Ad

أثر تطبيق العزل الاجتماعي في مواجهة الأوبئة ( الأنفلونزا الإسبانية في الولايات المتحدة نموذجًا)

إن فكرة الإبعاد (العزل) الاجتماعي ليست بجديدة، فقد ساعدت هذه الفكرة في إنقاذ الملايين من الضحايا وخاصة إذا تحدثنا عن تأثير وباء الأنفلونزا الإسبانية على الولايات المتحدة الأميريكية، ففي عام 1918م ضرب العالم وباء شديد ومهلك عُرف باسم ” الأنفلونزا الإسبانية”، وكانت الولايات المتحدة من أكثر الدول المتضررة جراء هذا الوباء، فبحلول نهاية الوباء في 1920م تسبب في هلاك ما بين 50 مليون إلى 100 مليون شخص على مستوى العالم، كان نصيب الولايات المتحدة الأميريكية من الضحايا حوالي نصف مليون شخص.

تم اكتشاف أول حالة مصابة بالأنفلونزا الإسبانية في أمريكا في ولاية كنساس في مارس من عام 1918م، ومنذ ذلك الوقت انتشر الوباء في جميع أنحاء البلاد، وفي 17 سبتمبر من نفس العام تم اكتشاف أول حالة في ولاية فيلادلفيا، وفي اليوم التالي قام مسئولي الولاية بإطلاق حملة واسعة لمقاومة السعال والعطس والبصق في الطرق العامة في الولاية في محاولة منهم لوقف انتشار الفيروس القاتل .

وبالرغم من احتمالية إنتشار الوباء في أرجاء المدينة؛ قامت الولاية باستضافة عرضٍ عسكري كبير يخدم المجهود الحربي الأمريكي في بدايات الحرب العالمية الأولى تم تنفيذه لدعم المجهود العسكري، وقد اجتمع له حوالي 200 ألف شخص متجاهلة كل التحذيرات بخصوص انتشار المرض، فزادت حالات الأنفلونزا في المدينة وارتفعت نسبتها، فبعد ثلاثة أيام من العرض كانت جميع مستشفيات فيلادلفيا البالغة آنذاك 31 مستشفى؛ لا يوجد بها سرير واحد فارغ سواء من المصابين بالأنفلونزا أو حتى ممن لقوا حتفهم داخل المستشفيات، وبحلول نهاية الأسبوع كان أكثر من 4500 شخص لقوا حتفهم نتيجة الإصابة بالمرض، حتى قرر المسئولين في 3 أكتوبر إغلاق المدارس والكنائس والمسارح وأماكن التجمعات العامة، وبعد حوالي أسبوعين فقط من اكتشاف أول حالة في الولاية، وصل عدد المصابين إلى حوالي 20 ألف حالة، ولكن كان الوقت متأخرًا ففي نهاية الشهر الأول من انتشار الوباء في فيلادلفيا توفي بها حوالي 10 آلاف شخص واستمر فيروس الأنفلونزا في الانتشار فكان من أكثر الجوائح فتكًا في التاريخ الحديث.

اليوم؛ وفي الوقت الذي يتجه العالم فيه إلى محاولة الحد من انتشار فيروس ( كوفيد 19 ) يدرس العلماء والمؤرخين أسباب تفشي وباء أنفلونزا 1918م بحثًا عن أدلة يتم من خلالها دراسة أكثر الطرق فعالية لوقف انتشار الجائحة العالمية الحالية، وبالرغم من الجهود والكبيرة التي اتخذتها الولايات المتحدة خلال وباء 1918م إلا أن نتيجتها تعتبر درسًا كبيرًا لمحاربة وباء اليوم.

ومع ظهور أول حالة في ولاية سانت لويس التي تقع على بعد 900 ميل فقط من فيلادلفيا، كان الوضع مختلفًا بشكل قاطع، ففي غضون يومين فقط من اكتشاف أول حالة مُصابة بالأنفلونزا قرر مسئولي الولاية الأخيرة تطبيق العديد من إجراءات العزل الاجتماعي في الولاية كان أولها إلغاء موكبها العسكري الخاص بالولاية عكس ما قامت به فيلادلفيا، ثم قام مسئوليها بغلق الولاية على مواطنيها ومنع التجمعات العامة وغلق المدراس والملاعب والمكتبات وقاعات المحاكم والكنائس وجعلت العمل بالتناوب وطبقت الحجر الصحي المنزلي على الناس مما أبطأ من انتشار فيروس الأنفلونزا ولم تتعدى وفيات سانت لويس بنهاية الشهر الأول من ظهور الوباء عن 700 شخص، وبالنظر إلى إحصائيات وباء الأنفلونزا في الولايات المتحدة الأميريكية؛ يتضح أن معدل الوفيات في ولاية سانت لويس كان أقل من نصف معدل الوفيات في فيلادلفيا، فكان عدد الوفيات في سانت لويس 385 شخص لكل 100 ألف نسمة، بينما كان العدد في فيلادلفيا 807 وفاة لكل 100 ألف شخص  وذلك خلال الستة أشهر الأولى فقط من الوباء( وهي أكثر فترات الوباء فتكًا).

” إن التحولات الديموغرافية الدرامية في القرن الماضي جعلت من احتواء الوباء أمرًا أكثر صعوبة “

إن صعود ما يعرف الآن بفكرة العولمة والتحضر ومفهوم المدن الكبرى الأكثر كثافة يجعل من انتشار الوباء عبر قارة واحدة في بضع ساعات أمرًا سهلًا، في حين أن الأدوات المتاحة لمقاومة ذلك الانتشار كما هي تقريبًا منذ القرن الماضي، وحاليًا تعتبر إجراءات الصحة العامة هي خط الدفاع الأول ضد الوباء في غياب لقاح يمكن بواسطته القضاء على الفيروس، وتتمثل إجراءات الصحة العامة في إغلاق المدراس والمحلات التجارية والمطاعم مع وضع قيود على التنقل، وفرض العزل الاجتماعي وحظر التجمعات العامة، وبالطبع ليست كل الشعوب تمتثل لهذه الإجراءات ولكن بالمقارنة بما حدث بوباء الأنفلونزا الإسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ما جعل الشعب الأمريكي يمتثل لتلك الإجراءات هو ما قام به مسئولي الصحة العامة في ولاية سان فرانسيسكو بإطلاق النار على ثلاثة أشخاص رفض أحدهم ارتداء واقي على الوجه.

وفي أيرزونا، عاقبت الشرطة المخالفين بدفع 10 دولارات لمن تم القبض عليهم بدون ارتداء الأدوات الواقية، ولكن في النهاية، إن ما أثمرته كانت تلك الإجراءات الأكثر حدة وأكثر شمولية، فبعد تنفيذ العديد من عمليات الإغلاق والضوابط العامة الصارمة على التجمعات العامة، استجابت ولايات سانت لويس وسان فرانسيسكو وميلووكي وكانساس سيتي بشكل أسرع وأكثر فعالية، تلك السرعة التي كان لها دورًا هامًا في خفض معدلات الوفيات بنسبة من 30% إلى 50% مقارنة بالولايات الأخرى، في الوقت الذي قامت فيه ولاية نيويورك بتطبيق الحجر الإلزامي الصحي مبكرًا جدًا وتقليل ساعات العمل فكانت النتيجة أن الولاية شهدت أقل نسبة معدل للوفيات في منطقة الساحل الشرقي الأميركي.

في عام 2007م، سعت دراستان في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences sought إلى فهم دور تأثير الإستجابة إلى إجراءات العزل الإجتماعي والصحي على انتشار المرض في الولايات المختلفة في العالم الجديد، وبمقارنة معدلات الوفيات والتوقيتات وتدابير الصحة العامة ؛ وجدوا أن معدلات الوفيات كانت أقل بنسبة نحو 50% في المدن التي طبقت تدابير وقائية في وقت مبكر مقابل تلك التي طبقت تلك التدابير في وقت متأخر أو تلك الولايات التي لم تطبقها من الأساس، وكانت أكبر وأكثر تلك التدابير فعالية هي اغلاق المدراس والكنائس والمسارح في وقت واحد بالاضافة إلى حظر التجمعات العامة، فقد سمح ذلك إلى توفير وقت لتطوير لقاح مقاوم للوباء بجانب رفع وتخفيف الضغط عن أنظمة الرعاية الصحية، وتوصلت الدراستان إلى إستنتاج آخر وهو : ” إن إتخاذ التدابير بشكل هادئ وبطئ يمكن أن يكون سببًا في انتكاس الولاية مرة أخرى ” فعلى سبيل المثال؛ سمحت ولاية سانت لويس بتخفيف بعض القيود المفروضة على مواطنيها بعد مرور أقل من شهرين من ظهور الوباء من المدينة مما أدى إلى ظهور موجة ثانية من الإصابات، وفي المدن التي أبقت على تلك الإجراءات دون تخفيف لم تشهد نفس الموجه سواء في الإصابات أو الوفيات.

أما في ولاية مينابوليس أقل الولايات تسجيلًا لعدد وفيات نتيجة وباء الأنفلونزا الإسبانية فقد كان سرعة تطبيق إجراءات العزل الإجتماعي سريعًا جدًا، فبعد اكتشاف أول حالة مصابة بسبب الأنفلونزا في خريف 1918م تحرك المسئولين بسرعة وبقوة أكبر وأكثر مما توقع مسئولو الصحة أنفسهم وقاموا بإغلاق المدينة على أهلها وإغلاق الكنائس والمدراس والمسارح اعتبارًا من منتصف أكتوبر من نفس العام، وبالقرب منها كانت مدينة سانت بول مفتوحة لمواطنيها حتى شهر نوفمبر من العام 1918م بسبب ثقة القادة فيها بالسيطرة على الوباء ولكن بعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلان مينابوليس إغلاق المدينة حذت سانت بول حذوها وقررت إغلاق المدينة بشكل كامل، ورغم أن كلا المدينين قد نجتا من الوباء مقارنة بغيرهما من الولايات إلا أن خسارة الوفيات في مينابوليس كانت أقل بكثير من غيرها من الولايات.

استنتجت الدراستان أن مفتاح التغلب على الوباء في عام 1918م كان تطبيق العزل الإجتماعي، ولازال تطبيق نفس الإجراء له دورًا فعال في مواجهة وباء اليوم وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان، يظل تطبيق العزل الاجتماعي حلًا قائمًا في مواجهة ( فيورس كوفيد19).

وكتب هانسيت أحد المشاركين في الدراستين قائلًا: ” أعتقد أن الدرس الحاسم من تحليل العمل التاريخي لأنفلونزا 1918م هو توقيت تطبيق العزل الاجتماعي ( قبل إصابة 1% من عدد السكان في الولاية )”.

يذكر عالم الأوبئة بجامعة كولومبيا ستيفن موريس من خلال تحليله للبيانات التاريخية للأوبئة :” إن البيانات التاريخية هي كنز لا يقدر بثمن، إذا استخدمناها بشكل أفضل فقد تفيدنا في وقتنا الحالي “، ولذا فقد تساعدنا دروس عام 1918 إذا تم الالتفات إليها جيدًا في مواجهة وباء اليوم.

المصادر:

  1. National Geographic
  2. The NEW York times
  3. CDC
  4. Vox
  5. Quartz

للمزيد تابع مقال: كيف بدت مدن العالم بعد انتشار فيروس كورونا؟

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Omar Bakr
Author: Omar Bakr

أكاديمي مصري، هدفه رؤية التاريخ من أوجه أخرى غير تقليدية ..

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


احصائيات تاريخ صحة

User Avatar

Omar Bakr

أكاديمي مصري، هدفه رؤية التاريخ من أوجه أخرى غير تقليدية ..


عدد مقالات الكاتب : 3
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *