Ad

السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

تعيش الطفيليات على كائنات أخرى تسمى المضيفات، ويعتمد بقائها على انتقالها من مضيف إلى آخر، وعلى الرغم من أنه من الممكن أن يعيش الطفيل على المضيف من دون أن يسبب له ضررًا إلا أنه في كثير من الأحيان يكون مضر، ويصل هذا الضرر إلى قتل المضيف، ولا يقتصر هذا الضرر على أجسام المضيفات فقط بل طورت بعض الطفيليات القدرة على التحكم بدقة في سلوك مضيفاتها بطرق تعزز انتقال جينات الطفيل في الجيل القادم لتضمن استمرار وجوده. على سبيل المثال يصيب طفيل «toxoplasma gondii» الفئران فيستحث جاذبية قوية ومميتة في الفئران للقطط، فتدخل هذه الطفيليات لأجسام القطط بعد تناول الفئران لتكمل هناك دورة حياتها؛ إنه انتحار فعلي للفأر نتيجة تلاعب هذا الطفيل متناهي الصغر في سلوكه!.

في الحقيقة عالم الطفيليات مليء بالكثير من هذه الأمثلة، وفي هذا المقال سنتعرف على العديد منها، وعلى بداية البشرية في فهم كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟، وسنحاول أيضًا معرفة إذا ما كان يمكن للطفيليات أن تتلاعب بسلوك الإنسان أيضًا. [2]

في عام 1982 وضع ريتشارد دوكينز مصطلح النمط الظاهري الممتد لأول مرة، والّذي ينص على أن السلوك الذي نلاحظه في الحيوانات ليس فقط بسبب التعبير عن جيناتهم، ولكن أيضًا بسبب التعبير عن جينات الطفيليات التي تعيش بداخلهم، وفي هذه الحالة التلاعب بسلوك المضيف هو النمط الظاهري الممتد للطفيل. [1]

يتلاعب الطفيل بسلوك المضيف عن طريق التحكم في الجهاز العصبي للمضيف وبالتالي هناك فرع ناشيء من العلوم يعرف بعلم الطفيليات العصبية، ويوفر هذا الفرع إمكانية اكتشاف كيف يمكن للطفيل أن يعدل في شبكة عصبية معينة للمضيف وبالتالي في سلوكيات معينة. توفر مثل هذه التفاعلات بين الطفيليات والمضيفات التي تطورت على مدى ملايين السنين أدوات فريدة يمكن من خلالها تحديد كيف ينظم التعديل العصبي صعودًا أو هبوطًا لسلوكيات معينة. [2]

لماذا أهتم العلماء بدراسة تلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

لقد ولدت قدرة الطفيليات على تغيير سلوك المضيفات مؤخرًا اهتمامًا غير عادي لكل من العلماء وغير العلماء، وكان هذا الاهتمام مدفوعًا جزئيًا بالأمثلة المكتشفة حديثًا والتي كانت غريبة ومثيرة، ولكن هناك أسباب أخرى أيضًا دفعت العلماء لدراسة هذه الظاهرة مثل: فهم دورة حياة الطفيل بشكل أفضل، وحقيقة أن هذا الطفيل يمكن أن يعمل «كمهندس عصبي-neuroengineer» عند سيطرته على سلوك المضيف. [1]

يكون الطفيل قادرًا على السيطرة على الجهاز العصبي المركزي للمضيف، ويتطور بشكل يجعله قادرًا على التحكم في سلوك هذا المضيف، فيمثل تجربة مستقلة في التطور حيث تكون فيها جينات إثنين من الكائنات الحية_الطفيل والمضيف_ تسيطر على نفس الدماغ _دماغ المضيف. سبب آخر للتركيز المتزايد هو تغيير الطفيل لسلوك مضيفه بطريقة تشير إلى اختطاف قدرته على إاتخاذ القرارات، وهذا من شأنه أن يوفر رؤى أساسية في البيولوجيا العصبية للسلوك. على الرغم من أن فهمنا للآليات العصبية للتلاعب الطفيلي لا يزال غير كامل إلا أنه كان هناك تقدمًا كبيرًا على مدى السنوات القليلة الماضية، وكانت معظم الدراسات للحالات التي تتلاعب فيها الطفيليات بالحشرات، و يتراوح تنوع الطفيليات التي يمكنها التلاعب بسلوك الحشرات من الفيروسات إلى الديدان وتشمل أيضًا الحشرات الأخرى. في هذا المقال سننظر للإدراك بمعنى واسع باعتباره قدرة الحشرات على التصرف ليس فقط مثل الإنسان الآلي، ولكن قدرتها على اتخاذ قرارات مستنيرة وسلوك موجه نحو الهدف في بيئة ديناميكية.

تُظهر الأدلة المتراكمة الحديثة أن الحشرات هي أكثر من مجرد إنسان آلي وقادرة على التعبير عن أنماط السلوك العفوي التي تم إنشاؤها داخليًا. على سبيل المثال عندما يطير ذباب الفاكهة في ساحة بيضاء خالية تمامًا من الملامح، فإنها تعبر عن أنماط ذاتية المنشأ من السلوك التلقائي. [2]

ماهي طرق تلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

بشكل عام قام العلماء بتصنيف هذه الطرق إلى ثلاث فئات رئيسية:

1. الطريقة التي تؤثر على تنقل المضيف ومن ثم تؤدي إلى سلوك انتحاري-suicidal behavior .

2. تحفيز ما يسمى بسلوك الحارس الشخصي-bodyguard behavior.

3. الطريقة اللتي تؤثر على دافع المضيف للتحرك-motivation to move.

بالإضافة إلى هذه الطرق الرئيسية هناك طرق أخرى مثل التلاعبات التي تؤثر على المضيف في سياق اجتماعي كون أن بعض أنواع الحشرات اجتماعية وتعيش في مستعمرات، وبالتالي هذا التلاعب يجعل الحشرة عند إصابتها تُظهِر سلوكًا غير اجتماعي. [2]

السلوك الانتحاري-suicidal behavior

تتلاعب بعض الفطريات والديدان الطفيلية بالنظام المِلاحي لمضيفها بأكثر الطرق غرابة، وينتهي هذا التلاعب بانتحار المضيف نتيجة لوضعه في أماكن تهدد حياته مثلما ذكرنا في المثال السابق للtoxoplasma gondii.

يقع النمل أيضًا ضحية لهذا النوع من التلاعب عندما يصاب بطفيل «Dicrocoelium dendriticum». يعيش هذا الطفيل في البداية في النمل من ثم ينتقل لبعض أنواع الثدييات مثل الأبقار إلا أن طريقة انتقاله يدفع النمل ثمنها حياته. عندما يصيب الطفيل النملة فإنه يتحكم بسلوكها بجعل هذه النملة تغادر المستعمرة مساءً وتتحرك صعودًا إلى قمة العشب، وبمجرد وصولها هناك تثبت فكها السفلي على الجزء العلوي من النصل وتبقى في انتظار أن تلتهمها البقرة. إذا نجت النملة أثناء الليل فإنها تعود إلى الأرض في النهار وتتصرف بشكل طبيعي، وعندما يأتي المساء مرة أخرى يتولى الطفيل السيطرة على سلوك النملة مجددًا ويرسلها إلى العشب لمحاولة أخرى حتى تتجول بقرة راعية، وتأكل العشب بالنملة المتواجدة عليه، وهكذا تبدأ دورة جديدة للطفيل عند دخوله لجسم البقرة.

يمكن أن تقع الصراصير والحشرات الأرضية الأخرى ضحية لديدان الشعر، والتي تتطور داخل أجسامها وتؤدي بها إلى الانتحار في الماء مما يتيح خروج الطفيل إلى بيئة مائية مناسبة لتكاثره. [2]

رعاية النسل

على الرغم من أن الحشرات المنفردة لا توفر الرعاية والأمان لنسلها، إلا أن أحد أكثر التلاعبات السلوكية الرائعة للطفيليات هو إجبار العائل _أي الحشرة_ على رعاية نسل الطفيل. يُعرف هذا التلاعب في طفيليات الحشرات، واللذي يتمثل في إجبار العائل على توفير الحماية لنسل الطفيل من الحيوانات المفترسة بتلاعب «الحارس الشخصي-bodyguard behavior». على سبيل المثال تبدو التفاعلات بين اليرقة « Narathura japonica»ونمل ال«Pristomyrmex punctatus» وكأنها علاقة تبادل منفعة_ارتباط بين كائنين من أنواع مختلفة تعود بالنفع على كلاهما_ ولكن بإلقاء نظرة فاحصة فإن اليرقة تزود النمل بمادة مفرزة غنية بالسكر مما يجعل النمل أكثر عدوانية، وعندما يكون أكثر عدوانية تقل احتمالية ابتعاد النمل بعيدًا عن اليرقة مما يقلل من فرص استهداف اليرقة من قبل الحيوانات المفترسة، وكأن النمل يعمل حارس شخصي لهذه اليرقات. [2]

تأثير الطفيليات على مجتمعات المضيفات

يتضمن تنظيم المجتمع للحشرات الرعاية التعاونية وتقسيم العمل بحيث يكون لكل منها مهمة محددة لصالح المجتمع، ولكن يمكن اختراق هذا التنظيم المعقد من قبل الطفيليات الاجتماعية؛ أحد هذه الطفيليات هو (Maculinea rebeli) الذي يحاكي كيمياء سطح النمل (Myrmica schencki) والأصوات التي يستخدمها للتواصل مما يسمح له باختراق مستعمرات النمل دون اكتشافها. يقع النمل أيضًا ضحية الذباب الطفيلي الناري (Pseudacteon tricuspis) اللذي تضرب أنثاه النملة، وتحقن البيضة في جسم نمل ال (Solenopsis invicta). بعد أن تفقس اليرقة في جسم النملة تتحرك إلى رأسها، وتتغذى في الغالب على الدملمف _ما يعادل الدم في الحشرات_ حتى ما قبل التشرنق مباشرة. ثم تلتهم اليرقة محتويات رأس النملة والتي يسقط عليها الرأس عادةً خاليًا من الجسم، ومن ثم تخرج الذبابة البالغة من رأس هذه النملة. على عكس النمل غير المصاب بالطفيليات واللذي يموت داخل العش، فإن تلك التي تتطفل عليها يرقات الذباب تترك العش قبل وقت قصير من قطع رأسها، ومع ذلك عندما يغادر النمل عشه قبل قطع الرأس فإن سلوكه لا يمكن تمييزه عن النمل غير المصاب بالطفيليات. من الواضح أن دماغ المضيف لا يزال سليمًا عندما يغادر النمل المستعمرة حيث يلتهم الطفيل آخر مرة. [2]

كيف تسيطر الطفيليات على المضيفات؟

بالإضافة إلى الرهبة التي نلاحظ بها التلاعبات الطفيلية المذهلة الموصوفة في هذا المقال هناك حاجة لاستقصاء الآليات لمثل هذه التلاعبات السلوكية. على الرغم من أن فهمنا للآليات العصبية للتلاعب بالطفيليات لا يزال في مهده إلا أنه تم إحراز بعض التقدم الكبير، وقد تبين أنه يمكن أن يكون هذا التلاعب عن طريق تغيير الكيمياء العصبية للدماغ عند تواجد الطفيل بداخل المضيف، أو أن يقوم الطفيل بحقن السم مباشرة في دماغ المضيف من دون الدخول لجسده، ويلعب أحيانًا التلاعب في الأساس الجيني للمضيف دورًا هامًا أيضًا. [1]

هل يمكن للطفيليات أن تتلاعب بسلوك الإنسان؟

اقترح بعض العلماء أن العدوى بُطفيل «toxoplasma gondii» يمكن أن تغير السلوك البشري نظرًا لأن الطفيل يصيب الدماغ وبالتالي يُشتبه في أنه يجعل الناس أكثر تهورًا بل إنه مسؤول عن حالات معينة من الفصام، ومع ذلك لا تزال هذه الفرضية مثيرة للجدل إلى حد كبير وستتطلب المزيد من التحقيقات والدراسات. اليوم البشر المعاصرون ليسوا مضيفات وسيطة مناسبة لأن القطط الكبيرة لم تعد تفترسهم ومن ثم يمكن أن تمثل التعديلات السلوكية في البشر تلاعبًا متبقيًا تَطوّر في مضيفات وسيطة مناسبة. تنص فرضية بديلة على أن هذه التغييرات ناتجة عن قدرات التلاعب بالطفيليات التي تطورت عندما كان أسلاف البشر لا يزالون يُفتَرسون من قبل القطط الكبيرة. [2]

خاتمة مصادر السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟:

إن تلاعب الطفيل بسلوك المضيف شيء يدعو للقلق خاصة في حالة إثبات حدوثه لدى الإنسان أيضًا، ولكنه شيء يدعو للتأمل أيضًا فكيف يمكن لكائن متناهي الصغر أن يجعل كائن آخر يتحرك عكس غريزة البقاء لديه ملبيًا رغبات هذا الطفيل، وعلى الرغم من إنجاز العلماء في فهم هذا التلاعب إلا أننا لازلنا في بداية استكشافنا للطفيليات اللتي طورت التلاعب التكيفي لسلوك المضيف كآلية للتنقل في البيئة.

اقرأ أيضًا: الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

مصادر السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟:

  1. cell.com
  2. Frontiers

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أحياء تطور

User Avatar

Sahar mohammed

طالبة طب بشري مهتمة بالعلوم الطبية والبحث العلمي.


عدد مقالات الكاتب : 47
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليق