
- التخطيط العمراني المحب للبيئة: «Biophilia»
- العمارة الحيوية – كيف شكّلت الطبيعة العمران والهندسة؟
- ما هي جودة البيئة الحضرية؟
- ما هو الإجهاد البيئي؟
- البيئات التصالحية: كيف تكون البيئة متنفسًا صحيًا؟
- الإدراك البيئي: كيف ندرك بيئاتنا؟
- لم يدرس المعماريون التعلق المكاني وما أثر التعلق بالأماكن علينا؟
تستقطب المدن الآن أعدادًا كبيرة من الناس الباحثين عن فرص أفضل للعمل والسكن وحتى للمرح. تعتبر جودة البيئة في المدن ذا أهمية لحياة أولئك الناس. وإذا نظرنا إلى الإسهامات العلمية في مجال الدراسات البيئية-البشرية نجد أن البحث في جودة البيئة الحضرية يكوّن صلب البحث في علم النفس البيئي والجزء الأكبر من الدراسات التجريبية والميدانية.
العديد من الظروف البيئية مثل الضوضاء والحرارة والتلوث الجوي والازدحام قد تكن مصادر ازعاج وقلق وتخفض جودة البيئة الحضرية؛ بينما يمكن لعوامل أخرى مثل البنى التحتية والمساحات الخضراء والمؤسسات الصحية والتعليمية رفع من جودتها. جودة البيئة الحضرية «Urban Quality Environment» إذن مفهوم متعدد الأبعاد.
محتويات المقال :
عوامل الإجهاد البيئي
تُعرف العوامل البيئية المؤثرة سلبًا بالضغوطات البيئية. وتؤدي إلى الإجهاد البيئي «Environmental Stress»، تتسبب هذه الضغوطات في نتائج عدة، كالمشاكل الصحية والمشاعر السلبية والسلوكيات غير الاجتماعية.
ترتبط العوامل البيئية المحيطة بالأفراد بكيفية إدراكها، فتصبح تلك العوامل مصدرًا للإجهاد. إذا اعتبرها الفرد نشوزًا في بيئته على سبيل المثال. حيث يقوم الناس بتقييم الظروف المحيطة بهم على مستوى الحطورة والضرورة وإمكانية توقعها وإمكانية التحكم بها. ما يؤثر على شعورهم بالانزعاج منها أو اعتبارها مصدرًا للإجهاد والقلق. فعلى سبيل المثال، إذا اعتبر الفرد مصدرَ ضوضاءٍ ما (مثلًا أعمال صيانة للطريق أو صوت لعب أطفال في مسجد) غيرَ مهم أو خطرًا أو غير ضروري، فسيشعر بمستويات أعلى من الانزعاج والإجهاد بسببه عمّن ينظر إلى مصدر تلك الضوضاء بشكلٍ أكثر إيجابية (باعتبارها ضرورية ومؤقتة على سبيل المثال).
تعتبر مستويات التيقظ «Arousal» والاجهاد «Sensory Overload» أبرز آليات الاستجابة للمؤثرات البيئية السلبية. حسب قانون يركيس-دودسون، فالمستويات شديدة الانخفاض او الارتفاع من التيقظ تؤثر سلبًا على الأداء (بالشعور بالضجر في حالة الانخفاض والقلق في حالة الارتفاع)، بينما يكون الأداء مثيرًا ومثاليًا في مستويات متوسطة ومثلى من التيقظ البدني والعقلي.
في البيئات الحضرية يدفع تواجد عدة ضغوطات بيئية إلى الإجهاد. وحسب نظريات الإجهاد فإن استمرار تواجد الضغوطات يحتاج إلى جهد عقلي متواصل لمواجهة الضغط، ما يؤدي إلى مستويات تيقظ مرتفعة على الدوام. وفي حال استمرار الإجهاد والتوتر لفترات مطولة يتطور الأمر إلى إرهاقٍ عصبي يقلص من القدرات الإدراكية والعقلية. وفي تلك الحالة يحتاج الفرد إلى أواليات للتعامل مع طاقاتهم وقدراتهم المنهكة، عن طريق الاهتمام والتركيز فقط على التعاملات والمعلومات المهمة وتجاهل الباقي.
في حالة الوصول إلى مرحلة الإرهاق العصبي فإن حتى أصغر المعاملات التي تتطلب بعض التركيز والجهد (مثل الحديث مع الجيران أو اللعب مع الأولاد) قد تكون غير محتملة. ولذلك ففي البيئات الحضرية تكثر حاجة الأفراد للانعزال.
المدينة كمتنفسٍ صحي
المدن ليست فقط مصادرَ للضغط والقلق، بل توفر أيضًا العديد من المتنفسات. فعلى سبيل المثال، يمكن لتخطيطٍ صديقٍ للمشاة «Pedestrian-Friendly» أن يحفز من تجارب التمشية للسكان. كما يمكنه أيضًا توفير تجارب يومية محببة للناس، كمشاهد الخضرة والناس ولعب الأطفال وغيرها من الأنشطة الدائرة في الطرق. ناهيك عن أن التصميم الصديق للمشاة يقلّص من تواجد السيارات في المناطق السكنية ما يضفي شعورًا بالأمان لدى السكان. وقد تحدثنا في المقالات السابقة عن فوائد المساحات الخضراء على سكان المدن. ونضيف الآن أن توافر العناية للمسطحات الخضراء والحدائق وصيانتها يخلق المزيد من الفرص للتعاملات الاجتماعية مع الآخرين، ويزيد من الشعور بالأمن والاهتمام أيضًا.
تعتبر بعض المناطق الحضرية أيضًا ملاذًا نفسيًا، أي أنها تساهم في خفض نسبة الضعط والإرهاق الذهني. فعلى سبيل المثال، يمكن لتواجد النباتات والمظاهر الجمالية عامةً أن تخفض معدلات الإرهاق الذهني (ما قد يساهم أيضًا في خفض معدلات العنف الأسري أحيانًا!). كما أن تواجد علامات طبيعية ومدنية متنوعة في المحيط ينعكس إيجابًا على تجربة السكان. فوجود منشأة كمتحفٍ أو دار عبادة على سبيل المثال ذات تصميم متسع ومتناسق (أي تسمح بالتجول والاستكشاف وتحتوي على علامات يسهل العثور عليها) قد يصاحب تأثيرًا صحيًا على الشعور بالضغط والإجهاد.
دراسة وتقييم جودة الحياة في المدن
يعرّف مفهوم الرضا السكنيّ «Residential Satisfaction» بأنه الشعور بالرضا الناتج عن العيش في مكان (منزل، حي، أو بلدة). وقد طُوّر هذا المفهوم ليكون أكثر شمولًا، وبقدرٍ ما أكثر موضوعية، عن طريق شموله للمناحي الذهنية والسلوكية والشعورية لدى السكان.
يمكن تقييم الجانب الذهني للرضا السكني باعتبار الجوانب التي يراها الأفراد متعلقةً بجودة حياتهم بشكلٍ عام. أي الجوانب التي يدركون تأثيرها عليهم سلبًا أو إيجابًا. نعيد التذكير بأن انطباع الفرد عن المؤثرات المحيطة به قد يجعلها أشد توتيرًا. يستعمل المختصون في الدراسات الحضرية عدة مقاييس ومعايير نفسية لقياس هذه الانطباعات، ويحاولون مواءمتها في بيئات ثقافية متعددة.
يقاس الجانب السلوكي بشكلٍ رئيسي باعتبار التنقل السكاني، أي تغيّر سكن الفرد، باعتباره مؤشرًا على عدم الرضا السكني. على سبيل المثال، أشارت دراسة على 12 دولة أوروبية أن التكدس في غرف المنازل والمساكن كان مؤثرًا مباشرًا على التنقل السكاني. وأثرت عوامل أخرى كالأعطال المنزلية والضوضاء ومعدلات الجريمة على التنقل عبر آثارها السلبية على رضا السكان. الجانب الثالث، وهو الجانب الشعوري، سيكون عنوانًا لمقال لاحق حين نبدأ بالحديث حول نطاق الإدراك البيئي.
تقييم جودة المدن معماريًا
قد يكون مناسبًا في سياق الحديث عن مستويات الرضا السكانية وكيفية قياسها التطرق إلى تقييم الأماكن والمناطق الحضرية من وجهة نظر معمارية، وتحديد قيمتها ومدى رضا ساكنيها ومستخدميها عنها. تعتبر دراسة «Beyond Location» البريطانية رائدة في هذا المجال. حاولت هذه الدراسة معرفة ما يجعل مكانًا ما مفضلًا أو مكروهًا، وكيف يؤثر تفضيل الناس أو كرههم لمكان ما على سلوكياتهم نحوه؟ قامت هذه الدراسة بتحليل أكثر من 19000 مكانًا عامًا في 6 مدن بريطانية، باستعمال عدة وسائل لتحليل كمية ضخمة من البيانات. وتعتبر هذه الدراسة أكبر دراسة تجريبية من نوعها في هذا المجال.
أثارت هذه الدراسة العديد من النقاشات حول مستقبل التخطيط العمراني. إذ أشارت إلى أن العديد من مبادئ التخطيط العمراني الجديد «New Urbanism» غير مفضلة. وأن النمط التقليدي في التصميم والتخطيط ليس بذلك السوء. لكن تطرقت الدراسة لما هو أبعد من النمط المعماري، إذ حددت 8 مبادئ ترفع من قيمة مكانٍ ما بالنسبة لساكنيه ومرتاديه، وكانت بعض نتائجها مذهلة بالفعل.
وجدت الدراسة على سبيل المثال أن وفرة الحدائق والمسطحات الخضراء لا يرتبط بالضرورة بارتفاع قيمة المكان. إذ أن طبيعة المساحة الخضراء ومدى صيانتها كانا عاملين مهمين. وجدت الدراسة أيضًا أن السكان يشعرون بالرضا أكثر في الأحياء متعددة الأنشطة (أحياء يتوفر فيها أماكن للسكن والتسوق والترفيه والعمل) عن الأحياء السكنية المحضة (كما هو مشهور في تخطيط الضواحي غربيًا). السكن بالقرب من معلمٍ ما وبالقرب من المنشآت التعليمية كان له أثر كبير في رفع تقييم الأماكن المحيطة وقيمتها.
المصادر:
[1] Urban Environmental Quality, in Environmental Psychology: an introduction; Lina Steg and Judith I. M. De Groot.
[2] Environmental Psychology – University of California, Irvine
[3] Beyond Location
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :